لعلَّنا نتَّفق على أن السَّبب الرئيس في تخلُّف العالم الإسلامي المعاصر، هو عجز النُّظُم التربوية في البلاد الإسلامية عن إخراج الإنسان المؤهَّل لتشخيص أزمتها القائمة، والعملِ على استخلاص الحلول الإسلامية لها. وربما حاول أصحاب القرار التغلُّبَ على تلك المشكلة؛ فراحوا يرسلون البعثات الدراسية إلى الخارج، ويقيمون المؤسسات التربوية في الداخل، لكنَّ محاولاتهم باءت كلُّها بالفشل؛ حيث ظلَّت تلك المؤسسات ولا تزال قَفْرًا من المؤهِّلات والخُطط والمناهج اللازمة لقيامها بالدَّور المطلوب منها في المجتمع!! لقد انقسمت المؤسَّسات التربوية في العالم الإسلامي إلى قسمين: قسم قلَّد «الآباء» الماضين، فلم يعُد عنده أدنى تصوُّر لما تعنيه العملية التربوية ومكوِّناتها، بل تمثَّل محور التربية عنده في مجرد سَرْدٍ قصَصيٍّ لمآثر الآباء على أسماع الناشئة في قاعات الدَّرس، وربما دَعَم ذلك صيحاتٌ غاضبة من بعض الخطباء على المنابر هاتفين بالناس: (عودوا إلى الإسلام.. عودوا إلى الإسلام!)، لتكون المحصلة النهائية: جهلًا مركبًا بكيفية العودة إلى الدِّين، أو عمارة الدنيا. والقسم الآخر قلَّد «الغرباء» المعاصرين، فأضحى مجرَّد «وكالات تربوية» للمؤسسات الغربية، توزع منتجاتها، وتترجم مطبوعاتها، وتُعرِّف برجالها وأعلامها، وتُدرِّس مناهجها وأنشطتها؛ لتكون ثمرة ذلك: زرع مشاعر النَّقص والضَّعَة والهوان في نفوس الناشئة، وتهيئة المتفوقين منهم للانسلاخ العقلي والنفسي من مجتمعاتهم الأصيلة عند أوَّل فرصة. والحقيقة أنه لا فرق بين كلا الاتجاهين؛ إذ الجميع يمرح في غيابٍ عن واقع الحياة القائمة وحاجاتها ومشكلاتها، وكلاهما يعمل على تعطيل العقل، وإن اختلفت مظاهر التعطيل. لقد أدرك بعض الباحثين التربويين في عقد الثمانينات من القرن العشرين: أن العالم الإسلامي يعاني من «اغتراب في نظم التربية»، وأنه لا بُدَّ من «أسلمة» تلك النُّظُم لتجاوز الأزمة؛ فصدرت على إثر ذلك مؤلَّفات، وعُقدت لقاءات ومؤتمرات، كان ناتجها في مجمله مجرَّد الإشادة بثمار التربية الإسلامية في عصور السَّلَف الأوائل، مع إطلاق تعميمات نظرية، ربما تزوِّد الدارسين بالشّحنات الشعورية اللازمة لموالاة الإسلام، لكنَّها لا تُفرز علمًا يمكن تحويله إلى مناهج ونُظُم ومؤسَّسات؛ لأنها وللأسف لا تميز بين مستوى الفهم التجديدي، وبين المستويات التي تعوِّق هذا الفهم أو تمنعه، إذ البحث في التربية الإسلامية هو نوع من الفهم البشري للإسلام، وليس هو الإسلام نفسه الذي تتضمنه نصوص القرآن والسُّنة. كان مما أفرزته تلك التجربة وللأسف فلسفة تربوية تُوظِّف الإسلام ك «أيديولوجية» اجتماعية أو حزبية، تهدف إلى إثارة العقل الجمعي، وتعبئة المظلومين ضدّ الظالمين، ثم إطلاق قوى الصراع بين الطرفين على المستوى الاجتماعي أو الحزبي أو الدِّيني. لقد بدا واضحًا لجميع الخبراء التربويين بعد هذه التجربة أن الحاجة ماسَّة إلى صياغة «فلسفة تربوية إسلامية»؛ تعمل على تقديم التربية الإسلامية كرسالة إصلاحية، تُلبي حاجات المجتمع الإسلامي المعاصر، وتحقِّق آماله، وتساعد أبناءه على دخول معترك الفكر التربوي العالمي، الذي يتطلَّع إلى من ينقذه من أزماته الراهنة. إنَّ على المسلم المعاصر أن يدرك أحكام عصره، ويصوغ مضمون رسالته بدقة ووضوح، بدلًا من التغني بالتراث، وأمجاد الآباء والأجداد. لا بُدَّ لنا من «فقه تربوي» يستهدف توضيح المقاصد والغايات، ويرشد إلى طرق البحث التي توصِّل إلى تلك المقاصد، ويضع المعايير التي تحكم على قضايا التربية، ثم يسعى في إقامة علاقة المتعلِّم بالكون المحيط به؛ وفقًا لتلك المقاصد والمعايير. إن التفاعل الجاري الآن في «قرية العالم الكبيرة»، ليس إلا مظهرًا لبداية طَور جديد، تتفاعل فيه اللغات والعقائد والتطبيقات الاجتماعية والأجناس البشرية وتتداخل فيما بينها بشكل لم يحدث من قبل، والذين سيدخلون إلى هذا الطَّور الجديد، ليكونوا مادة الأمة العالمية ذات الحضارة الإنسانية الواحدة، لا بُدَّ لهم من مواصفات خاصة، أهمها: بلوغ درجة الوعي بهذا الطور، أو على الأقل القدرة على استشراف آفاقه ومعطياته، وربما وجد العالم بغيته في تلك الطلائع القيادية المتناثرة في أرجاء العالم، من أمثال: موريس بوكاي، ورجاء جارودي، وجيمس بيكر، وجوناس صولك، ورينه دوبو، وأبراهام ماسلو، وألفن توفللر. إن العالم المعاصر يتفاعل بسرعة شديدة، طبقًا لقانون اجتماعي يسميه جوناس صولك: «البقاء للأكثر وعيًا وحكمة»، والمنشود من التربية الإسلامية أن ترتفع إلى المستوى الذي يؤهِّلها لإخراج جيل يستشرف ملامح الطَّور العالمي القادم، ويعي مقوماته، ثم يتسلَّم زمام الدَّعوة إليه، والإنذار من التخلُّف عن عبوره، وأن تمدَّ الجسور الثقافية بينها وبين الآخر، لتعبر من خلالها إلى العقول والقلوب. علينا أن ننظر إلى التطورات الجارية في «القرية العالمية الواحدة» نظرة متحرِّرة من عُقَد السلبية والسوداوية والجمود وضيق الأفق، وسطاءَ بين الناس، شهداءَ بالقسط، نقول لصاحب الحق: هذا حق، ونباركه. ونقول لصاحب الخطأ: هذا خطأ، ونجادله بأحسن مما عنده فكرًا ووضوحًا وصوابًا، فلا نبخس الناس أشياءهم، ونكسب احترامهم، إن لم نكسب مودَّتهم، فنكون أمناء على الحقِّ كما أراد الله للمؤمنين.