أول إضراب وأول عصيان مدنى حدثا فى مصر الفرعونية «ما الفارق بين الإضراب والعصيان المدنى؟» واجهت هذا السؤال أكثر من مرة تعليقا على مقال العدد الماضى من «الفجر» حول إضراب أو عصيان 11 فبراير الذى تدعو له القوى الثورية فى مصر. السؤال أسعدنى أكثر من دعوات الإضراب والعصيان نفسها، التى راحت تملأ صفحات الفيس بوك. السؤال هو أول طريق المعرفة، والبحث هو أولى خطوات تحقيق الهدف، وبغض النظر عما إذا كان 11 فبراير سينجح فعلا أم إن القوى المتحالفة ضد الثورة ستجهضه فإن الشباب وقطاعات كبيرة من الشعب المصرى لم تعد تستسلم للأفكار الجاهزة ولا المقولات البالية التى حولت العالم فى نظرنا إلى كتلة هلامية من الجهل المشوب بالخرافات. وبغض النظر عما إذا كنت تنوى المشاركة أم لا، فعليك أولا أن تعرف ماالذى تتحدث عنه. وبالمناسبة أنا شخصيا لم أكن أعرف الفارق بين الاضراب والعصيان ولا التعريف الصحيح لأيهما قبل أسبوعين من الآن. الاضراب هو امتناع عن العمل يقوم به العمال بالأساس، وتضرب فيه الطبقة العاملة، أو الفلاحون أحيانا، اعتراضا على أحوالها الاقتصادية السيئة فى الغالب. ويمكن التعرف على نموذج حى للاضراب العمالى فى فيلم «الاضراب» الذى صنعه المخرج الروسى الكبير سيرجى ايزنشتين عام 1925 وسجل فيه الاضراب الكبير الذى قام به العمال الروس عام 1903 ومهد لثورة 1905 التى سحقها النظام القيصرى قبل أن تولد الثورة مجددا بعد ذلك بسنوات، وهو يشبه إلى حد ما إضراب 6 أبريل الذى سبق ثورة مصر بسنوات وقام نظام مبارك بسحقه بوحشية. ومن شأن الإضراب أن يشل حركة الانتاج فى المصانع أو حركة الطرق أو بعض الخدمات العامة، أما العصيان المدنى فهو أكثر شمولا ويضم فئات اجتماعية أكبر، حيث يتجمع المحتجون بأعداد هائلة ويرفضون الرحيل أو فتح الطريق أو العمل، وغالبا ما يواجهون العنف الذى تمارسه السلطات ضدهم بطريقة سلمية. والعصيان المدنى أكثر استخداما فى مواجهة الاحتلال الأجنبى أو الحكومات العسكرية الشمولية. ولعل أشهر عصيان مدنى ناجح هو العصيان الذى استخدمه غاندى فى الهند من أجل الاستقلال عن بريطانيا، كما استخدمه سود جنوب أفريقيا ضد سياسة الفصل العنصرى وسود أمريكا خلال حركة الحقوق المدنية، وكلها حركات ناجحة أطاحت بحكومات وأنظمة محتلة أو مستبدة، ولمن يعتقد أنها فكرة تخريبية حديثة عليه أن يراجع تاريخ الثورات المصرية بداية من أول إضراب عمالى قام به عمال بناء المقابر فى مصر الفرعونية قبل الميلاد باثنى عشر قرنا إلى أول عصيان مدنى فى التاريخ حدث فى عهد الملك بيبى قبل الميلاد بحوالى مئة عام، وشارك فيه نسبة كبيرة من السكان اعتراضا على سوء الأحوال المعيشية وتركز كل الثورات فى أيدى الملك وحاشيته والكهنة وكبار رجال الدولة!! عصيان الفراعنة فى عهد الملك بيبى نجح فعليا فى شل حركة الاقتصاد، كما تجمع المحتجون فى المعابد الكبرى وهددوا بهدمها حتى تم إجبار الملك ونظامه على الاستجابة لمطالب الناس. ومن عهد بيبى إلى ثورة 1919 التى شهدت كل المظاهر المعروفة للاضراب والعصيان المدنى من امتناع الطلبة عن الذهاب إلى الجامعات والمدارس إلى إيقاف حركة المرور وقلب عربات الترام وإضراب أصحاب سيارات الأجرة وإغلاق معظم المحال التجارية والبنوك وامتنع المحامون عن عملهم فى المحاكم واستمرت الاعتصامات رغم العنف الهائل الذى مارسه جنود الاحتلال ضد المعتصمين والمتظاهرين واتهام الاعلام والحكومة لهم بأنهم مخربون يسعون إلى إسقاط مصر إلى آخر هذه الاسطوانة المشروخة. وحسب موسوعة «ويكيبيديا» فإن الكاتب الأمريكى هنرى ديفيد ثورو هو أول من نظرَ للفكرة فى مقالته المنشورة عام 1849 بعنوان «العصيان المدني» والتى كان عنوانها الأصلى «مقاومة السلطة المدنية»، وكانت الفكرة الدافعة وراء المقال هى أن الموقف الأخلاقى للفرد يكون سليما إذا كان بوسعه «مفارقة غيره» عند اختلافه معه؛ أى أنه ليس على الفرد محاربة الحكومة، لكن عليه وألا يدعمها فى أى شىء وألا يستفيد من دعمها له فى أى شيء إن كان معارضا لها. وكان لهذه المقالة أثر بالغ فى عديد من ممارسى العصيان المدنى لاحقا. وفى المقال يفسر ثورو أسبابه فى رفض دفع الضرائب كفعل احتجاج ضد العبودية وضد الحرب المكسيكية الأمريكية. كذلك كانت مقالة «منهج العبودية الاختيارية» التى وضعها القاضى الفرنسى إيتيان ديلا بوتى أحد المصادر المبكرة التى وضعت فكرة أن الطغاة يحوزون القوة لأن الناس يمنحوها لهم، وأن «فقدان المجتمعِ للحريةَ يتركه فاسدا مفضلا عبودية المحظيات على حرية من يرفض التسلط ويأبى الخضوع». وبهذا فقد ربط لابوَتى بين النقيضين التسلط والخضوع وهى الفكرة التى طورها فيما بعد المفكرون اللاسلطويون (الفوضويون). وبالدعوة إلى رفض دعم الطاغية فإن لابوتى هو واحد من أوائل الذين دعوا إلى العصيان المدنى والمقاومة السلمية. كتب لابوَتى المقالة عام 1553 عندما كان لا يزال طالبا فى الجامعة فى الثانية والعشرين من عمره، وجرى تداولها سرا ولم تطبع حتى 1576 بعد موت صاحبها عام 1563. وقد استخدم العصيان المدنى فيما عرف إجمالا بالثورات الملونة التى غشيت دولا شيوعية سابقة فى وسط وشرق أوروبا ووسط آسيا. ومن أمثلة ذلك خلع سلوبودان ميلوسوفتش فى صربيا فى 2000 والذى استخدم الثوار فيه أسلوبا كان قد طبق من قبل فى انتخابات برلمانية فى بلغاريا عام 2000، وسلوفاكيا عام 1998، وكرواتيا عام 2000. كذلك الثورة الوردية فى جورجيا التى أدت إلى خلع إدوارد شفرنادزه فى 2003، وكذلك الثورة البرتقالية فى أوكرانيا التى تلت الخلاف على نتائج انتخابات 2004 البرلمانية. وأيضا الثورة البنفسجية التى سبقت ذلك فى تشيكوسلوفاكيا عام 1989 والتى ساهمت فى سقوط النظام الشيوعى فى تشكيوسلوفاكيا السابقة. الفخ الأكبر الذى يمكن أن يقع فيه ممارسو «العصيان المدني» هو الاستجابة لعنف السلطة بعنف مضاد، أو بتخريب المنشآت، وكثيرا ما تدس السلطات «بلطجيتها» وسط المتظاهرين لارتكاب مثل هذه الأفعال، وكان المهاتما غاندى من أشهر الذين وضعوا القواعد «السلمية» لمواجهة عنف السلطات، والتى طورها بعد ذلك ثوار الثورات السابق ذكرها فى أوروبا، ومن هذه القواعد عدم الاستجابة للغضب وتحمل هجوم السلطات له وعدم الرد مطلقا على أى استفزاز والدفاع عن أى شرطى أو موظف مدنى يتعرض للخطر من بعض الثوار الغاضبين. بغض النظر عن مصير إضراب أو عصيان 11 فبراير، والمحاولات البائسة من النظام وحلفائه لقمعه بالقوة والخديعة، فهو سيكون خطوة مهمة على طريق الثورة الطويل، وحتى لو فشل فسوف يصبح نقلة نوعية فى تاريخ الثورة المصرية.. التى لا نحلم فقط أن تستبدل نظاما بنظام مماثل بل أسوأ، ولكن بتغيير المصريين أنفسهم وتحولهم إلى شعب مقاتل فى سبيل الحرية والعدل والكرامة.