رأى أعضاء الكونجرس الأمريكي، أن مصر صارت تشبه بحرا من الرمال المتحركة.. يغرق فيه كل من يقاوم حركته أكثر من اللازم.. صارت منطقة ذات طبيعة خاصة.. لابد من التعامل معها بحنكة.. وصبر .. وضبط أعصاب وحذر.. حتى لا تتحول إلى ساحة هلاك تبتلع كل من يقترب منها.. أو يتورط فيما يحدث فيها. لقد احتلت الثورة المصرية وما حدث فيها فى يناير الماضى جانبا مهما من مناقشات أعضاء الكونجرس فى جلساتهم التى وجدت أخيرا ما تناقشه، غير سؤال قطع المعونة الأمريكية.. أو تقييدها.. أو تقليلها فى لعبة سخيفة مع نظام مبارك السابق قضت عليه الثورة بضربة واحدة.. أثبتت بها أن الكلمة الأولى والأخيرة للشعب.. وليس للقصر.. وهو ما جعل الكونجرس الأمريكى يصدر موخرا تقريره عن أحداث الثورة المصرية بما يمثل شهادة لا يمكن تجاهلها، لو أردنا أن نعرف كيف نظر العالم إلينا.. وكيف فكر فى التعامل مع مصر الجديدة.. ذات الطبيعة المتحركة.. بمجرد أن هدأ غبار المعركة.
طالبوا إدارة أوباما بالتحاور مع العسكرى سراً ودعم الإخوان علناً ومساندة الليبراليين على الفيس بوك
لقد كان أهم ما أثبتته الثورة المصرية لأعضاء الكونجرس الأمريكي، كما قالوا فى جلساتهم.. وبلسانهم.. هو أن أحدا لا يمكنه التنبؤ بمجرى سير الأحداث فى مصر.. فحتى اكبر محللى الشرق الأوسط عندهم، لم يقدروا على تخيل حجم الغضب والإصرار الذى أدى إلى أن يسقط ميدان التحرير نظام حكم عتيداً استمر لأكثر من 30 عاما.. دون أن يقدر أحد عليه.
لقد وقعت واشنطن فى خطأ عميق عندما لم تلق بثقلها وراء الثورة المصرية من وجهة نظر أعضاء الكونجرس.. وقعت فى حالة من الارتباك جعلتها عاجزة عن قراءة المستقبل.. أو حتى فهم الحاضر.. كانت تنظر إلى مصالحها مع نظام مبارك الذى تعتبره ثقلا لا يستهان به فى المنطقة بالتعاون مع حليفتها السعودية.. ويبدو واضحا، من مناقشات أعضاء الكونجرس ، أن الرهان الأمريكى كان أكبر من اللازم على تحالف سنى من مصر والسعودية، يقف فى وجه المد الشيعى الإيراني.
قالها أحد أعضاء الكونجرس صراحة:» كانت قلوبنا مع الثوار ومصالحنا مع نظام مبارك.».. أنت تتحدث عن علاقة استراتيجية واضحة ومعلنة من التعاون المخابراتي.. والسماح للسفن الأمريكية بالمرور فى قناة السويس باستثناءات واضحة.. وحماية المصالح الأمريكية فى المنطقة بشكل عام.. مصلحة واشنطن مع مبارك جعلتها تضحى بكل قيم الديمقراطية التى صدعت رءوس الناس بها.. فلم تسارع، كما كان متوقعا، بإعلان دعمها لثورة تطالب بتلك المبادئ.. وإنما تأخرت كثيرا فى إعلان موقف حاسم من الأحداث بشكل يقترب مما حدث فى وقت الثورة الإيرانية، عندما اختارت أمريكا دعم نظام الشاه ضد الثوار الإسلاميين بسبب مصالحها فى البترول الإيراني. وهو ما جعلها تخسر الثوار الإيرانيين إلى الأبد.
خرج المتظاهرون فى ميدان التحرير يطالبون بحقوقهم وحرياتهم التى أنكرها عليهم نظام مبارك.. رغم أن أى مواطن أمريكى يعتبر تلك الحريات أمرا مسلما به، وهو ما منحهم تحية خاصة من أعضاء الكونجرس عندما أشاروا إلى شجاعة الثوار المصريين فى وقوفهم أمام قبضة أمنية ثقيلة.. بلا تدخل خارجى يدعمهم.. ولا يضمن لهم مستقبلاً أفضل مما هم فيه.
لكن.. كل هذا الإعجاب بالثورة الماضى وقف أمام تساؤلات الواقع.. اعترف أعضاء الكونجرس بأن أحدا لا يمكنه التنبؤ بنهاية سعيدة للثورة المصرية.. ففى النهاية، من الممكن أن تتحول تلك الحالة من الحرية إلى حالة من الفوضي.. وأن ينقلب الاحتفال بالتخلص من حكم ديكتاتورى إلى مأتم بسبب قيام ديكتاتورية بأشكال أخري.. ديكتاتورية عسكرية.. أو دينية.. مثلا.. لقد شعر أعضاء الكونجرس بالقلق من عدم وجود شكل واضح ومنظم للثورة المصرية يمكن أن يساعد على رسم صورة منطقية لمستقبلها.. وهو ما قادهم إلى خوف أكبر.. هو خوف أن يستغل المتطرفون، الأكثر تنظيما، طاقات الشباب واندفاعهم إلى ميدان التحرير لخدمة أغراضهم السياسية الخاصة.. واللعب على مصالح الولاياتالمتحدة المرتبكة حاليا، والتى لا تعرف مع من تتحدث باسم الثوار، لتحقيق أكبر المكاسب الممكنة.
فى فترة صدور التقرير، لم تكن انتخابات مجلس الشعب قد ظهرت فى الصورة بعد.. لذلك، امتلأت كلمات أعضاء الكونجرس بشهادات الليبراليين المصريين الذين يحلمون بمصر أفضل.. تتحول فيها البلاد إلى دولة مؤسسات تحمى قيم الحرية وحقوق الإنسان، وعلى رأسها بالنسبة للاهتمامات الأمريكية، حماية الأقليات الدينية، وهو ما جعل أعضاء الكونجرس يتفاءلون بمصر جديدة، تمثل شريكا أفضل مع الولاياتالمتحدة أكثر من نظام مبارك، حتى وإن كانت الحكومة القادمة غير راغبة فى التعامل بشكل مباشر مع إسرائيل، ولا حتى التعاون بشكل مستمر مع الولاياتالمتحدة.
لقد كانت مطالب الولاياتالمتحدة من الثورة المصرية، كما تكشفها شهادات أعضاء الكونجرس، هى مطالب غاية فى البساطة والتواضع.. كأنها تريد من الثورة «الرضا».. وأن تتجاهل حقيقة أن واشنطن تأخرت فى دعمها كما ينبغى بقائدة العالم الحر، لأنها كانت مشغولة أكثر مما ينبغى بمصالحها مع النظام البائد.
إلا ان اعضاء الكونجرس أيضا، لم يخفوا قلقهم من المرحلة الانتقالية المصرية التى اعتبروها «محفوفة بالمخاطر» وخالية من الرؤية الواضحة التى يمكن أن تنظم سير الأمور فيها.. وأول هذه المخاطر عدم استقرار الاقتصاد.. على الرغم من أنهم دعوا للاستثمار فى مصر «بكل ثقلهم» بمجرد أن تنتهى الفترة الانتقالية.. كما أن غياب الأمن.. وانعدام النظام.. وصعوبة تطبيق القانون.. وضرورة تأمين سيناء وباقى الحدود المصرية، كلها مشاكل ستلقى بظلالها كلما طالت الفترة الانتقالية التى تمر بها مصر.
أما الخطر الأكبر كما رآه أعضاء الكونجرس، فكان فى تخوف كثير من رجال الأعمال المصريين من الصعود السياسى للإسلاميين، وما يمكن أن يفعلوه بالاقتصاد لو وصلوا للحكم.
اعترف الكونجرس الأمريكى بأن الإخوان لابد أن يلعبوا دورا مهما وبارزا فى الانتخابات البرلمانية الأولى بعد الثورة.. وقدموا توصياتهم للتعامل معهم.. قالوا إن الولاياتالمتحدة لابد أن تجد توازنا دقيقا بين مخاوفها من الإخوان ومصالحها معهم.. وأن توجه رسالة للناخبين بأنها لن تدعم إلا الحكومات التى تتفق مع مبادئها.. على رأسها الحريات الدينية وحقوق الأقليات.. وتلتزم بالمعاهدات الدولية.. وعلى رأسها كامب ديفيد مع إسرائيل.
بعبارة أخري، تنتظر الولاياتالمتحدة من أى حكومة تأتى من الإخوان، أو بدعم منهم، أن تحفظ حقوق الأقباط، وتحافظ على السلام مع إسرائيل.. ودعا أعضاء الكونجرس الإدارة الأمريكية إلى أن تتخذ خطوات للاتصال بالمجلس العسكرى بشكل سري.. ومعرفة القوى السياسية التى يمكن أن تزيد من طموحات الإخوان السياسية.. أو تقف فى وجهها.
فى تلك النقطة، اعترف أعضاء الكونجرس برعب السعودية مما يحدث فى الثورات العربية.. وأن ما جرى فى مصر هو سبب تعامل السعودية العنيف مع ثوار البحرين، خوفا من اندلاع ثورة شيعية فى المنطقة تخدم المصالح الإيرانية.. كما أن السعودية تشعر بقلق متزايد من أى خطوة نحو الديمقراطية فى مصر لأن هذا يمثل تهديدا مباشرا للرياض، وربما يفسر ذلك القلق تلك التقارير المتزايدة من قلب مصر حول الأموال السعودية التى تتدفق بلا حساب إلى خزائن وحسابات بنوك السلفيين المصريين الذين برزوا فجأة على الساحة بعد الثورة.
لقد لاحظ أعضاء الكونجرس ذلك الشعور بالكبرياء وتجدد الثقة التى صار المصريون يتمتعون بها بعد الثورة، لكنهم لاحظوا أيضا، صعود الحركات السلفية التى صارت تكتسب لنفسها أرضية جديدة مع كل يوم يمر.. وهو ما جعلهم يقولون، إن مصر يمكن أن تصبح دولة ديمقراطية تقود الشرق الأوسط كله نحو الحرية، «لو» نجحت فى عبور المرحلة الانتقالية.. وضع ألف خط تحت كلمة «لو» هنا.
صحيح أن ميزان القوى فى مصر قد تغير.. وصارت الغلبة بعد الثورة لمن يصرون على تغيير الوضع، وليس لمن يرغبون فى بقاء الحال على ما هو عليه، إلا أن أحدا لا يمكنه أن ينكر، أن بكل الاضطرابات التى تحدث حاليا فى مصر، فقد خرجت مصر من المعادلة الدولية والإقليمية.. لكن.. بعد أن هزت الثورة المصرية الأرض بشدة تحت أقدام النظام الإيراني.. وأدت إلى أن يتراجع الاهتمام بالقضية الفلسطينية، والاحتلال الأمريكى للعراق إلى ترتيب متأخر من اهتمام المواطن العادى بعد أن صار ينشغل بقضايا داخلية أكثر إلحاحا وتأثيرا على يومه وغده.. وكل مراقب يعرف جيدا أن كلا من فلسطين والعراق من النقاط الأساسية التى كانت طهران تلعب عليها لزيادة المشاعر العدائية للولايات المتحدة فى المنطقة.
وضع نواب الكونجرس خريطة واضحة للإدارة الأمريكية للتعامل مع الموقف فى مصر بعد الثورة، أولها أن تتم زيادة الدعم الذى تقدمه أمريكا لمؤسسات الترويج للديمقراطية ومنظمات المجتمع المدنى مثل المعهد الديمقراطى القومى والمعهد الجمهورى الدولي، حتى وإن شكل ذلك جزءاً من المعونة الأمريكية لمصر.
النقطة الثانية هى ضرورة أن تعمل أمريكا على دعم ونشر الديمقراطية فى مصر من خلال وسائل الإعلام الجديدة وعلى رأسها مواقع التواصل الاجتماعى مثل تويتر وفيس بوك، وتوجه النشطاء المصريين حتى لكيفية استخدام هذه الوسائل لمراقبة وضمان نزاهة سير العملية الانتخابية مثلا.
النقطة الثالثة التى تنبه إليها أعضاء الكونجرس مبكرا، هى ضرورة ألا تتجاهل الولاياتالمتحدة غضب الثوار من إلقاء الجيش القبض على المدونين والنشطاء (وقت تلك الجلسة، كان قد تم اعتقال مايكل نبيل فقط).. وأن تنتبه إلى أنه كلما تزايد ضغط الجيش على النشطاء ازداد اندفاع الناس إلى الشوارع.. خاصة أنهم شعروا بعد محاكمة مبارك وأولاده بأن قيادتهم الحاكمة تستجيب بالضغط.
النقطة الرابعة والأهم، أن الجيش يريد باستماتة أن ينسحب من السلطة، ومن ورطة حكم البلاد، فكل مطلب، أو عريضة، من ثائر أو إخوانى أو أستاذ جامعة، أو غيرهم، كلها ترفع للمجلس العسكرى وينتظرون منه الاستجابة لكل هذه المطالب.. لذلك يريد المجلس العسكرى الانتقال سريعا للانتخابات التى تشعر القوى السياسية المصرية بنوع من النهم لها.. ويريدون حدوثها بأسرع ما يمكن، خاصة أن استمرار الجيش فى السلطة لفترة طويلة يمكن أن يؤدى لديكتاتورية عسكرية لو استمر أكثر مما ينبغي.
وآخر نقطة اقترحها أعضاء الكونجرس على إدارتهم، ألا تقف مكتوفة الأيدى أمام ما يحدث فى مصر، وأن تدخل فى اللعبة بكل ثقلها.. كما فعلت فى إندونيسيا.. وأمريكا اللاتينية.. وأوروبا الشرقية.
لكن أحدا فى النهاية.. لا يمكنه التنبؤ بما يمكن أن يحدث فى مصر.. بوجود أمريكا.. أو غيرها