إذ يحتفل العالم اليوم "الأربعاء" بعيد الحب فإن اليوم يبقى مصدر إلهامات ثقافية وإبداعات أدبية ناهيك عن جوانبه الاقتصادية بينما تتسابق الصحف ووسائل الإعلام المختلفة في رصد وتغطية الاحتفالات بهذا اليوم الشهير ب "الفالانتين" حول العالم . وإذا كانت اقتصادات بعض الدول في أمريكا اللاتينية مثل كولومبيا وفنزويلا تنتعش في "موسم عيد الحب" جراء مبيعاتها من الزهور التي ترمز للحب فإن متاجر الزهور في مصر تبدو الآن منتعشة أيضا بينما تتفق "وصفات هذا الاحتفال" في وسائل الإعلام المصرية مع غيرها من وسائل الإعلام في دول أخرى على أن "الورود الحمراء ضرورية للتعبير عن مشاعر الحب في هذا اليوم مع بعض النصائح الأخرى حول افضل الهدايا". ولم تغب المؤسسات الثقافية المصرية عن هذا الاحتفال العالمي حيث نظمت دار الأوبرا "مهرجان عيد الحب" الذي بدأ امس "الثلاثاء" ويستمر حتى يوم غد "الخميس" بثلاث حفلات على التوالي للمطربين مدحت صالح وهاني شاكر وعلي الحجار. ولئن كانت احتفالات صرح ثقافي مصري كدار الأوبرا بعيد الحب على مدى ثلاثة أيام تسعى للتعبير الفني عن قيم الحب النبيلة فإن "التعبيرات الفنية للحب في سياق ما يسمى "بفلسفة ما بعد الحداثة وأولوية المتلقي" تؤرق مثقفين مصريين مثل غيرهم من المثقفين في بلدان أخرى الذين يشعرون بالقلق حيال "انحسار بكارة المشاعر". ولعل هذا النوع من "الأرق الثقافي" الآن يفسر الاهتمام الملحوظ في الثقافة الغربية "بزيارات جديدة للحب في زمن مضى" واستعادة كتابات مثقفين كبار حول الحب مثل الشاعرة والكاتبة الفرنسية مارجريت دوراس التي تعد من أهم أدباء الغرب في النصف الثاني من القرن العشرين وقضت في الثالث من مارس عام 1996. فروايتها الشهيرة "العاشق" التي صدرت عام 1984 وترجمت لنحو 50 لغة ونالت بها جائزة جونكور الأدبية الفرنسية الرفيعة المستوى مازالت تترجم من جديد للانجليزية في طبعات جديدة وتثير نقاشات ثقافية جديدة حول "مفاهيم الحب عند مارجريت دوراس". وفي الولاياتالمتحدة صدر مؤخرا كتاب جديد يضم مختارات من أعمال هذه الأديبة الفرنسية واهمها "العاشق" وروايتها :"السيد في مواجهة الباسفيك" ومسرحية "الميدان" مع مقدمة بقلم الكاتبة والقاصة الأمريكية راشيل كوشنر التي سعت كغيرها من المبدعين لقراءة جديدة "للعاشق". ولعل تاريخ الحب يتوقف مليا أمام حالة زوجها الأديب الشاب يان اندريا الذي بقى مع مارجريت دوراس حتى اللحظة الأخيرة في حياتها مع أنه كان يصغرها بأعوام كثيرة وأغلق على نفسه الأبواب ليعتزل الناس لفترة طويلة بعد رحيلها فيما استحق "جائزة عيد الحب الأدبية الفرنسية" منذ 18 عاما. وفيما ذاع صيت مارجريت دوراس أيضا بفضل كتابتها لسيناريو الفيلم الشهير "هيروشيما حبيبتي" فإن السينما المصرية منذ بدايتها اهتمت بقضايا الحب كما يتجلى في فيلم "زينب" الذي أخرجه محمد كريم عام 1930 عن رواية للمفكر والأديب الدكتور محمد حسين هيكل ليكون هذا الفيلم من الإسهامات الإبداعية المصرية المبكرة في "الفن السابع" وليخلد اسم بطلة الرواية والفيلم على غرار ما حدث "لجوليت شكسبير ومارجريت جوتييه أو غادة الكاميليا لألكسندر دوماس". ومن الكتب التي استرعت الاهتمام حول قضايا الحب واتخذت شكل رواية ترجمت مؤخرا للعربية بعنوان :"انت قلت " حيث تتناول الروائية الهولندية كوني بالمن سيرة الحب بين الزوجين الشاعرين الراحلين الانجليزي تيد هيوز والأمريكية سيلفيا بلاث . و"الحب" حاضر دوما في إبداعات وكتابات مثقفين مصريين مثل الكاتب والشاعر الكبير فاروق جويدة الذي يخاطب قارئه قائلا :"ابحث دائما عن لحظة حب تعيشها" فيما يتناول الحب بنظرة شاملة فيقول :"لا تنظر كثيرا في تلك العيون التي تقتحم حياتك كالسهام وهي لم تعرف الحب في يوم من الأيام..لابد أن تحب عملك كي تنجح فيه ولابد أن تعطي الناس قبل أن تأخذ منهم". وإذ يتساءل :"هل فكرت يوما أن تزور أماكن أحببتها ؟"يضيف جويدة :"إن كل لحظة حب عشتها مع هذا العالم الكبير الذي يحيط بك أصبحت جزءا منه..ان الأماكن قصة حب لأنها ليست فقط أعمدة من الأسمنت لا تنطق..إن لها لغة هي لغة المشاعر وهي قادرة رغم ما يحيط بها من الصمت أن تصافحك". ومن الواضح أن الحب عند هذا الشاعر المصري الكبير يقترن بالذكريات الجميلة والمشاعر الصادقة وهو الذي قال :"من الصعب أن ينسى الرجل امرأة أضاءت حياته وحلقت به في أبعد نقطة من هذا الكون..إن مثل هذه المرأة تأخذ في أعماق الإنسان مكانا تسكن فيه لا الأيام تغيرها ولا زحام الوجوه يخفي ملامحها". وطريف ما يقوله فاروق جويدة :"إن وجدت نفسك على الشاطيء فلا تفرط فيه وإذا وجدت نفسك غارقا بين الأمواج دون أن تمتد إليك يد فهذه هي نهاية العشاق حين يخطئون الطريق" مؤكدا على أنه لا ينبغي أن يخجل الإنسان من استرجاع ذكرياته لأنها آخر ما بقى له". ومن الواضح أن أسئلة الحب تثير الجدل حقا مع ظواهر تتوالى وبعضها ينطوي على تساؤلات ثقافية ملحة ومع واقع حافل بالتحديات والمتغيرات التي طالت مفهوم الحب ذاته..وبين أفراح وتباريح تتبارى مواقع التواصل الاجتماعي على الشبكة العنكبوتية في نشر أخبار وصور احتفالات عيد الحب فإن الصخب الاحتفالي لن يغطي على السؤال الصعب :"هل يرقص الحب الحقيقي ذبيحا..هل يرقص الحب الحق من وطأة الألم"؟!. وفيما يتحدث شاعر كبير مثل فاروق جويدة عن "حشود الكراهية وسنوات العمر التي لا تعود وتستحق ان نحبها فان هناك من يتحدث أيضا عن "صفصاف الذاكرة الذي يبكي حول أنقاض العمر" بينما يمضي الشباب في ابتكار رؤى جديدة للحب وتعبيرات مغايرة قد تثير نوعا من الدهشة كما حدث منذ نحو ثلاثة أعوام في معرض القاهرة الدولي للكتاب. فحينئذ توالت علامات الدهشة بين بعض المثقفين حيال الرواج الكبير لكتاب "حبيبتي" للمطرب الشاب احمد ثروت الشهير باسم "زاب"في الدورة السادسة والأربعين لمعرض القاهرة الدولي للكتاب حتى انه تحول لظاهرة في تلك الدورة بمحتواه غير التقليدي والبسيط الذي أثار تأملات حول معنى الحب في القرن الحادي والعشرين فيما قال المؤلف ومغني الراب "زاب ثروت " إن كلمة "حبيبتي" لها الكثير من المعاني معتبرا أن الهدف من كتابه "إعلاء قيمة الكلمة". وأوضح ثروت أن كتابه المثير للجدل "تفاعلي" وهو ببساطة مجموعة رسائل تتناول معنى كلمة "حبيبتي" ومن يستحقها حقا ومنها رسائل للأم والأخت والإبنة والزوجة والوطن نافيا صحة وجود أي إيحاءات غير أخلاقية في هذا الكتاب. وبعيدا عن ظاهرة كتاب "حبيبتي" وغيرها من الظواهر الشبابية فمن نافلة القول انه لا حياد في الحب ومن هنا فهو ارض الشعراء الذين لا يعرفون الحياد في المشاعر وما كان لهم إلا أن يسيروا حتى نهاية القصد وذروة القصيد كما تسير الكواكب نحو أوجها. ومن هنا يؤكد الشاعر المصري الكبير فاروق جويدة على أهمية الاحتفال بعيد الحب معتبرا "إن السبب في الكوارث التي تحيط بنا أن الحب سافر من دنيا البشر" ومنوها بأن "الحب هو الذي منح الحياة جلالها منذ بدء الخليقة". ولولا الحب - بتعبير الشاعر فاروق جويدة - ما غامر الإنسان في حياته بحثا عن الأجمل والأفضل ولولا الحب ما كان الإبداع الجميل والفن الراقي والحكمة الصادقة فيما يعتبر "أن الحب يلون الأيام ويزيل عنها الصدأ وحين غاب الحب عن البشر تراجعت مواكب الأحلام وأصبح الإنسان فقيرا في مشاعره بخيلا في أحاسيسه". و"الحب" كما يقول الشاعر السوري الكبير علي احمد سعيد الشهير بأدونيس اقوى من "القصف الكيماوي" وهذا الشاعر الذي يعيش في باريس كثيرا ما يقرأ الكون "بعين الحب والجمال" وكثيرا ما يبدو صوته "كقيثار بأصوات متعددة" ويمزج بين الضوء والظل ويطلق في قصائده طيور الحياة فيشيد بالحب للشعر العربي بيتا عاليا في مدينة الكون !. فالحب عند ادونيس تحالف مع الفن وابتكر أجنحة وتجاوز أفقا عربيا تقليديا لايزال يتنفس السراب ليمضي الشاعر الكبير باللغة ومع اللغة يتعانقان في بهاء باذخ قابضا على الحلم النبيل بأن تكون الأرض العربية يوما ما ارضا للحب وان تكون بيتا ومدينة للعقل والقلب والعمل للجميع بلا تمييز وذاكرة للإبداع لا القتل!. وبالحب كان لأدونيس أن يمتلك القدرة المتواصلة على الكتابة في واقع يلتهم القدرة حتى على التخيل وهو القائل :"إذا قدرت أن تتفيأ ظل الفراشات فذلك يعني انك قادر ان تطير بأجنحتها" ولئن سأله سائل :"قل لنا أين يطوف عقلك"؟! يجيب قائلا :"في الأطراف القصوى, في لجج ما يختمر ويتكون بعيدا عما يسود ويهيمن". وفي يوم شتاء كهذا الذي يحتفل فيه العالم بعيد الحب يتساءل ادونيس :"من يقدر أن يتنبأ بنية الريح من يعرف ماذا تضمر العاصفة؟" وبعقله الشاعر اللاقط للمتناقضات والمفارقات ها هو يقول ويتساءل :" من الصديق في هذا العصف الذي يهز الخرائط"؟! فها هي الأيام رياح تتلاقح و"المشهد حبر لكل افتراض ولكل احتمال"!. وهناك شعراء كبار مثل السوري الراحل محمد الماغوط بدوا فى حالة بحث عن شىء اسمه الحب وهو الذي قال يوما ما :لقد اعطونا العطر والخواتم وأخذوا الحب . أما الشاعر الأمريكى هنرى كول يرى أن اللغة تتحول بالحب الى فن ..فهل يمكن للكلمة أن تكون معادل الحب وان تتحول لأوراق تنبض بالحياة مقابل أوراق تتساقط فى الخريف؟!. وفي تأملات بالغة العمق والعذوبة للشاعر الأمريكى هنرى كول فى قضايا الحب وشجونه وهو ينظر فى قصائد الشاعر الفرنسى الكبير شارل بودلير يوضح ان كثيرا من قصائد صاحب ديوان "ازهار الشر" كانت "تستكشف الطابع المتغير للجمال فى خضم تحولات باريس الى مدينة صناعية". وينظر كول لديوان "أزهار الشر" الصادر عام 1857 باعتباره "اللحن الأخير للرومانسية قبل أن توارى الثرى" فيما يتناول نظرة بودلير للحب الى جانب فنانين وكتاب عظام قدر لهم ان يعيشوا فى باريس مثل الفنان الأسبانى بابلو بيكاسو والكاتب الروائى الأمريكى ارنست هيمنجواى والأديبة والناقدة الأمريكية جيرترود شتاين. وتحت عنوان :"شارع الشاعر " تحدث الشاعر الأمريكى هنرى كول عن أيامه فى" الحى اللاتينى" بباريس وعن شوارع تفوح بعبق ذكريات الحب ونهر السين والمكتبات ودور السينما وبرج ايفل وحدائق لكسمبورج وتمثال بودلير والزهور التى وضعها عند نصبه التذكارى دون أن ينسى إلقاء نظرة على الفنادق الرخيصة التى قضى فيها المبدع الانجلو-ايرلندى اوسكار وايلد أيامه الأخيرة فى بداية القرن العشرين . وبين عامى 1982 و1988 شغل هنرى كول منصب مدير أكاديمية الشعر الأمريكى ونهض بتدريس فنيات الشعر وجماليات القصيدة فى العديد من الجامعات حتى استقر به المقام فى جامعة اوهايو وبات من اعلام القصيدة الأمريكية المعاصرة كما توضح مجلة "ذى نيويوركر". هذا شاعر فى حالة حب ومهموم بسؤال حول ديمومة الشعر الأمريكى كجزء من همومه كشاعر والطريف انه خلافا لما يردده البعض من ان "اجمل الشعر اكذبه"- يرى هنرى كول ان الشعر لايجوز له ان يكذب حتى لو كان النثر فى القصة او الرواية يكذب فى قضايا الحب. في الكتابة عن الحب للحروف شذى ياسمين وضمائم فل وندى وبيت موعده الحلم ومقامات الحرية..إنها الكتابة الشاعرة بكلمات تستدعى صوت فيروز فى الشتاء عندما يحلو شدوها الفتان :"أعطنى الناى وغنى"..ومرحبا بالكتابة الشاعرة عن الحب في عيد الحب وفي كل المواسم والمدارات !.