حرب النوبة لم تندلع الأسبوع الماضى فقط.. الحرب تدق طبولها منذ سنوات بعيدة، ونحن عاجزون عن الكشف عن المجرم الحقيقى، مجرم منح الفقراء سلاحًا ومخدرات وضمن لهم الحماية ليعبثوا بمنطقة آمنة فى جسد وطن منهك.. مجرم أشعل الحرب فى بلاد النوبة، حول الناس الطيبين إلى وحوش يمثلون بالجثث وينشرون الفزع والخوف فى عيوننا قبل عيون أطفالهم، مجرم أغضب الحليم وحوله إلى مصاص دماء، مجرم لم يكن فى حسبانه أن بلاد النوبة استعصت وحدها على الفتح العربى لمصر.. كان أهلها يصطادون الجنود بالنبال التى يقذفون طوبها فى العيون بدقة ومهارة، وبعد تراجع الجنود اعتنقوا الإسلام ونشروه فى إفريقيا التى يعرفون كيف يصلون إليها ويتواصلون معها. رواية أبناء النوبة عن الضابط الكبير الذى يتاجر بالسلاح ويمنح الهلايل حصانة وظهرًا.. رواية لم تخرج من فراغ، نعرف عن أهل النوبة أنهم حسنو النية، ربما لم يرغبوا فى السابق فى تصديق الروايات والشائعات أو الاستجابة للاستفزازات.. وتعرف الحكومة من وزير الداخلية إلى رئيس الوزراء اسم الضابط الكبير الذى يتهمه أهالى النوبة بأنه سبب الفتنة، ونعرف نحن اسمه ورتبته ومنصبه، ونعرف أنه تم نقله إلى ديوان عام الوزارة لتهدئة الأجواء، ولكننا لا نعرف سر تستر الداخلية عليه.
ونحن هنا لا ندين القبيلة الأخرى، فهى قبيلة عددها كبير وامتلكت أعدادا غفيرة من البشر وعتادًا فائضًا عن الحد من السلاح، ورغم ذلك هم أيضا فقراء يبحثون عن لقمة العيش.. أشهر قبائل الرحالة فى المنطقة العربية، يقال إنهم امتداد للسيرة الهلالية التى نتغنى بها فى تراثنا، نحن هنا نبحث عن الجانى الأصلى، مجرم أفلت بمنصبه الرفيع من الحساب، فخضوعه للمحاسبة والكشف عن دوره يورط دوائر أكبر فى نفس الجريمة، قد تطول الاتهامات رئيس الوزراء الذى اعتقد أن حل الأزمة يأتى بزيارة تليفزيونية يجلس خلالها داخل مكتب محافظ أسوان وبجواره شيوخ القبائل وكبار العائلات.. لو فشلنا فى الكشف عن اسم الجانى الحقيقى تاجر المخدرات والسلاح، فعلى الأقل نعرف اسم الفاشل سياسيا الذى لم ينتبه لخطورة اللعب فى البيئات الساكنة الراضية بالفقر والتجاهل.. هو رئيس الوزراء الحالى والسابق والقادم.. هى جريمة أى نظام يقبل أن يحكم ولا يملك أدوات الحكم.. أى حاكم يفقد السيطرة ويسمح لرجاله بالعبث واللهو فى بلاد الآمنين هو مجرم، مهما كان اسمه.
لم ندفع 25 قتيلا فقط فى «حرب النوبة»، فالحرب امتدت ألسنتها إلى كل بلاد الدنيا التى هاجر إليها النوبيون، وهاجر اليها ايضا الهلايل، لا يفرق لدينا اسماء القتلى أو انتماءاتهم، ولكنها تفاصيل سوف تبقى وقودا لحرب لا نعرف نهايتها أو احتمالاتها.
إجابات أهل الغربة من النوبيين عن «ماذا حدث» تكشف عوراتنا نحن هنا، اجابتهم عن اسئلتنا هذه المرة جاءت غير متوقعة، ليس لأنها تكشف تفاصيل وخبايا واتهامات فقط، ولكن لأنها مكتوبة بلغة مبتذلة، لغة الشتامين اللعانين، لغة مستوردة وغريبة على أهالى النوبة، فلم يفقد أهل «الدابودية» وحدهم صبرهم وحلمهم وطيبتهم وسماحتهم، فقد المغتربون أنفسهم لباقتهم وسياستهم فى الكلام.. نتحدث عن بيان أصدره النوبيون المهاجرون فى الرياض، يصفون أعداءهم، جيران الأمس، بأبشع الألفاظ، يروون المسلسل من أوله، ولا يقبلون أن يستمعوا لروايات أخرى، ليست لديهم الطاقة الآن لتحميل قضيتهم أكثر مما تحتمل، يعلنون أن خستنا السياسية تدفعنا للمتاجرة بالقضية على أنها فتنة صنعها الإخوان.. الفتنة صنعها النظام، ويرفض التوبة ويصر على الكذب.
فى بداية هذه الرسالة ألفاظ تخدش الحياء، مكتوبة بلغة المجروحين، ورغم ذلك فهى ليست الأكثر قسوة.. الوجه الحقيقى للعنف الذى أصبح يأكل قلوب أبناء النوبة جاءنا من شاب نوبى هو محمود بدر، وهو شاب بسيط يعمل فى القاهرة، وبعده عن بلاده لم يمنعه من متابعة ما يحدث هناك، كانت عيناه تفيض بالدمع تارة ويضحك ضحكة شريرة تارة أخرى وهو يتابع ما يحدث فى النوبة من خلال أصدقائه هناك، شعر محمود أنه يصنع انتصاره الخاص وهو يتابع الرد القوى من أبناء النوبة على استفزازات «الهلايل».
محمود بدر جمع لنا رسائل أصدقائه.. فيها تفاصيل دقيقة لما حدث، وفيها من الألفاظ مالم يتحمله محمود نفسه، كان يعطينى الرسائل ويرفض اعتبار ألفاظها مسيئة.. فهذه هى الطريقة الوحيدة التى يملك بها مشاركة أهله فى مصابهم، لم يقتنع محمود بنظرتنا الكلاسيكية لأهل النوبة الطيبين الراضين بالقليل المتسامحين..
رسائل أصدقاء محمود حملت عنوان «أسباب وتفاصيل النزاع بين النوبيين ممثلة بقبيلة دابود مع بنى هلال.. أحداث النزاع بالتفصيل»، ومع اسم قبيلة بنى هلال لفظ مسىء يعبر عن العنف فى نفوسهم والذى لم تغسله الدماء حتى الآن.
بعد صلاة الجمعة قام رجال وسيدات من الهلايل بمهاجمة أبناء قرية دابود بالسيل الريفى وقاموا بإطلاق نار عشوائى مما أدى إلى وفاة سيدة حامل وطفلين، مما أثار حفيظة أهل قبيلة دابود خاصة وكل أبناء النوبة بشكل عام، وخاصة أن الشرطة تركت المجال لأبناء الهلايل لوجود ضابط شرطة ينتمى لتلك القبيلة «وسوف يتم القبض عليه عن طريق أبناء النوبة قريباً».
بعدها قامت القرى النوبية بتوجيه نداء لتجميع أكبر عدد من أبناء النوبة حاملين العصى فقط، ولم يحملوا أى سلاح حيث إن ثمن قطعة السلاح الآلى يقدر ب 25.000 ألف ليصل إلى 30.000 فى بعض الأحيان وقاموا بتقسيم أنفسهم إلى 7 مجموعات يكونون على جاهزية إلى أن يتم التواصل مع مدير الأمن لكى يتم ضبط الجناة، لكن للأسف قام أبناء الهلايل بالهروب إلى الجبال شرق منطقة النزاع وقاموا بالتخفى ولم تتعاون الشرطة فى مهاجمة الجبل وتركت الأمر كما هو مما أدى إلى حالة احتقان فى الشارع الأسوانى عامة والنوبى خاصة.
فجر السبت الموافق 5/4/2014 :-
قام شباب دابود وبمعاونه أبناء القرى النوبية الأخرى ببندر أسوان بمهاجمة مناطق سكن الهلايل من أربعة محاور من الشمال مدخل خور عواضة، ومن ناحية الجبل الشرقى ومن ناحية الترعة بالغرب ومن ناحية جنوب السيل الريفى... قام الشباب النوبى باقتحام أوكار الفتنة.
انتهت الرسائل وهى بالطبع تحمل وجهة نظر طرف من أطراف الصراع.. ولا نقر بصحة كل ما جاء فيها، وحذفنا كل الكلمات المسيئة فيها، لكنها رسائل نعتقد أنها يجب أن تصل للجميع الآن.