منذ ألف عام تقريبا، بعد أن فتحت الدولة العباسية الأبواب علي مصاريعها للفلسفات اليونانية في حركة ترجمة نشطة ومزدهرة، ظهرت جماعة إسلامية جديدة من تلك الجماعات التي يصعب حصرها في تاريخ الدولة الإسلامية والتي تتخذ دائما منهجا مخالفا للتيار العام، وتصل أحيانا إلي حد العداء والمحاربة، وكان من الطبيعي أن تنتهي هذه الجماعات والملل والنحل بأن تقضي عليها الدولة بما تتميز به من قدرات عسكرية هائلة، أما جماعة الصفا وخلان الوفا يا له من اسم جميل يبعث في النفس السكينة والاطمئنان فقد تصدت لإنجاز أصعب مهمة في التاريخ وهي التوفيق بين الدين والفلسفة في زمن قيل فيه " من تمنطق تزندق" يعني مجرد أن تتحمس لدراسة علم المنطق عند أرسطو، فهذا معناه أن حضرتك تحولت إلي زنديق، أمر صعب للغاية أن تقيم جسرا بين العقل والقلب وخاصة في العبادات والمعتقدات الدينية، غير أنهم واصلوا مهمتهم في شجاعة وكان لابد عند تفعيل هذه الفكرة أن يصلوا إلي فكرة وحدة الأديان وعدم تناقضها مع بعضها البعض طالما كانت جميعها تعمل علي رقي البشر وسعادتهم، إنها محاولة قديمة للغاية لرسم طريقة للإنسان يصل بها إلي الخير الأسمي، ومع ذلك فقد اتهمهم مؤرخون كثيرون بأنهم جماعة باطنية خارجة عن الإسلام وكانت تعمل علي تدميره، وكأن الإسلام لم يحض الناس علي احترام أصحاب الأديان الأخري وإجلال وتوقير أنبيائهم. الواقع أن فكرة الباطنية في حد ذاتها، كانت ما يميز السلوك العام في تلك الفترة، بمعني ألا تسمح لأحد أن يعرف حقيقة ما تفكر فيه (اتقاء) لما يمكن أن يحدث لك من أذي أو أضرار، هذه هي ما نسميه التقية. الواقع أن الباطنية في الإدارة والتفكير كفيلة بالقضاء علي أي تشكيل أو تنظيم بعد فترة من الوقت، وهي أيضا المسئولة عن إحساس الناس بالشك فيهم وفي نواياهم إلي الدرجة التي اتهموا فيها بالعمل علي القضاء علي الإسلام. أنا أعتقد أن جزءا كبيرا من عداء الناس لهم راجع إلي سمو أفكارهم الإنسانية لدرجة تشعر سواد الناس بالفزع ومنها (أنا أنقل عن الدكتور صابر طعيمة الذي يري هو أيضا أنهم كانوا يشكلون خطرا علي الإسلام) أريدك أن تقرأ علي مهل الجملة التالية لتتبين مدي ما فيها من بلاغة وقدرة علي التكثيف والاختصار والقدرة علي الذهاب مباشرة وبوضوح إلي الهدف " إن المثل ألأعلي للإنسان هو: إنسان عالمي نشأ في فارس وتدين بالإسلام، واعتنق المذهب الحنفي، وعشق أدب العراق، وصار عبرانيا في مخبره، مسيحيا في منهجه، شاميا في نسكه، يونانيا في علمه، هنديا في بصيرته، صوفيا في سيرته، ملكيا في خلقه، ربانيا في رأيه، إلهيا في معارفه" هي ليست إذن جماعة منغلقة فكريا علي نفسها، أو أنها واقعة في فخ الإعجاب بالذات إلي الدرجة التي تتصور معها أنها أفضل من الآخرين، بل هي قادرة علي رؤية مزايا الآخرين من أصحاب الرؤي الأخري. هم يعملون علي الوصول إلي الإنسان العالمي قبل ألف عام من حديثنا عن العولمة. أن تكون نفسك أولا، ولكن لا تجعل منها درعا يمنع أفكار الآخرين من الوصول إليك، عليك أن تعمل بكل الطرق علي الوصول إليها وانتقاء ما أنت في حاجة إليه، أنت لست أفضل من الآخرين إلا بمقدار ما تقدم للدنيا من فضل. كن نفسك.. ولكن اشحن هذه النفس بالرغبة في أن تكون كل الناس، استمع لكل الألحان ولكن لا تطرب إلا للجميل منها.