سقطت الإمبراطورية الرومانية الغربية سنة 476 م ومعها سقطت أوروبا ذات الوجه المضئ؛ محراب التحضر تهدم ولم يتخلف عنه سوى فضلات نسى العمال أن يتخلصوا منها ربما لضيق الوقت.. و بدا وكأن تلك الفضلات قد وجدت طريقها إلى جميع مناحى الحياة آنذاك؛ حتى أزكمت رائحتها الأنوف.. و تراكمت؛ حتى حجبت الضوء عن الأعين؛ والأهم أنها حجبت الضوء عن العقل ذاته؛ نعم أيها السادة لقد بدأ عصر الظلام. يصف مفكرو عصر النهضة تلك الحقبة السوداء من تاريخ أوروبا بأنها "قرون من السلوك اللا إنسانى سادت خلالها الخرافة والجهل بما يستتبعه من انحطاط فكرى وسياسى واجتماعى و ثقافى". ألف عام من الهمجية أحالوا مناحى الحضارة التى كانت فى آوج نشاطها إلى ركام؛ فمع سقوط الإمبراطورية الرومانية تراجع النشاط المعمارى والفنى وفقدت الثقافة اللاتينية مكانتها وتأثيرها بما كانت تحتضنه من علوم وفنون وأداب وفلسفة.. ووقفت قافلة التأريخ وسقط الفكر التنويرى عند أول منحدر وانكمش الشعر الأوروبى العملاق وانزوى فى ركن مظلم يشاهد باكياً الشعر الشعبى والثقافة الشعبية ومسرح الإسفاف والتفاهة يحتلون منصبه فى صورة بشعة أودت بكل التراث المدون فى الوجدان الجمعى للناس إلى طى النسيان. ووسط كل هذا لم يجد العلم كيانًا يعتمد عليه.. فسقط؛ تراجع الطب الأبوقراطى وساد بدلاً منه الطب الشعبى القائم على الخرافة بعدما غلفوه ونسبوه إلى الدين؛ وأصبح الطبيعى أن يهرع المريض إلى مدعى العلم بدلاً من أن يذهب إلى رجال العلم أنفسهم.. يكفى أن الدواء منسوب إلى الدين.. وما نسب إلى الدين فهو من عند الرب؛ وما يأتى من عند الرب فيه الشفاء الأكيد!!؛ هذا الخلط لم يقتصر فقط على ذلك.. بل إن رجال الدين فى ذلك الوقت صاروا يمتلكون هالة ضخمة من القدسية التى جعلت كلامهم منزل لم يعد معه نقاش؛ ومن هنا بدأت مرحلة التحريم.. وابتعد الناس عن كل ما هو محرم من رجال الدين وتابعيهم دون إعمال العقل؛ فقط يكفى أنه صادر عن رجال الدين؛ وما يصدر عن رجال الدين فهو بالتبعية صادر عن الرب؛ وهكذا لنهاية المعادلة. وسادت قاعدة "من تمنطق فقد تزندق". وسط كل هذا تراجع دور العقل وراء سحابة من التعصب وانعدام التسامح ووحدوية التفكير؛ وانحدر المستوى الفكرى وأخذ الإيمان بالغيبيات والأمور العبثية محل التفكير المنطقى السليم وأصبحت الثقافة حكرًا على رجال الدين الذين صاروا - بطبيعة الحال- هم المخولون بالتفكير نيابة عن الناس؛ وتقرير أى من الأشياء يجب أن ينحصر تفكيرهم فيه وأى من الأشياء يجب البعد عنه بصورة تحريميه.. وبالطبع من خرج عن هذا الخط المرسوم كان جزاءه الاتهام بالكفر والهرطقة. وبدأت مرحلة "محاكم التفتيش" تلوح فى الأفق. محاكم مهمتها الوحيده التفتيش فى الضمائر والسرائر وتكفير المخالفين. تحول الأمر بعد ذلك إلى قاعدة ترسخت فى نفوس الناس. ولم يعد تخلى الناس عن التفكير المنطقى والعلمى يتم فقط عن طريق الحجر المباشر على الأفكار من رجال الدين؛ بل تحول إلى عملية تلقائية تنبع من الإنسان ذاته كنتيجة حتمية لانحدار أذهان الناس بعدما أصيب الجميع بالجمود الفكرى الذى صار هو المزاج الثقافى العام والذين صاروا معه لا يتقبلون الآراء المخالفة لما ألفوه من رجال الدين. وعلة ذلك كما جاء به المفكر سلامة موسى فى كتابه حرية الفكر وأبطالها فى التاريخ أنه: "الناس مطبوعون على الكسل والاستنامة إلى ما ألفوه من العادات الفكرية والعلمية. فالإنسان فى أحوال معيشته لا يخترع كل يوم وإنما يجرى على عادة أمسه فيسهل عليه عمله. فإذا ابتدع أحد بدعة جديدة فى اللباس أو الطعام أو الغناء أو الشعائر الدينية أو حتى الأسلوب الكتابى فإنه يصدمنا لأول وهلة و يكلفنا تفكيرًا أو جهدًا كنا فى غنى عنهما لولا بدعته". وهكذا أصبح الناس هم من يحاربون التطور والفكر الجديد لأنه "يخالف ما ألفوه"؛ والجهد الذى كان يقوم به رجال الدين والدولة وقتئذ فى محاربة المنطق وكل من يحاول نشره؛ أصبح الناس هم من يتحملونه خشية أن تتغير عادة أمسهم وهم فى غنى عن ذلك. وكنتيجة حتمية للانحدار الفكرى والأخلاقى بدأ النظر إلى المرأة كونها مجرد أداة فى يد الرجل يروى بها ظمأ شهواته؛ وصارت مثلها مثل أى شىء من حاجياته يقرر لها ما يشاء كيفما يشاء؛ وعمت قاعدة "كل النساء ساحرات غاويات حتى يثبت العكس"؛ وغالبا لم يكن يثبت عكس ذلك؛ ليس لأنها الحقيقة ولكن لأن رجال الدين رسخوا مفهومًا أصبح من ثوابت الحياة آنذاك "المرأة هى مصدر الشر فى العالم؛ وهى العنصر الرئيسى للغواية". وانحصر دور المرأة فى جسد ليس له إلا فائدة واحدة. ترتب على كل هذا بالطبع تفشى حالة من التخلف الفكرى الحاد الذى دفع الناس للركض وراء السحر والخزعبلات؛ وأصبحت الجموع بدلاً من أن تفكر فى كيفية تحسين معيشتهم وخدمة هذه الأرض التى يحيون عليها وفهم الطبيعة من حولهم؛ انحصر تفكيرهم على المواضيع العقيمة التى لن تثمر أو تجدى.. فعم الفقر وتفشت الأمراض والأوبئة؛ وأغلقت دور العلم وانعدمت القراءة وندرت الكتب. و كما صار الناس عبيدًا لأفكار رجال الدين صاروا كذلك عبيدًا للنبلاء و الإقطاعيين. حسنًا.. بعد ذلك سوف تكتشف أن إنسان العصور المظلمة وسط كل تلك الإحداثيات السابقة قد تحول إلى إنسان: 1 _ وحدوي التفكير. 2_ متعصب دينيًا. 3_ معتدى على من يخالفه الرأى . 4_ يحتقر النساء. 5_ يؤمن بالغيبيات. 6_ يخشى التطور والعلم. 7_ يفسر ظواهر الحياة تفسير خوارقى.
تلك الصفات احتضنتها معالم التخلف آنذاك.. ونمت من خلالها وتغلغلت داخل الشعوب حتى صارت كما الجينات الوراثية؛ تولد مع المرء وتورث إلى الأجيال.
الإنسان هو الوسيط دائمًا.
و دور الوسيط هنا - الذى لا يملك قراره حقيقة - جعل الأمور تبدو وكأنها "رغبة " نابعة وربما صادقة من الإنسان ذاته لا مجرد تأثير خارجى عليه من ذوى النفوذ أو رجال الدين.. أنت تتحدث إذن عن مساحة ما فى العقل الجمعى للإنسان تدفعه للانطواء وإيقاف مهمة العقل.. فهل الجهل نابع بالأساس من الإنسان ذاته؟! . الإنسان دائمًا هو الوسيط الناقل للتطور؛ ولا أعنى بالتطور أى التقدم.. بل التغيير؛ سواء إلى الأفضل أو الأسوأ.. والعاطفة هنا - فى أغلب الأوقات عبر التطور الزمنى والتاريخى - كانت هى المحرك الأهم لهذا الوسيط؛ ربما لأنها - أى العاطفة- هى المعالج الأسرع للتأثر بالأشياء.. أو على الأقل فإنها رقم 1 فى المعادلة؛ يأتى بعدها دور العقل ليؤكد ويرسخ تلك الفكرة التى تأثرت بها سابقاً العاطفة.. حسنًا؛ ماذا إذن عن عقل توقف تماماً عن العمل؟! . كانت مشاهد التخلص من "الزنادقة" فى العصور المظلمة دالة أكثر على ذلك.... والزنادقة هنا هم هؤلاء الذين حاولوا التفكير خارج الإطار باحثين في ما هو دون المعلبات الفكرية الجاهزة.. و إعمالاً بمبدأ "من تمنطق فقد تزندق" بدا ترحابًا واسعًا لدى الناس لقرارات الإعدام تلك والتى توالت حتى وسعت كل شيء.. ترحابًا مغموسًا بكثير من التشفى والانتقام فى مشهد منفر وغريب على الطبيعة البشرية؛ لكن السؤال.. هل سبب هذا الترحاب أن الناس وجدت فى قرارات الإعدام تلك خلاصًا من مشقة التفكير فيما جاء به هؤلاء ال" زنادقة "؟. الإرهاصات الدائرة فى مصر الآن تدفعك للتساؤل.. هل مصر على مشارف ظلامية جديدة ؟! ... حقا الأمر أصعب من أن تدركه تلك الكلمات.. لعله أوسع وأعمق؛ حالة الإحباط المتفشية فى تلك المرحلة ربما تكون جزءًا من السبب؛ لكن الموضوعية تقتضى منا قليلاً من الانصاف.. التيار الإسلامى فى مصر يبدو أن نجمه أخذ فى السطوع؛ لكن المشكلة أننا ننظر للأمر من زاوية شيوخ الوهابية والسلفية فقط.. أين إذن الطرف الآخر فى المعادلة؟! . لقد عانى الإنسان المصرى سنينًا طويلة تحت وطأة الذل والقمع وكبت الحريات.. وغاب دائمًا البديل السياسى من أفكار أو أيديولوجيات سياسية؛ فلم يكن بديل أمام الناس فى مصر سوى التيار الدينى.. هذا تيار يعطيك علب فكرية جاهزة لكل شيء.. "حتى وإن لم تصبح حياتك أفضل معنا على الأرض.. فتذكر أنها فانية.. وموعدكم الجنة " .... يبدو أن مفاتيح الجنة نزلت على الأرض.. وهى بيد التيار الإسلامى الآن!. التيار الدينى لا يرهق الناس.. هو يعطيهم ما يريدون حقًا - حتى ولو كان ظاهريًا فقط -.. دعك من أنه يلعب على أوتار حساسة داخل الإنسان المصرى المتدين بطبعه - حتى لو كان ظاهريًا أيضًا -؛ إذن فالمعادلة متكاملة ومتطابقة.. نحن نعرف ما تريد.. وأنا أفضل ما تقولون وكفى... أما باقى الأيديولوجيات السياسية فتستدعى التفكير.. دعك من أن بعضها منفر - لطبيعة المصريين - وبعضها صعب الإدراك وبعضها أخفق مريديها فى التعبير عنها بالأساس. المجتمع المصرى الآن لم يعد يملك الطاقة على التفكير.. هو مرهق بما فيه الكفاية؛ إنه يريد تحليلاً جاهزًا للحدث.. وخطابًا سياسيًا عاطفيًا.. ولقمة وأنبوب بوتاجاز.... وكفى. هل يعنى ذلك أن التيار الدينى فى مصر الآن مثله مثل باباوات أوروبا الظلامية ؟! ... لن أتحدث عن الإرهاصات التى صدرت عن جمع من أعضائه وهم كثر... من السهل أن أقول لك إن الظلام قادم لا محالة مع أناس مثل هؤلاء.. لكن الأحكام القاطعة فى أمور كهذه ليست من العقل فى شيء.. بأيديهم الآن فرصة ذهبية ربما لن تأتى مرة أخرى.. فكيف لهم أن يستخدموا تلك الفرصة ؟!.. هذا ما ستسفر عنه الأيام القادمة.