القضاء سمعة وقناعة راسخة بأن القاضى محايد تماما، ولا يرى إلا تطبيق القانون، ولذلك ليس من قبيل المصادفة أن تكون العدالة معصوبة العينين لا ترى سوى مواد القانون وحسن تطبيقه بأقصى قدر من العدالة، والقضاء هى المهنة الوحيدة التى تمنح الحق للقاضى أن يتنحى ويترك نظر القضية لمجرد استشعار الحرج، وكما أن القانون يمنع القاضى من نظر قضية من القضايا لو كان المتهمون أو حتى المحامون لهم علاقة قرابة به، فلا يجب أن يتسرب الشك مجرد الشك فى حيدة ونزاهة القاضى. ولكن القاضى السابق ورئيس الجهاز المركزى المستشار هشام جنينة يصر كل يوم أن يزيد شكوك البعض حول حيدته تجاه بعض الفئات خاصة القضاء، فقد عاد جنينة يتألق بحوارات واتهامات جديدة لأكثر من سبع فئات على رأسها القضاء، والمناسبة بدء سريان قانون الحد الأقصى للأجور وتطبيقه على كل العاملين بالدولة دون استثناء، ولأن الجهاز المركزى للمحاسبات هو الجهة المنوطة للرقابة على جهات الدولة بتطبيق القانون، فقد وجدها المستشار هشام جنينة فرصة ذهبية لاستعادة ما فقده الجهاز أو بالأحرى ما فقده هو من رصيد بعد ثورة 30 يونيو، وربما قبلها، وفى حرصه على استعادة بريق المنصب والشعبية المفقودة وقع المستشار رئيس الجهاز المركزى للمحاسبات فى عدة أخطاء قانونية، وتسرع فى مراقبة تطبيق القانون متجاهلا مواد القانون والطريقة التى رسمها القانون لتنفيذ القواعد القانونية على كبار موظفى الدولة وبعض الفئات المهنية مثل القضاة والبنوك.
1
هرولة للمعركة
بعد الإعلان عن تغيير قانون الحد الأقصى للأجور ليشمل كل العاملين بالدولة.كتبت معترضة على إخضاع القضاة والبنوك العامة لهذا الحد الأقصى المقرر ب42 ألف جنيه شهريا، ولكن ما أن صدر القانون حتى أصبح الالتزام به والاحتكام لقواعدة ومواده أمراً حتمياً لا يقبل المساومة أو المراوغة، وأعتقد أن رئيس الجهاز المركزى للمحاسبات أولى منى ومن أى شخص آخر بتطبيق هذه القاعدة البديهة، ولكن المستشار هشام جنينة وقع فى عدد من الأخطاء من خلال رشة حواراته وتصريحاته حول تطبيق القانون، وبحسب القانون فإن تطبيقه يبدأ على رواتب شهر يوليو الماضى، والتى تصرف فى بداية شهر أغسطس، ولكن أول تصريحات منسوبة للمستشار جنينة كانت قبل بدء سريان القانون، وقبل أن تقوم كل جهة قضائية أو مصرفية أو شركة حكومية بإعداد جداول وكشوف الرواتب بناء على القانون الجديد للحد الأقصى للأجور أو بالأحرى تطبيقا للقانون، وهو ما يفتح باب التساؤلات المشروعة جدا حول الطريقة أو الأسلوب الذى عرف به المستشار هشام جنينة أن هناك سبع جهات على رأسها خمس هيئات قضائية لم تلتزم بالحد الأقصى للأجور.لأن هذه الجهات وعلى رأسها القضاء لم تكن فى ذلك الوقت قد انتهت من إعداد جداول وكشوف رواتب شهر يوليو، وذلك بوصف شهر يوليو هو أول شهر لتطبيق القانون الجديد على الرواتب فى القضاء والبنوك وشركات البترول وشركة مصر للطيران وغيرها من الجهات والهيئات التى شملها تطبيق الحد الأقصى طبقا للتعديلات الجديدة فى القانون، وهذه نقطة محورية لأن القانون لم يصدر به مادة للتطبيق بأثر رجعى ولذلك فإن العبرة فى تنفيذ القانون براتب شهر يوليو، وليس بالرواتب السابقة التى يتقاضها العاملون فى كل جهة، ولذلك فإن ما قاله المستشار من رفض طلباته من قبل الجهات لا يتماشى مع طبيعة الوظيفة الرقابية للجهاز المركزى للمحاسبات، لأن رقابة الجهاز المركزى المالية هى رقابة لاحقة على الصرف، وليست رقابة سابقة على الصرف فى أى جهة حكومية، فالرقابة السابقة على الإنفاق الحكومى هى مسئولية وزارة المالية، والرقابة اللاحقة على الصرف هى مسئولية وواجب الجهاز المركزى للمحاسبات، وهذه القواعد المحاسبية هى قواعد مستقرة فى عمل الجهاز منذ نشأته، ولذلك فإن حديث المستشار عن أن بعض الجهات (تقريبا لم يستثن أحدا) لم تستجب لطلب الجهاز بالتأكد من تطبيق القانون هو حديث على الأقل لا يتواكب مع وظيفة وطبيعة الدور الرقابى للجهاز الذى يرأسه المستشار.
2
مخالفة قانونية
فى أحد حواراته الصحفية ضرب المستشار هشام جنينة مثالا لعدم تطبيق القانون بحالة من القضاء (قضايا التحكيم الذى يصل فيها الأجر لمليون جنيه) ولكن سرعان ما يوازن المستشار علاقته بالقضاء، ويقول إنه لم يقل إن هناك تجاوزاً فى رواتب القضاء.. ويضيف المستشار جنينة: (إنما قلت إننى منعت ولم يمكن الجهاز من فحص ما يتعلق بالأجور)، وللتدليل على خطورة عدم تمكين الجهاز من عمله، ضرب المستشار جنينة مثالا بقاض لم يذكر اسمه وقال: (على سبيل المثال أحد القضاة دون ذكر اسماء منتدب فى وزارة ويتقاضى خلال سنتين 3 ملايين جنيه، حين تقسمها على عامين يعنى راتبه فى الشهر 200 ألف جنيه ولا يخصم منها ضرائب)، وبالطبع هذا مثال مستفز ومرفوض داخل وخارج الجهات القضائية، ولكن فات على المستشار أن يقرأ بعناية قانون الحد الأقصى، وأن يسعى إلى تطبيق مواده لتحقيق العدالة الاجتماعية من ناحية، وتطبيق القانون من ناحية أخرى، فتطبيق الحد الأقصى للأجور يتم بشكل سنوى وليس شهريا وهذه القاعدة ذكرها القانون بمنتهى الوضوح فى مادته الأولى. بل إن الجملة الأخيرة فى المادة الأولى تقول نصا: (وتجرى المحاسبة فى نهاية شهر ديسمبر من كل عام)، وهذه القاعدة منطقية فى تطبيق القانون، فقد يسند لموظف مهمة محددة لشهر أو شهرين ويحصل على مكافأة خاصة على هذه المهمة، وخلال هذه المهمة يزيد الدخل أو أجر الموظف، ثم يعود إلى النقصان بانتهاء المهمة، ولذلك فقد اختار المشرع أن تجرى المحاسبة على أساس سنوى، فيتم جمع كل ما حصل عليه الموظف من أجر ومكافآت وبدلات، وبعد ذلك يتم تقسيمها على 12 شهراً، فإذا زاد الراتب بعد التقسيم على 42 ألف جنيه ترد للدولة الزيادة، ولهذا فإن الحكم على جهة قضائية أو غير قضائية بالتزامها يحتاج قانونا إلى انتظار شهر ديسمبر بعد القادم، وخلال هذه المدة يتابع الجهاز المركزى كل ثلاثة اشهر بتقارير ربع سنوية أو حتى تقارير شهرية تطبيق القانون.
3
شعار «إلا الرئيس»
وتبقى ملاحظة أخيرة، وهى أننى لم أسترح كثيرا لتكرار المستشار جنينة حكاية أن الرئيس هو الوحيد الذى التزم، وأرسل مفردات راتبه، فقد تابعت الجهاز المركزى سنوات طويلة أيام مبارك، وكان الشعار أو بالأحرى نظام العمل أن الرئيس وحده ينفذ القانون والجميع على خطأ أو خطيئة، وإذا كان الرئيس السيسى من باب إعطاء القدوة قد أرسل مفردات راتبه للجهاز المركزى للمحاسبات أو غيره من الجهات فإن هذا التصرف السياسى الراقى لا يمنح الجهاز الحق فى طلب مفردات راتب كل موظف فى الدولة قبل تطبيق القانون.الأمر الآخر أن اتصال الرئيس السيسى بجنينة وطلبه متابعة تطبيق الحد الأقصى، لا تمنح المستشار الحق فى توزيع الاتهامات على القضاة وغيرهم، حتى من قبل سريان القانون، فالرئيس إذا كان اتصل بالمستشار جنينة فالمؤكد أنه طلب منه تنفيذه فى إطار القانون، سعيا لتطبيقه، وليس بهدف رشة حوارات أو توزيع اتهامات.
يا سيادة المستشار نحن نريد منك أن تراقب تنفيذ القانون بروح وعدالة القاضى الجالس على المنصة، لا أن يتحول تنفيذ القانون إلى ساحة لتوزيع الاتهامات وضرب أشرف حصن لمصر.