في إطار الصراع الأمريكي الروسي، تحولت الحرب الأوكرانية إلى مزايدة للدفع بالعناصر القتالية الأجنبية من شتى بقاع الأرض، تمهيدًا لبناء أكبر قاعدة عريضة من المرتزقة لإدارة المعارك المسلحة بالوكالة، والتي تضم العديد من المجموعات القتالية المتنوعة ما بين شركات عسكرية خاصة، ومجموعات جهادية تكفيرية، وكتائب يمينية متطرفة، ومتطوعين يتقاتون على أجساد الأبرياء. منذ اللحظات الأولى للحرب الدائرة، والتي عرفت في قاموس رجال العلوم السياسية والعسكرية، بمسمى "الحرب العالمية الثالثة"، وظفت كل الأطراف المساهمة والداعمة المباشرة والغير مباشرة، علاقاتها ونفوذها في ملحمة صراعية تشمل القوى العظمى والكبرى والإقليمية.
أطراف عدة الآن تسعى لتحويل أوكرانيا إلى أكبر بيئة جغرافية للمرتزقة والعناصر التكفيرية التي تحمل على عاتقها مواجهة الجانب الروسي بشكل مباشر وفقًا لعداء عقائدي وفكري راسخ منذ ثمانينات القرن الماضي، متمثلًا في الحرب الأفغانية وحروب البوسنة والهرسك والشيشان، فضلًا عن الدور العسكري الروسي في مواجهة التنظيمات التكفيرية المسلحة في سوريا وليبيا.
تحويل أوكرانيا إلى أفغانستان، أو سوريا جديدة، يلوح في الأفق من خلال التعبئة التي تتم على أرض الواقع من مختلف الأطراف الفاعلة في الأزمة، والداعمين لها ماديًا وعسكريًا وسياسيًا، لا سيما في ظل تطبيق استراتيجية مستشار الأمن القومي الأمريكي، "زيجينو بريجنسكي"، في بناء أكبر قاعدة للمقاتلين العرب ضد الغزو السوفيتي لأفغانستان في ثمانينيات القرن الماضي. عُرف "زيجينو بريجنسكي"، في الدوائر السياسية الدولية، بمهندس "الجهاد الأفغاني"، وبدعواته المستمرة إلى صناعة استراتيجيات تدعم جماعات الإسلام السياسي، لتكون سلاحاً ضد النفوذ السوفييتي في الشرق الأوسط.
صرح "زيجينو بريجنسكي"، عام 1994، وبعد 4 سنوات من انتهاء الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفياتي، بأن أوكرانيا هي نقطة انطلاق وبناء الإمبراطورية الروسية، ومن ثم يجب تكون محور اهتمام وتركيز الإستراتيجية الأمريكية. تمدد التنظيمات التكفيرية المسلحة ليس مستبدعًا في ظل محاولاتها خلق مرتكزات جغرافية لها داخل أوروبا الشرقية، بعدما فقدت توازنها في مناطق الشرق الأوسط، وسعيها للثأر من الجانب الروسي نتيجة دوره العسكري في سوريا وليبيا.
في الوقت ذلك لا يمكن تجاهل بقايا البؤر الفكرية المنتشرة في البانيا منذ تسعينات القرن الماضي، وتحولها إلى مقر لعدد من التنظيمات الأصولية منذ عام 1995، وكانت المحكمة العسكرية المصرية في 18 أبريل 1999،قد أصدرت أحكاما متفاوتة على 43 شخصًا حضوريًا، و64 غيابيًا، في قضية "العائدون من البانيا"، بينهم زعيم "القاعدة" ايمن الظواهري، وذلك بعد اعترافات أدلى بها القيادي بتنظيم "الجهاد"، أحمد إبراهيم النجار، عقب تسليمه من البانيا إلى القاهرة.
المرحلة المقبلة ستشهد نشاطًا للخلايا الداعشية في دول القوقاز والبلقان وإقليم خراسان، في ظل تمتع ابناء تلك المناطق بقدرات عسكرية، نتيجة حروب التحرير وخروجهم من عباءة الاتحاد السوفيتي، وانضمام عدد كبير منهم إلى صفوف التنظيمات المسلحة في سوريا والعراق وليبيا منذ عام 2011، يواكب ذلك أن لكل من تنظيم "القاعدة" وتنظيم "داعش" تواجدًا ملحوظًا في مختلف دول القوقاز وأسيا الوسطى ومنطقة خراسان والبانيا،أبرزها "ولاية القوقاز الإسلامية" التي أسسها عام 2007، دوكو عمروف، المعروف ب"الأمير عثمان"،وتتبع حاليًا تنظيم "داعش"، ونفذت العشرات من العمليات المسلحة ضد المصالح الروسية.
وليس من المستبعد في ظل الأزمة الراهنة، أن تستخدم الولاياتالمتحدةالأمريكية ورقة مشروع دولة "البانيا الكبرى"، وصناعة كيان معادي لروسيا قوامه من الحركات الراديكالية الأصولية، التي تنادي بتوحيد الألبان المتواجدين في الأراضي الأوروبية، وتطالب بأحقيتها في أجزاء من صربيا وكوسوفو واليونان ومقدونيا الشمالية والجبل الأسود.
دعوات الحشد للمقاتلين الأجانب تم تغليفها بمنطلقين أساسيين، أولهما الجانب الإنساني في محاولة لخلق حالة تعاطفي وتعبئة دولية مجتمعية، والتي عبر عنها الرئيس الأوكراني زيلينسكي قائلًا: " المسألة ليست مجرد غزو دولة لدولة أخرى ذات سيادة، لكنها بداية حرب ضد أوروبا كلها"، بينما الجانب الثاني تمثل في الغطاء الديني والعقائدي، الذي بدا جليًا في الكثير من البيانات الصادرة عن منظمات إسلامية غربية رافعة راية المواجهة الأبدية تجاه الروس وحلفائهم.
مخاوف روسيا من تمدد التنظيمات التكفيرية المسلحة في أركان إمبراطوريتها ترجمته تصريحات الرئيس فلاديمير بوتين، في أكتوبر 2015، قائلًا: "سنذهب إلى سوريا حتى لا تأتي سوريا إلى روسيا"، في تعبير دقيق عن المحاذير التي تنتاب الجانب الروسي من تحويل القوقاز والشيشان، إلى بؤرة تمركزية للجماعات الأصولية، تستنزف موسكو في إطار "حروب العصابات" التي تختلف كليًة عن الحروب النظامية. في محاولة تصدير صورة ذهنية بالدعم الغربي للأزمة الأوكرانية، وعدم تخليها عن "كييف"، في مواجهة الزحف الروسي، أيدت الكثير من الدول مشروع تعبئة المقاتلين الأجانب، للمشاركة في "الفيلق الدولي"، رغم تعارضه مع مواثيق الأممالمتحدة، ومخالفته لمضمون قرار مجلس الأمن، رقم 2178 الصّادر في 24 سبتمبر 2014، الداعي إلى تحسين التّعاون الدّوليّ والإقليميّ والفرعيّ لمنع سفر المقاتلين الإرهابيّين الأجانب، ووقف تجنيد وتمويل تنقّلاتهم ونشاطاتهم.
ومع تصاعد مؤشرات عسكرة الأزمة الحالية بين روسياوأوكرانيا في العام الجاري، اتخذت السلطات الأوكرانية خطوات تشريعية وتنظيمية تؤسس لإلحاق المقاتلين الأجانب بالجيش الأوكراني والقوات التابعة له؛ حيث تم إصدار قانون "المقاومة الوطنية" في 27 يناير2022، مجيزًا تطوع الأجانب وعديمي الجنسية ب "قوات الدفاع الإقليمي". تشير التقديرات النهائية إلى أن عدد المقاتلين الأجانب في صفوف القوات الأوكرانية، بلغ نحو 17 ألف مقاتل، منذ أزمة شرق أوكرانيا في عام 2014، بينهم 15 ألف من بيلاروسيا، والبقية جاءوا من 54 دولة حول العالم، وبعد التوافق على اتفاقيات وقف إطلاق النار "مينسك-2"، شرعت كييف في إدماج تلك الكتائب شبه العسكرية بوزارتي الدفاع والداخلية، ومن خلال تأسيسها ل"قوات الدفاع الإقليم.
وأعلنت الاستخبارات الروسية في مارس الجاري، أن واشنطن قامت بتحرير عشرات المقاتلين الدواعش من مواطني روسيا وبلدان رابطة الدول المستقلة، وأرسالتهم للتدريب على حروب العصابات داخل "قاعدة التنف" في سوريا، قبل إرسالهم إلى "دونباس" شرقي أوكرانيا. من جهة أخرى اتهمت وزارة الدفاع الأمريكيةروسيا بتجنيد مقاتلين أجانب، فضلًا عن دفعها بأكثر من 4000 مقاتل من شركة "فاجنر" الروسية، وهي مجموعات تم تدريبهم بقاعدة عسكرية بمنطقة كراسنودار، وظهرت للمرة الأولى في عام 2014، عندما دعمت الانفصاليين المواليين لروسيا بشرقي أوكرانيا، ولها مجموعات منتشرة في بعض دول منطقة الشرق الأوسط، و الدول الأفريقية، فيما تتهم موسكو الشركات العسكرية الغربية، لاسيما الأمريكية، بتأجيج المواجهات عبر الدفع بعناصر وخبراء عسكريين لدعم القوات الأوكرانية، والتي تمارس تكتيكات تخريبية في نطاق المدن التي تحاصرها .
لا شك أن ظاهرة المقاتلين الأجانب ستعمل على تنشيط حركة التنظيمات المتطرفة، وتفعيل مكينة تجنيد الكثير من المرتزقة بين صفوفها، ما سيدفع لموجات من العمليات المسلحة في أوروبا والشرق الأوسط والمنطقة العربية.