خلال ساعات تدخل الثورة المصرية منعطفاً جديداً مع الدعوة إلى بدء العصيان المدنى والإضراب عن العمل وهى الدعوة التى تبنتها عشرات من شباب الحركات الثورية والشبابية لإجبار المجلس الاعلى للقوات المسلحة على تسليم السلطة وسرعة إجراء انتخابات رئاسة الجمهورية وعدم وضع الدستور أو كتابته تحت حكم العسكرى.. وبعيدا عن توقعات نجاح أو فشل الدعوات إلى العصيان المدنى والاضراب وبالرغم من كل الأقاويل بخطر هذه الأساليب الاحتجاجية على الوضع الاقتصادى المصرى المتردى بالفعل والمحاولات المعتادة لاستخدام الدين ورجاله الرسميين سواء الأزهر أو الكنيسة أو حتى جماعة الإخوان المسلمين لإثناء المصريين عن المشاركة فى حملة العصيان وبغض النظر أيضاً عن عمليات الترهيب والترعيب والتشويه المتعمدة لكل من يؤيد او يدعو للعصيان والإضراب فقد يكون من المفيد فى هذه اللحظات التاريخية إعادة قراءة بعض نماذج التاريخ الخاص بهذه الحالة للتدبر والانتفاع بالتجارب الانسانية لعلنا نصل الى بعض الضوء فى النفق المظلم لما تمر به مصر حاليا من ازمة .. وقبل الكلام عن دروس التاريخ من المهم التأكيد ان مصر كدولة لم تسقط على مر تاريخها الممتد آلاف السنين رغم كل ما واجهته من كوارث وأزمات وحروب... الخ لذا لا يصح ابدا الحديث عن احتمالية سقوط الدولة لأى سبب وهى نفس أساليب نظام الرئيس المخلوع حسنى مبارك وادعاءاته الفاشلة والكاذبة خلال ايام الموجة الاولى للثورة المصرية فى الفترة من يناير وحتى فبراير 2011 الماضيين.. المنظور التاريخى لمفهوم العصيان المدنى صاحب هذا الاختراع المسمى بالعصيان المدنى كمصطلح سياسى هو الكاتب الأمريكي «هنري ديفيد ثوراو» في مقالته الشهيرة «العصيان المدني» التي نشرت عام 1849، وقد كتب تلك المقالة عقب امتناعه عن دفع ضرائب الحرب، احتجاجاً على العبودية والقمع والاضطهاد والحرب التي كانت تخوضها الولاياتالمتحدةالأمريكية ضد المكسيك، حيث رأى أن الامتناع عن دفع الضرائب كنوع من الاحتجاج، أمر من شأنه إلزام السلطة بتغيير سلوكها ليلائم ما يريده الشعب حقيقة. بكلمات اكثر وضوحا فإن هذه الفكرة تقوم على المقاومة السلبية للنظام المراد مواجهته، بمعنى أنه لو نجحت المعارضة في إقناع الشعب برفض التعامل مع النظام، وقطع أواصر الصلة معه، فإن ذلك كفيل بأن يؤدي في لحظة إلى هزيمته ومن ثم انهياره». ويعتقد الكاتب الأمريكي «هنري دايفيد ثوراو» أن المواطنين هم الذين يشكلون ويصنعون الجزء الأعظم في جماعة العصيان المدني أو الذي يشكل بدوره المرحلة الثانية بعد تحرك الشارع في مظاهرات سلمية أمام رموز السلطة الحاكمة بهدف زيادة الضغط على النظام السياسي للتسليم بمطالب الشعب، والتي تمثلها المعارضة خارج السلطة. كما ينبغي ألا تنشغل حركة العصيان المدني بتوجيه خطابها إلى الحاكم أو النظام وتغفل عن اختيار خطاب مناسب للجماهير يدعوهم للمشاركة في العصيان، ويحرضهم عليه ويربط مستقبلهم بنجاحه، طالما أنها قررت المقاومة وليس الاحتجاج.» والملاحظ هنا الاهتمام الواضح بتوصيل فكرة العصيان المدنى الى المواطن البسيط باعتباره العامل المحورى فى نجاح او فشل العصيان المدنى مما يجعلنا نتساءل بصراحة : هل نجحت الحركات الشبابية والثوار فى توصيل الرسالة إلى البسطاء فى مصر فى القرى والمدن بمختلف انحاء المحروسة؟؟ بمعنى آخر: ألم تقم هذه الثورة من أجل العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية لكل المصريين وبالتالى فان العصيان المدنى باعتباره أحد اشكال الاحتجاج يستدعى دعم اغلب – وليس كل – المصريين؟،سؤال ستجيب عنه الساعات القادمة مع ضرورة التأكيد على ان اى شكل من اشكال الاحتجاج وحرية تعبير عن الرأى هو حق كفله الدستور وكافة المواثيق الدولية.. ولكن ايضا لا يجب اختزال المصريين فى النخبة المثقفة والواعية التى تتولى قيادة المسار الثورى حاليا بشكل نبيل واصرار على مواصلة الطريق حتى لو كان الثمن هو أرواح أجمل وأنبل من انجبت مصر وهم هؤلاء الثوار النبلاء ..بل يجب التاكيد على ان عملية العصيان المدنى هى مسألة تستلزم وقتاً طويلاً قد يمتد لسنوات لحين تحقيق النتائج المرجوة وأن أشكال العصيان متعددة يمكن ان تكون مجرد ارتداء ملابس سوداء أو وضع شارات حداد أو رفع علم مصر على المنازل والسيارات ومقاطعة السلع التى ينتجها جهاز الخدمة الوطنية أو حتى مجرد الجلوس فى الشوارع بسلام لتوصيل رسالة إلى السلطات برفض الشعب للسياسات أو الممارسات الحكومية.. وأمام كل مصرى العديد من التطبيقات لمسألة العصيان المدنى التى يستطيع ان يختار منها مايقدر عليه.. ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها لأن المشاركة بأى طريقة تراها مناسبة هو حق اصيل للمشاركين فى العصيان المدنى.. وتمتلئ المدونات والمواقع على الانترنت بالكثير من المعلومات حول جذور العصيان المدنى فى التاريخ الإنسانى وهناك عشرات المواقف للعظماء الذين انتهجوا هذا النهج من قديم الأزل سواء الفلاسفة أو الأنبياء الذين اعتمدوا على فكرة المقاومة السلمية لتغيير أوضاع وإبلاغ رسالات.. وأهم وسائل العصيان المدنى هو التحدى السلمى او كما يقول بير هيرنجرين في كتابه «ممارسة العصيان المدني « انه نشاط انسانى متحضر يعتمد أساساً على مبدأ اللاعنف.» وهذا يعيدنا الى الشعار العبقرى الذى تم رفعه فى الموجة الأولى للثورة وهو « سلمية سلمية « فى مواجهة العنف الوحشى لنظام الرئيس المخلوع فى بدايات الثورة.. وهذا التحدى لأمر ما أو لقرار ما حتى ولو كان غير مقيد بالقانون ستكون له نتائج على المتحدى تختلف وتتراوح شدتها بشكل متناسق مع قوة وشدة التحدى ذاته واهم شئ هو عدم اعتبار هذه النتائج سلبية مهما كانت حتى تستمر القدرة الانسانية على الصمود ومواصلة التحدى، وهذا التحدى بالضرورة يتطلب العلانية وتشجيع المواطن البسيط على كسر حاجز الخوف من العقوبات الشخصية. ويقول المدون عبقرينو – الذى يصف نفسه بأنه « مواطن مصرى حتى النخاع أذوب عشقا فى هذه البلد، وأتمنى من الله العزيز القدير أن يعيننى على خدمة بلادى ونهضتها» بكلمات عبقرية وبسيطة ان «العصيان المدني لا يكون مؤثراً أو فعالاً إلا بمبررات أخلاقيةً نابعة من عدالة المهمة التي قام من أجلها، فمثلا حين يتعارض القانون المدني مع القيم الأخلاقية والدينية للمجتمع، أو يقوم النظام بمنع الحقوق الدستورية للمواطنين مثل حق التجمع السلمي وحق التظاهر أو حرية الاعتقاد الديني، أو فرض ضرائب على أفراد المجتمع واستخدامها في حروب ظالمة أو سرقتها لصالح أسرة النظام وحزبه؛ يجد العصيان المدني مبررات قوية لقيامه بأنشطته . فتحقيق العدل يفوق الالتزام بأي قانون جائر. إن مسئولية الفرد تجاه مجتمعه ومطالبته بحقه الطبيعي في تلبية نداء الضمير يؤكد وجوب مقاومة النظم الديكتاتورية وعدم السماح لها بالتحكم في تصرفاتنا وسلوكنا أو أن تملي علينا ما الذي يمكننا أو لا يمكننا عمله». المنظور التاريخى للإضراب عن العمل التعريف البسيط لهذا المصطلح هو ان « الإضراب هو التوقف عن العمل بصورة مقصودة وجماعية وهدفه الضغط على صاحب العمل من قبل العمال او إضراب التجار وإضراب أعضاء المهن الحرة وإضراب الطلاب وإضراب المواطنين عن دفع الضرائب.» وبدأت الإضرابات تأخذ أهمية أكبر خلال الثورة الصناعية، وقننت أغلب الدول الغربية الإضراب في أواخر القرن التاسع عشر أو بدايات القرن العشرين. ويتم اللجوء أحيانا للإضراب للضغط على الحكومات لتغيير سياساتها. وتكشف كتب التاريخ ان « أول اضراب في التاريخ كان في عهد الفراعنة في دير المدينة عام 1152 قبل الميلاد ضد رمسيس الثالث أشهر حاكم في الأسرة العشرين». وبدأ استخدام كلمة «إضراب» في اللغة الإنجليزية عام 1768، عندما عمل بحارة في لندن على شل حركة السفن في الميناء، تعبيرا عن تأييدهم لمظاهرات انطلقت في نفس المدينة. و يعد الدستور المكسيكي أول دستور في العالم يضمن الحق القانوني في الإضراب عام 1917. وتوجد عدة اشكال للاضراب منها رفض العمال الذهاب إلى العمل ومحاولة إقناع الآخرين بعدم التعامل مع صاحب العمل او أن يحتل العمال و الموظفون مقر العمل، ويرفضون القيام بالعمل كما يرفضون الخروج من المكان...و أسلوب آخر في الإضراب هو إضراب العمل حسب ما يقتضيه القانون فقط حيث يقوم العمال أو الموظفون بأداء مهامهم الوظيفية بالضبط كما يتطلب منهم عملهم، لكن لا أكثر من ذلك أبدا. مثلا، قد يتبع العمال أو الموظفون جميع تعليمات السلامة بطريقة تعوق من إنتاجيتهم أو قد يرفضون العمل وقتاً إضافياً. هذا النوع من الإضراب يسمى «إضراباً جزئياً» أو « تباطؤ». والاضراب ممكن ان يكون جزئيا في وحدة داخل مقر عمل، أو قد يشمل صناعة بأسرها، أو قد يشترك بها كل عمال أو موظفي مدينة أو بلد ما. اما الإضرابات التي يشارك بها جميع العمال أو الموظفين، أو التي تتضمن عدداً من نقابات العمال في منطقة معينة فتعرف ب«الإضرابات العامة». اما إضراب التعاطف فهو صورة مصغرة من إضراب عام ويتم فيه تعاطف مجموعة من العمال أو الموظفين مع نظرائهم في شركة أخرى والتعبير عن ذلك بشكل فعلي. وإلاضراب عن الطعام هو الامتناع طواعية عن الأكل ويستخدم هذا الإضراب غالبا في السجون كشكل من الاحتجاج السياسي. كما نجد ان إلاضراب بادعاء المرض هو نوع من الإضراب يتظاهر فيه المضربون بالمرض، ويستخدم هذا الإضراب في الحالات التي يمنع فيها القانون أولئك الموظفين من إعلان الإضراب مثل رجال الشرطة، ورجال الإطفاء. اما فى مصر فيوجد شكل متميز جدا من اشكال الاضراب عن ممارسة الحقوق الانتخابية وهو ما كان سائدا طوال الستين عاما الاخيرة بمقاطعة المصريين للانتخابات ايا كانت درجتها احتجاجا على التزوير وتزييف الارادة الشعبية وهو ما اختفى لفترة وجيزة بعد الثورة فى الاستفتاء على التعديلات الدستورية فى مارس الماضى وفى انتخابات مجلس الشعب الاخيرة ولكن جدد المصريون الاضراب عن الانتخابات مع انتخابات مجلس الشورى خلال فبراير الحالى ولم تزد نسبة المشاركين فى التصويت علي 15 % من إجمالى عدد الناخبين المسجلين فى نصف محافظات الجمهورية حسب الأرقام الرسمية والأسباب يطول شرحها لهذا الموقف الشعبى الذى تغلب عليه صفة الاضراب العام عن التصويت الى درجة تبادل النشطاء مقولة انه تم رصد 4 افراد فى لجنة انتخابية احدهم ذهب ليكتب على ورقة الانتخابات يسقط يسقط حكم العسكر.. الخلاصة السريعة اننا نحتاج الى ايضاح وتوصيل رسالة بسيطة الى ملايين المصريين وهم العامل المحورى فى فكرة العصيان أو الاضراب ان هذه الوسائل المشروعة والمتعددة الاشكال التى يمكن ان يمارسوا من خلالها عملية الاحتجاج والتحدى العلنى للسلطة - أياً كانت - هى من أجل العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الانسانية لكل المصريين.. يقول جون راؤول في كتابه «نظرية العدالة»: «ليس من الصعب أن تبرر حالة العصيان المدني في نظام غير عادل لا يتبع رأي الأغلبية، ولكن حينما يكون النظام عادلاً إلى حد ما تبرز مشكلة ألا وهي أن من يقوم بالعصيان المدني يصبح من الأقلية وتغدو عملية العصيان المدني وكأنها موجهة ضد رأي الأغلبية في المجتمع». لذلك تستفيد حركات العصيان من الظلم والتسلط، وتوظفهما في عملية التحريض، وكلما ازداد الظلم كان ذلك في صالح حركات العصيان، وكلما زادت الجرائم المعلنة للنظام الحاكم كان ذلك سبيلاً إلى اجتذاب الجماهير. لذلك ينبغي أن تستفيد حركات العصيان من أخطاء النظام، وتوظفها بشكل دقيق لجذب المزيد من الأحرار، ولتسقط شرعيته وهيبته.