عزيزي القارئ، ها أنا أخطو خطواتي الأولى في القراءة، لكني آثرت أن تصحبني الرحلة الجميلة، فأنت ترى ما آلت إليه الثقافة العربية، لا سيما المصرية منها، وأنا أحدثك الآن لست ذامّا ولا متهكما، بل أود أن يأخذ كل منَّا بيد الآخر، علنا نستطيع أن نصل إلى مرسى تقر فيه عينانا ويطيب فيه خاطرنا. وأقدم لك سلسلة "اقرأ" التي تأتيك يومي الأربعاء والجمعة بخلاصة كتاب أقدمه لك ولنفسي، ولن تقتصر السلسة على عصر دون غيره، بل ستغوص بك في باطن الأدب مرة، وتطفو بك أخرى، وتتوسط ثالثة بين هذا وذاك، غير أنني أرجو أن أوفق لما حملت به نفسي. وهذه أولى حلقات السلسلة، ونبدأها بكتاب حديث الأربعاء للدكتور طه حسين، وكما كان يفعل سنحاول أن نفعل؛ أي أننا في كل أربعاء نقف مع فصل من فصول الكتاب، أو كما كان يسميها "ساعة مع شاعر"، واليوم نتحدث عن أسباب كتابة هذه الفصول التي نشرت في صحيفتي "السياسة" و"الجهاد" وعن جمعها في كتاب. يقول طه حسين عن الكتاب: "فأنا لم أتصور فصوله جملة، ولم أرسم لها خطة معينة ولا برنامج واضحا قبل أن أبدأ في كتابتها، وإنما هي مباحث متفرقة كتبت في ظروف مختلفة وأيام متقاربة حينا ومتباعدة حينا آخر.."، من هنا يتبين لنا اختلاف هذا الكتاب عن غيره، فهو عدد من مقالات جمعت بعد أن ألح بعض الناس على ذلك، لكن طه حسين رفض هذا أولا؛ لأنه لم يعتن به حق الاعتناء، وكان يرى أن الكتاب يستحق بحثا وتنسيقا أكثر من هذا، لكن بعد أن تجاوز الإلحاح إلى اللوم واتهامه بازدراء الأدب العربي، وافق على جمعه. قصة الكتاب أو المقالات، أن صديقا لطه حسين كان مال ميلا عظيما للأدب الغربي دون العربي؛ ليس لأفضلية هذا على ذاك، لكن لصعوبة الشعر العربي، لا سيما القديم على فهم غير المتخصص، لأن به من المفردات ما تحتاج للمعاجم حتى يصلك معناها، غير أن المعاجم هي الأخرى ليست يسيرة الاضطلاع، ويتحدث هذا الرجل إلى طه حسين قائلا: "إنكم لتشقون علينا حين تكلفوننا قراءة شعركم القديم هذا، وتلحون علينا فيه، وتعيبوننا بالإعراض عنه، والتقصير في درسه وحفظه وتذوقه؛ لأنكم تنكرون الزمان إنكارا، وتلغونه إلغاء، وتحسبون أننا نعيش الآن في القرن الأول قبل الهجرة أو بعدها.." ثم يكمل: "فنحن يا سيدي نتعلم الإنجليزية والفرنسية فنتقنها أحيانا، ويتاح لنا أن نقرأ الشيء الكثير أو القليل من آثار الشعراء الإنجليز والفرنسيين والألمان، فنفهم ما نقرأ ونتذوقه، ونجد فيه لذة ومتاعا، وغذاء للعقول والقلوب، لا نحس بيننا وبين هؤلاء الشعراء من بعد الأمد، واختلاف الطبع والذوق والمزاج، مثل ما نحس بيننا وبين أصحاب شعركم هذا القديم.. والأيام كلما مضت واتصلت زاد البعد بيننا وبين شعرائكم هؤلاء القدماء، والحياة كلما تطورت وتحولت زادت في تغيير طبائعنا، وفي تغريبنا، إن صح التعبير". يرى الرجل أن قراءة الشعر القديم ضرب من الهزل وإراقة للوقت، وأن الأدب القديم مقصور على العلماء المتخصصين فقط، وعندما يُطلب من غير المتخصصين القراءة فيه، فهو بمثابة الذنب وتحميلهم ما لا يطيقون. وصل الرجل لهذه المرحلة نتيجة تخبطه بين كتب الأدب التي تصعب على العامة، مثل شرح بن الأنباري للمفضليات، الذي تختلف رواياته وتتعدد مذاهب اللغويين فيه، ومسائله النحوية، وأيضا كتاب النقائض الذي تتعدد قصصه، فلا تنتهى من هذا إلا وتبدأ في غيرها، فيأس الرجل من الأدب العربي وانتهى به المطاف في أحضان الأدب الأوربي؛ لأنه عليه أسهل وأقرب، والناس في معظمهم يحبون الشيء السهل اليسير الذي لا يكلفهم مشقة البحث، وليس للرجل وحده الذي اتجه لهذا الطريق، بل هناك الكثير من أمثاله منذ عصر طه حسين، ومازالوا يكثرون. يرمي طه حسين بالحمل على من لم يفهم الحضارة الحديثة حق الفهم، فيقول: "والذين يظنون أن الحضارة الحديثة قد حملت إلى عقولنا خيرا خالصا يخطئون؛ فقد حملت الحضارة الحديثة إلى عقولنا شرا غير قليل، لم يأت منها هي، وإنما أتى من أننا لم نفهمها على وجهها، ولم نتعمق أسرارها ودقائقها، وإنما أخذنا منها بالظواهر، وقنعنا منها باليسير، فكانت الحضارة الحديثة مصدر جمود وجهل، كما كان التعصب للقديم مصدر جمود وجهل أيضا..". ويبين الآثار السلبية للحضارة الحديثة من خلال الذين يأتون من أوروبا حاملين بعض الشهادات، ويتحدثون بهذه اللغات مفتخرين منتفخين بها، كأنهم يتحدثون بوحي أبولُّون، ثم يعلنون لك في حزم وجزم أن أمر القديم قد انتهي، جاهلين أنه لولا القديم ما كان الحديث، فهذا الشاب وأمثاله ضحية من ضحايا الحضارة الحديثة، فهم لا يعلمون أن بعض الأدباء الأوروبيين يحسنون من القديم الآن ما لم يحسن القدماء أنفسهم في زمانهم، ويعكفون على الأدب القديم أكثر من غيره. عاد طه حسين إلى صديقه قائلا له إن الأدب القديم أشبه بحديقة طال عليها الزمن ولم يتعهدها أهلها بالرعاية، فنمت شجيراتها في غير نظام، ما يصعب عليك السير فيها، فما إن تسير خطوة أو خطوتين حتى تعود وقد أعياك المسلك، على خلاف الآداب الأخرى، فما رأيك لو اصحبك الرحلة في هذه الحديقة وأمهد لك الطريق فيها حتى تستطيع السير، فأكون ترجمانا بينك وبين هؤلاء الناس الذين تقادم عهدهم؟ فقال له صاحبه إنه قد قبل، ليس اقتناعا بأنه يستطيع أن يجعل له من هذا الأدب وجبة سهلة، بل كي يقيم عليه الحجة في أن أمر القديم قد انقضى، ثم قال له طه حسين: وأنا أختار لك أشد أطراف الحديقة اضطرابا وأكثرها اختلاطا، فأريد أن نقضي ساعة أو بعض ساعة مع شاعر من هؤلاء الذين يسمونهم الجاهليين، وننظر في هذه القصائد التي تسمى المعلقات. يقول طه حسين: "ثم تم الاتفاق بيننا على أن يكون الأربعاء من كل أسبوع موعدا لهذه النزهة في صحراء الأدب الجاهلي، التي يراها الناس صحراء، وأراها أنا حديقة من أجمل الحدائق وأروعها، وسنرى كيف يكون حكم صاحبي، وكيف يكون حكم القراء حين يقرءون ما يكون بينه وبيني من حوار أثناء هذه النزهة القصيرة..". وها نحن سنسير على هذه الخطى وكل أربعاء ساعة مع شاعر من خلال السفر العظيم.