الناظر المدقق في تاريخ الحضارة الإسلامية، في عصورها الزاهرة، يلحظ أنها أثْرت الحياةَ الفكريةَ والتربويةَ والثقافيةَ والاجتماعيةَ بشكل لم يسبق له مثيل في تاريخ الإنسانية، ومع هذا لم نستطع تسويق بضاعتنا تسويقًا يؤكد مكانتنا، بل أخذ غيرُنا كثيرًا منها، وطوروها وأضافوا إليها، ونشروها في العالم ليستفيد منها الأجيال. إن أمتنا صاحبة الرصيد الحضاري العريض في أمس الحاجة للإنطلاق إلى آفاق النهضة والتقدم والريادةكما انطلقت شعوب كثيرة، كانت فيما سبق قليلة الرصيد المادي والحضاري، مثل: اليابان التي دمرت عن بكرة أبيها (نفسيًّا ومعنويًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا)، بعد إلقاء القنابل الذرية على هيروشيما ونجازاكي.. ومع ذلك بهرت العالم بإرادتها وإدراتها ورغبتها الملحة في ترك بصامتها في جنبات الدنيا... ولو قدر لنا أن نستثمر تراثنا الحضاري في شتى النواحى؛ لاستعادت أمتنا ريادتها وسيادتها، ولحققت من خلال ذلك نفعًا لحاضرها ولمستقبلها، ولأصبحت عنصرًا فاعلا في الحضارة الإنسانية المعاصرة، وليست مجرد مستورِدة ومنتفعة بإبداعات الآخرين.. ولكننا كما قال علماؤنا وهم يشخصون واقعنا المؤلم: بأننا مرضى، وشَخَّص الأطباء مرضَنا، ووصفوا دواءنا، وهو سهل وميسر، لكن أيدينا -لغياب التخطيط المنظم والرؤية الإستراتيجية لدينا- لم تمتد لتعاطي هذا الدواء. إن علاجنا يكمن إلى حد كبير في إعادة النظر إلى تراثنا وتنقيته وإلقاء الضوء عليه، وكشف الجوانب الإيجابية فيه، وتحقيق التفاعل والمواءمة بينه وبين متطلبات العصر، مع الفهم الدقيق للمنهج القرآني والنبوي في صياغة حياتنا، صياغة تقوم على عنصرين آساسيين، أولهما: الفهم المستنير للمنهج القرآني والسنة الشريفة، بما يحقق الاستنارة بمقاصد الشريعة، وثانيهما: توظيف هذا الفهم في معالجة القضايا الحياتية المعاصرة.. وعلى سبيل المثال فإن ما ذكره علماؤنا القدامى حول التربية والتعليم من حيث: أهدافها، وأسسها، وضوابطها...إلخ،على الرغم من إنها قيم تراثية،إلا إنهافى الحقيقة -على ضوء العلم الحديث وأصول التربية المعاصرة- تصلح لأن تكون نافعة لمدارسنا في العصر الحديث. ولنقرأ سطورًا مما كتبه القدماء المسلمون حول مفهوم المدرسة ودور العلم ومساكنها وضوابطها والسلوكيات الواجب الالتزام بها، وسنجد أنفسنا أمام صروح من الفكر التربوي الفريد الذي يؤكد على تميز العقل الإسلامي، وسبقه إلى المنهجية العلمية التي أفادت الدنيا. فتاريخنا عظيم، فيه الخير كل الخير.. فيه ما يجعل هاماتنا عالية شامخة إلى عنان السماء. وأستأذن القارئ الكريم لأصطحبه في رحلة تربوية إسلامية؛ ليرى العجب العُجاب، في حضارتنا الخالدة.. من خلال جولة سريعة في المساكن الداخلية في مدارس الحضارة الإسلامية -فقط- وما قدمته للتربية من إسهامات قلما يجود الزمان بمثلها. لقد قامت المساكن الداخلية في المدارس الإسلامية عبر تاريخ الإسلام المديد بجهودوفكر تربوي محوري استفاد منه الغرب قبل الشرق، وأسست لبزوغ الكثير من العلوم والنظريات التربوية التي توجه عمليات التربية والتعليم توجيها سليما.فلم تكن هذه المدارس أبدًا مكانًا للسكنى والمُقام فحسب؛ بل كانت أماكن للتربية والتهذيب والتعليم والعبادة، وكانت محاضن خصبة لتكوين القيم والأخلاق والسلوك الرشيد، واستنبات معالم القدوة من أصحابها، وكانت بوتقة لاستنهاض عناصر الخير والهمم والمروءة في نفوس المتعلمين. وهذا ما لا حظناه في الدراسة المتميزة للدكتور إبراهيم بن محمد المزيني، عن المساكن الداخلية في المدارس الإسلامية، (مجلة المؤرخ العربي، العدد 6، المجلد 1، مارس 1998م)، والتي نقتطف في السطور التالية بعض المعالم التربوية مما جاء فيها. حيث أشار الكاتب إلى أن "المساكن في المدارس الإسلامية عبر التاريخ كانت تختلف في جودتها وإمكاناتها من مدرسة لأخرى، إذ اشتهرت كثير من المدارس بجودة مساكنها، وانعكس ذلك على إقبال طلبة العلم عليها.. وكان الساكنون فيها ينعمون -إلى جانب إقامتهم- بخدمات متعددة ومتنوعة، وكانت أيضا تختلف من مدرسة لأخرى تبعًا لظروف أوقافها، وشروط واقفيها. ولعل أبرز تلك الخدمات تتمثل في: الجرايات والرواتب الشهرية، والطعام واللباس.. فالطعام كان يعدُّ في مطابخ خاصة داخل المدارس ويقوم بإعداده طهاة مختصون، وكثيرًا ما تشير حجج الأوقاف الخاصة بهذه المدارس إلى كثير من الأطعمة التي يجب أن تتوافر للطلاب من: خبز ولحم وأرز وعسل وحبوب ورمان وغير ذلك. كما كانت توفر الألبسة لساكني المدارس طيلة مدة إقامتهم فيها.. فضلا عن النظافة والإنارة والحراسة، إذ لم يكن الدخول والخروج من المساكن الداخلية يتم عشوائيًّا؛ بل يتم وفق نظامٍ دقيقٍ، وضعه القائمون على هذه المساكن، فهناك حرس يلازم باب المدرسة؛ لصيانتها وحفظ ما فيها من أثاث ومتاع، ولمراقبة وتنظيم الداخلين إليها والخارجين منها وفق نظم معينة. واشتُرط في الحارس أن يكون يقظًا أمينًا. وكان هناك "الفرَّاشون" الذين يتولون تنظيف المدرسة ومساكنها الداخلية، وهناك "القومة" الذين يتولون الإشراف على إنارة المدرسة ومساكنها الداخلية، وتعمير القناديل، وعمل الصيانة اللازمة لها، ومسحها وتنظيفها بصورة دورية منتظمة.. وهناك أيضا الرعاية الطبية الشاملة للمدرسين والطلاب، وكان الطبيب يتوجه إلى المريض من المدرسين أو الطلبة في مكان إقامتهم بالمدارس أو الأروقة، ولا يكلف المريض الحضور إلى الطبيب، وكان يقدم له الدواء الناجع، ويظل يتردد عليه حتى يتعافي من مرضه بإذن الله. ويتحدث الكاتب عن شروط المساكن وآدابها موضحا أن نظام السكنى في هذه المساكن كان يتم وفق ضوابط وترتيبات دقيقة، يضعها ويشرف على تنفيذها القائمون على هذه المدارس، حيث وضع بعضهم شروطا مثل: أن يكون الطالب أعزبا غير متزوج، وألا يبيت خارج مساكن المدارس إلا أياما معدودات يحدد الواقف عددها... إلخ. والجميل أن المساكن كانت توزع حسب الأعمار وحسب القدرة؛ إذ جُعلت المساكن المرتفعةللقادرين على الصعود إليها، أما الضعفاء، ومن يقصده الناس للفتوى، فتخصص لهم المساكن السفلية بتلك المدارس. وكان الساكن يختار مَن يجاوره ممن أصلحهم حالا وأكثرهم اشتغالا وأجودهم طبعًا؛ ليكون مُعينًا له على ما هو بصدده. فضلا عن الآداب والشروط الدقيقة التي وضعها الفقهاء والواقفون لتحديد العلاقة بين الطلاب والمدرسين في المدرسة والمحافظة على مبناها وصيانته، والمحافظة على سمعة المدرسة، ومن ينتمي إليها أو يسكن فيها، ومراعاة حالة السكن الصحية، واختيار المكان الملائم، ومراعاة المستوى الأخلاقي للطلبة، بما يضمن حسن العلاقة بين جميع الساكنين، والسماح للطالب -كما سبق- بالمبيت خارج السكن لبضعة أيام في الشهر، لزيارة الأهل، أو قضاء بعض الحاجات، أو للنزهة، أو للترويح عن النفس وتغيير جو المدرسة الرتيب. ومن هذه الآداب: لزوم حضور الطالب درس الأستاذ؛ لأن عدم حضوره الدرس وهو موجود داخل المدرسة بدون عذر فيه إساءة أدب، وترفع على العلماء، واستغناء عن فوائدهم، واستهتار بجماعتهم.. ويلزم على الساكنين فيها مراعاة أصولها وسبب بنائها، حيث لم تُجعل لمجرد المُقام والعشرة، ولا لمجرد التعبد بالصلاة والصيام؛ بل جُعلت لتكون معينة لهم على تحصيل العلم والتفرغ له والتجرد عن الشواغل في أوطان الأهل والأقارب.. ومن الآداب إفشاء السلام، وإظهار المودة والاحترام، ومراعاة حق الجيرة والصحبة والأخوة في الدين والحرفة؛ لأنهم أهل العلم وحملته وطلابه. ومن الآداب أيضا: أنه ينبغي للفقيه أو الأستاذ ألا يدخل إلى بيتٍ فيه ريبة أو شر أو قلة دين، وأيضًا إذا سكن الطالبُ البيوتَ العُليا خفَّف المشي والاستلقاء عليها؛ كي لا يؤذي من تحته. وإذا اجتمع اثنان أو أكثر من سكان الأدوار المرتفعة في أعلى الدرجة، بدأ أصغرهما بالنزول قبل الكبير، والأدب للمتأخر أن يلبث ولا يُسرع في النزول إلى أن ينتهي المتقدم إلى آخر الدرجة من أسفل–لكي لا يؤذيه- ثم ينزل هو، وإن اجتمعا في أسفل الدرجة من أجل الصعود إلى أعلى، تأخر أصغرهما ليصعد أكبرهما قبله. وألا يتخذ باب المدرسة مجلسًا، بل لا يجلس الشخص إلا لحاجة، أو في ندرة لقبض أو ضيق صدر، فقد نُهي عن الجلوس في الطرقات، ولأنها في مظنة دخول فقيه بطعامه وحاجته فربما استحيا من الجالس، وألا يُكثر من التمشي في ساحة المدرسة من غير حاجة -كرياضة أو انتظار أحد- وعليه أن يقلل من الدخول والخروج ما أمكنه، ويسلم على من بالباب إذا مر به.ولم تغفل تلك الآداب الإشارة إلى ضرورة المحافظة على المباني المدرسية وتجهيزاتها، ومن ذلك أنه يجب على الساكن ألا يدخل ميضأتها العامة عند الزحام إلا لضرورة. وأن يطرق الباب طرقًا خفيفًا ثلاثًا، ثم يفتحه بتأنٍ، ولا يستجمر بالحائط فينجسه، ولا يمسح يده المتنجسة بالحائط، وألا يتوضأ منالصهريج أوالزير أو الفسقية؛ لأنها مخصصة للشراب. وعليه المحافظة على الفرش والحصر والقناديل والأثاث والمباني باعتبارها ملكًا عامًا للمسلمين. ولا ينظر في بيت أحد -في مروره- من شقوق الباب ونحوه، ولا يلتفت إليه إذا كان مفتوحًا، وإذا سلَّم سلَّم وهو مار به من غير التفات، ولا يكثر الإشارة إلى الطاقات –النوافذ والشبابيك- لاسيما إن كان فيها نساء أو عورات، وألا يرفع صوته في تكرار أو نداء أحد، كي لا يشوش على غيره، بل يخفضه ما أمكنه،لاسيما بحضور المصلين أو حضور أهل الدرس، وأن يتحفظ من شدة وقع "القبقاب" -حذاء يُصنع معظمه من الخشب، يُحدث صوتًا كبيرًا عند المشي به- ويحذر العنف عند إغلاق الباب، ولا يطرق باب المدرسة أو المساكن بشدة، وأن يعتدل في صوتهفلا يرفعه بالنداء. وإذا كانت المدرسة مكشوفة إلى الطريق السالك من باب أو شباك، تَحفَّظ منها عن التجرد عن الثياب، كما نهى الساكن عن ممارسة أي سلوك يُعَابُ أو يُعدُّ من العادات القبيحة، ومنها الأكل ماشيًا، وكلام الهزل، والبسط بالنعل، وفرط التمطي، والتمايل على الجنب والقفا، والضحك الفاحش بالقهقهة..إلخ. كما قال د. إبراهيم المزيني في دراسته "المساكن الداخلية في المدارس الإسلامية". وهذه الآداب تؤكد حرص الفقهاء والمربين المسلمين على راحة الساكنين، وسبقهم إلى ضرورة مراعاة الفروق الفردية بين الطلاب في النواحي الجسمية والعقلية والاجتماعية والنفسية والسلوكية بشكل عام.. كما حافظت على حرمة المدارس ومساكنها، ومكَّنت القائمين عليها، والعاملين بها، والمدرسين والدارسين فيها على أداء وظائفهم على أكمل وجه، كما أسست لمنظومة القيم والأخلاق التي يجب أن يلتزم بها طلاب العلم.. الذين سيكونون مصابيح الهدى وعناصر القدوة للناس في مستقبلهم القريب.. وفي هذا الوقت المهم من تاريخ أمتنا، حيث التطلع إلى مستقبل زاهر لبلادنا ولأجيالنا القادمة، فلابد أن نتكاتف جميعا من أجل تطوير وتفعيل مؤسساتنا المختلفة، خصوصًا المؤسسات التربوية والإعلامية والثقافية، التي غُيِّبت وغَيَّبت المجتمع، ونزلت به إلى منحدرات التخلف، وسفوح الجفاف. وإذا كان ديننا يعلمنا أن "الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أولى بها"، وإذا كنَّا مطالبين أن نأخذ ما يقذف به العلم الحديث من منجزات حضارية نافعة، فإننا أيضًا مطالبين أن ننطلق من رصيد حضارتنا الإسلامية النفيس، فهذه دلائل وعلائم على استعادة رشدنا الذي غاب فترة من الزمن. ***
المدير التنفيذي لرابطة الجامعات الإسلامية– عضو اتحاد المؤرخين العرب – عضو اتحاد كُتَّاب مصر عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.