نواصل الحديث عن الدور التربوى والقيمى للمدرسة المصرية الإسلامية القديمة، حيث تحدث الدكتور إبراهيم المزينى، فى دراسته عن المساكن الداخلية فى المدارس الإسلامية (مجلة المؤرخ العربى، مارس 1998) عن شروط المساكن وآدابها، موضحا أن نظام السكنى فى هذه المساكن كان يتم وفق ضوابط وترتيبات دقيقة، يضعها ويشرف على تنفيذها القائمون على هذه المدارس.. حيث وضع بعضهم شروطا مثل: كأن يكون الطالب عزباً غير متزوج، وألا يبيت خارج مساكن المدارس إلا أياما معدودات يحدد الواقف عددها... إلخ والجميل أن المساكن كانت توزع حسب الأعمار وحسب القدرة، إذ جعلت المساكنالعالية لمن لا يضعفون عن الصعود إليها، أما الضعيف ومن يقصد الفتيا، فالمساكن السفلية أولى بهم.. وكان الساكن يختار من يجاوره من أصلحهم حالا وأكثرهم اشتغالا وأجودهم طبعا، ليكون معينًا له على ما هو بصدده من طلب العلم والبراعة فيه.. فضلا عن الآداب والشروط الدقيقة التى وضعها الفقهاء والواقفون لتحديد العلاقة بين الطلاب والمدرسين فى المدرسة ومساكنها، من أجل المحافظة على مبناها وصيانته، والمحافظة على سمعة المدرسة، ومن ينتمى إليها أو يسكن فيها، ومراعاة حالة السكن الصحية، واختيار المكان الملائم، ومراعاة المستوى الأخلاقى للطلبة، بما يضمن حسن العلاقة بين جميع الساكنين، والسماح للطالب- كما سبق- بالمبيت خارج السكن لبضعة أيام فى الشهر، لزيارة الأهل، أو قضاء بعض الحاجات، أو للنزهة، أو للترويح عن النفس وتغيير جو المدرسة الرتيب. ومن هذه الآداب: إلزام الطالب بحضور الدرس، لأن عدم حضوره الدرس- وهو موجود داخل المدرسة دون عذر- فيه إساءة أدب، وترفع على العلماء والطلاب، واستغناء عن فوائدهم، واستهتار بجماعتهم.. ويلزم على الساكنين فيها مراعاة أصولها وسبب بنائها، حيث لم تُجعل لمجرد المقام والعشرة، ولا لمجرد التعبد بالصلاة والصيام، بل جُعلت لتكون معينة لهم على تحصيل العلم والتفرغ له والتجرد عن الشواغل فى أوطان الأهل والأقارب.. ومن الآداب إفشاء السلام، وإظهار المودة والاحترام، ومراعاة حق الجيرة والصحبة والأخوة فى الدين والحرفة، لأنهم أهل العلم وحملته وطلابه.. ومن الآداب أيضا: أنه ينبغى للفقيه ألا يدخل إلى بيت فيه ريبة أو شر أو قلة دين.. وأيضا إذا سكن الطالب البيوت العليا خفف المشى والاستلقاء عليها، كى لا يؤذى من تحته. وإذا اجتمع اثنان من سكان العلو أو هما فى أعلى الدرجة بدأ أصغرهما بالنزول قبل الكبير، والأدب للمتأخر أن يلبث ولا يُسرع فى النزول إلى أن ينتهى المتقدم إلى آخر الدرجة من أسفل ثم ينزل، وإن اجتمعا فى أسفل الدرجة للصعود تأخر أصغرهما ليصعد أكبرهما قبله.. وأيضا ألا يتخذ باب المدرسة مجلسا، بل لا يجلس -إذا أمكن- إلا لحاجة، أو فى ندرة لقبض أو ضيق صدر، فقد نهى عن الجلوس فى الطرقات، ولأنها فى مظنة دخول فقيه بطعامه وحاجته فربما استحيا من الجالس.. وألا يكثر من التمشى فى ساحة المدرسة من غير حاجة -كرياضة أو انتظار أحد- وعليه أن يقلل من الدخول والخروج ما أمكنه، ويسلم على من بالباب إذا مر به. ولم تغفل تلك الآداب الإشارة إلى ضرورة المحافظة على المبانى المدرسية وتجهيزاتها، ومن ذلك أنه يجب على الساكن ألا يدخل ميضأتها العامة عند الزحام إلا لضرورة. وأن يطرق الباب طرقًا خفيفًا ثلاثًا، ثم يفتحه بتأنٍ، ولا يستجمر بالحائط فينجسه، ولا يمسح يده المتنجسة بالحائط، وألا يتوضأ من الفسقية والصهريج والزير لأنها مخصصة للشراب. وعليه المحافظة على الفرش والحصر والقناديل والأثاث والمبانى باعتبارها ملكًا عامًا للمسلمين. ولا ينظر فى بيت أحد- فى مروره- من شقوق الباب ونحوه، ولا يلتفت إليه إذا كان مفتوحا، وإذا سلَّم سلَّم وهو مار به من غير التفات، ولا يكثر الإشارة إلى الطاقات- النوافذ والشبابيك- لاسيما إن كان فيها نساء أو عورات، وألا يرفع صوته عالياً فى تكرار أو نداء أحد، كى لا يشوش على غيره، بل يخفضه ما أمكنه مطلقًا، لاسيما بحضور المصلين أو حضور أهل الدرس، وأن يتحفظ من شدة وقع القبقاب -حذاء يصنع نعله من الخشب، يُحدث صوتا عاليا عند المشى به- ويحذر العنف عند إغلاق الباب، ولا يطرق باب المدرسة أو المساكن بشدة لا يحتاج إليها، وألا يرفع صوته بالنداء، بل يجب أن يكون معتدلا فى صوته. وإذا كانت المدرسة مكشوفة إلى الطريق السالك من باب أو شباك تَحفَّظ منها عن التجرد عن الثياب، كما نهى الساكن عن سلوك أى سلوك يُعاب أو يُعد من العادات القبيحة، ومنها الأكل ماشيًا، وكلام الهزل، والبسط بالنعل، وفرط التمطى والتمايل على الجنب والقفا، والضحك الفاحش بالقهقهة... إلخ. كما قال د. إبراهيم المزينى فى دراسته الباهرة، وهذه الآداب تؤكد حرص الفقهاء والمربين المسلمين على راحة الساكنين، وملاحظتهم الدقيقة للفروق الفردية بينهم فى النواحى الجسمية والعقلية والاجتماعية والنفسية والسلوكية بشكل عام.. كما حافظت على حرمة المدارس ومساكنها، ومكنت القائمين عليها، والعاملين بها، والمدرسين والدارسين فيها من أداء وظائفهم على أكمل وجه، كما أسست لمنظومة القيم والأخلاق التى يجب أن يلتزم بها طلاب العلم، الذين سيكونون مصابيح الهدى وعناصر القدوة للناس فى مستقبلهم القريب. أحمد على سليمان..الباحث- المدير التنفيذى لرابطة الجامعات الإسلامية