تعرف على موعد طرح كراسات شروط حجز 15 ألف وحدة سكنية بمشروع "سكن لكل المصريين"    أول تصريح لترامب عن إعلان بايدن الإصابة بمرض خبيث    فرنسا تطالب إسرائيل بالسماح بدخول المساعدات لقطاع غزة بشكل فوري وواسع دون أي عوائق    انتخابات رومانيا.. مرشح المعارضة يعترف بهزيمته ويهنئ منافسه بالفوز    السفارة الأمريكية فى ليبيا ترحّب بتشكيل لجنة الهدنة فى طرابلس    فلسطين.. شهيد و13 مصابًا في غارة إسرائيلية على منزل في خان يونس    فوز حزب يمين الوسط الحاكم بالانتخابات النيابية فى البرتغال    نادية الجندى لعادل إمام: ربنا يديك الصحة بقدر ما أسعدت الملايين    مبابي في الصدارة.. تعرف على جدول ترتيب هدافي الدوري الإسباني    ملف يلا كورة.. أزمة عبد الله السعيد.. قرارات رابطة الأندية.. وهزيمة منتخب الشباب    ترامب يعرب عن حزنه بعد الإعلان عن إصابة بايدن بسرطان البروستاتا    مجدي عبدالغني يصدم بيراميدز بشأن رد المحكمة الرياضية الدولية    الانَ.. جدول امتحانات الترم الثاني 2025 بمحافظة المنيا ل الصف الثالث الابتدائي    سعر الريال السعودي اليوم الإثنين 19 مايو 2025 في البنوك    محمد رمضان يعلق على زيارة فريق «big time fund» لفيلم «أسد».. ماذا قال؟    بعد إصابة بايدن.. ماذا تعرف عن سرطان البروستاتا؟    الكنائس الأرثوذكسية تحتفل بمرور 1700 سنة على مجمع نيقية- صور    إصابة شخصين في حادث تصادم على طريق مصر إسكندرية الزراعي بطوخ    مصرع شابين غرقا أثناء الاستحمام داخل ترعة بقنا صور    لجنة الحج تعلن عن تيسيرات لحجاج بيت الله الحرام    تعرف على موعد صلاة عيد الأضحى 2025 فى مدن ومحافظات الجمهورية    أسطورة مانشستر يونايتد: صلاح يمتلك شخصية كبيرة..وكنت خائفا من رحيله عن ليفربول    موعد مباريات اليوم والقنوات الناقلة    نجل عبد الرحمن أبو زهرة لليوم السابع: مكالمة الرئيس السيسي لوالدي ليست الأولى وشكلت فارقا كبيرا في حالته النفسية.. ويؤكد: لفتة إنسانية جعلت والدي يشعر بالامتنان.. والرئيس وصفه بالأيقونة    هل توجد زكاة على المال المدخر للحج؟.. عضوة الأزهر للفتوى تجيب    هل يجوز أداء المرأة الحج بمال موهوب؟.. عضوة الأزهر للفتوى توضح    أحكام الحج والعمرة (2).. علي جمعة يوضح أركان العمرة الخمسة    شيكابالا يتقدم ببلاغ رسمي ضد مرتضى منصور: اتهامات بالسب والقذف عبر الإنترنت (تفاصيل)    البابا لاوون الرابع عشر: العقيدة ليست عائقًا أمام الحوار بل أساس له    في أول زيارة رسمية لمصر.. كبير مستشاري الرئيس الأمريكي يزور المتحف المصري الكبير    الملك مينا.. البطل الذي وحد مصر وغير مجرى التاريخ| فيديو    قرار تعيين أكاديمية «منتقبة» يثير جدلا.. من هي الدكتورة نصرة أيوب؟    24 ساعة حذرة.. بيان مهم بشأن حالة الطقس اليوم: «اتخذوا استعدادتكم»    رسميًا.. الحد الأقصى للسحب اليومي من البنوك وATM وإنستاباي بعد قرار المركزي الأخير    القومى للاتصالات يعلن شراكة جديدة لتأهيل كوادر مصرفية رقمية على أحدث التقنيات    مجمع السويس الطبي.. أول منشأة صحية معتمدة دوليًا بالمحافظة    حزب "مستقبل وطن" بسوهاج ينظم قافلة طبية مجانية بالبلابيش شملت الكشف والعلاج ل1630 مواطناً    دراما في بارما.. نابولي يصطدم بالقائم والفار ويؤجل الحسم للجولة الأخيرة    ننشر مواصفات امتحان مادة الرياضيات للصف الخامس الابتدائي الترم الثاني 2025    من أجل علاقة مُحرمة مع طفل... كيف أنهت "نورهان" حياة والدتها في بورسعيد؟    وزير الرياضة يشهد تتويج جنوب أفريقيا بكأس الأمم الإفريقية للشباب    بتول عرفة تدعم كارول سماحة بعد وفاة زوجها: «علمتيني يعنى ايه إنسان مسؤول»    أحمد العوضي يثير الجدل بصورة «شبيهه»: «اتخطفت سيكا.. شبيه جامد ده!»    أسعار الذهب اليوم الإثنين 19 مايو محليا وعالميا بعد الارتفاع.. بكام عيار 21 الآن؟    رئيس الأركان الإسرائيلي: لن نعود إلى ما قبل 7 أكتوبر    المستشار القانوني للمستأجرين: هناك 3.5 ملايين أسرة معرضة للخروج من منازلهم    بحضور رئيس الجامعة، الباحث «أحمد بركات أحمد موسى» يحصل على رسالة الدكتوراه من إعلام الأزهر    تعيين 269 معيدًا في احتفال جامعة سوهاج بتخريج الدفعة 29 بكلية الطب    إطلالات ساحرة.. لنجوم الفن على السجادة الحمراء لفيلم "المشروع X"    مشروب طبيعي دافئ سهل التحضير يساعد أبناءك على المذاكرة    هل الرضاعة الطبيعية تنقص الوزن؟- خبيرة تغذية تجيب    البابا لاون الثالث عشر يصدر قرارًا بإعادة تأسيس الكرسي البطريركي المرقسي للأقباط الكاثوليك    أمين الفتوى: يجوز للمرأة الحج دون محرم.. لكن بشرط    ما لا يجوز في الأضحية: 18 عيبًا احذر منها قبل الشراء في عيد الأضحى    9 وزارات تدعم الدورة الرابعة لمؤتمر CAISEC'25 للأمن السيبراني    تعليم الشيوخ تستكمل مناقشة مقترح تطوير التعليم الإلكتروني في مصر    رئيس «تعليم الشيوخ» يقترح خصم 200 جنيه من كل طالب سنويًا لإنشاء مدارس جديدة    أشرف العربى: تحسن ملموس فى مستوى التنمية فى مصر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حاتم حافظ : الإسلام والعلمانية
نشر في البديل يوم 21 - 01 - 2012

بداية يجب الاتفاق على أن مصطلح العلمانية سيئ السمعة لم تجر عملية تعريفه بشكل محدد في أي من أدبيات الإسلاميين ولا الليبراليين ولا اليساريين، ليس هذا فحسب بل إن المصطلح نفسه ليس له تعريف واحد يُمكّننا من اتخاذ موقف محدد سواء إيجابا أو سلبا (بخلاف طبعا أصحاب الأفكار المسبقة)، ليس هذا فحسب بل إن العلمانية المتطرفة في فرنسا يجري منذ عقد تقريبا إعادة النظر فيها وإعادة تعريفها، تحديدا لاستيعاب حقيقة وجود الجالية المسلمة في فرنسا، هذا في الوقت الذي لم تحتاج فيه بريطانيا مثل هذه المراجعة وإعادة التعريف لأن علمانيتها ذات طبيعة غير معادية للأديان بل ومستوعبة للأديان أيضا، وهذا ما يبرر مهاجمة “البريطانيين غير المسلمين” القرار الفرنسي بمنع ارتداء الحجاب، وهذا ما يبرر أيضا تصميم زي خاص بالمسلمات العاملات في الشرطة الانجليزية!.
ما يجب أيضا الاتفاق بشأنه أن العلمانية يجري تعريفها بصور كثيرة يمكن إجمالها في تعريفين، الأول يتعلق ب فصل الدين عن السياسة، والثاني يتعلق ب حياد الدولة بإزاء الدين أو بالأحرى بإزاء الأديان. مع ملاحظة أن كل من التعريفين يستوعب ألوانا معرفية كثيرة، بداية من العلمانية المعادية للدين في فرنسا وتركيا، والعلمانية التي تحترم الأديان وتستوعبها كما في بريطانيا وأمريكا، فضلا عن علمانية الدولة في بعض الدول ذات الأغلبية المسلمة، والتي يجري تعريفها بأنها دول مسلمة كماليزيا مثلا.
هناك إشكاليتان تتصلان بموضوعنا أولهما أن العلمانية نشأت في أوروبا كرد فعل عنيف على الكنيسة التي كانت حتى ذلك الوقت مهيمنة على الفضاء الاجتماعي والسياسي، أي أن العلمانية تشكلت كموقف معرفي بإزاء آخر كنسي. أما ثاني هذه الإشكاليتين فيتعلق بكون الإسلام كمنظومة معرفية يخلو تماما من هيمنة الجامع، فالأخير لم يكن له دور في تاريخ الإسلام يمكن القول إنه كان موازيا لدور وسلطة الكنيسة في الغرب المسيحي (بديل الكنيسة في الإسلام رجال الدين أنفسهم، وحتى هؤلاء كانت سلطتهم مرتبطة بمدى قبول المسلمين لها واعترافهم بها ولم يمنحهم الإسلام نفسه إياها في أي وقت من الأوقات)، وفي الوقت نفسه فإن الإسلام لا يمكن استبعاده من الفضاء الاجتماعي مثلما حدث مع المسيحية، لأن الإسلام ديانة لها بُعد تشريعي واضح، إضافة إلى كون الإسلام كما يقال دين ودنيا، أي أنه عقيدة وعبادات وأيضا معاملات.
المشكلة في رأيي ليست في فرض العلمانية المتطرفة على الإسلام، فلم يجادل أحد في الدفع باتجاه ذلك، ولا في أية هجوم يمكن أن ينشأ تجاه هذا التصور، وإنما في عدم اعتراف المسلمين، وخاصة رجال الدين والأصوليين منهم، بإمكان تعايش الإسلام كديانة مع علمانية الدولة، دون أن يُنتقص من الأول ودون أن يعتبر الأصوليون أن الأخيرة مهدِّدة للدين. يمكن فهم النقطة السابقة تحديدا من خلال تعاليم تلقيتها من “شيخي” الذي تعلمت منه أن الفارق بين المسلم وغير المسلم ليس في أخلاق أي منهما، ولا في الطريقة التي ينظر بها أي منهما للأخلاق، ولا في طريقة ممارستهما للنظام الأخلاقي في المجتمع وإنما في “النيات” التي يحملها أيهما، فحسب شيخي فإن المسلم هو الشخص الذي لا يأكل حين يجوع فحسب، ولكن أيضا هو الشخص الذي يأكل ب “نية” أن طعامه سوف يبقيه حيا صحيح البدن من أجل الاستمرار في “إعمار الأرض” الوظيفة المكلف بها من قبل الله باعتباره خليفته عليها. وعلى هذا الأساس تتحدد نيات المسلم في كل ما يقوله أو يفعله، فهو صادق لأن الله أمره بذلك، وطيب لأن الله أمره بذلك، وحسن المظهر لأن الله أمره بذلك.. إلخ. قد يكون “الآخر” غير المسلم صادقا وطيبا وحسن المظهر، لكنه لا يفعل ذلك من أجل الله وإنما من أجل نفسه أو من أجل الآخرين (على الأقل وفقا للرؤية الإسلامية). يمكن فهم هذه النقطة في ضوء تصور الإسلام الذي جاء به أن معاشرة الرجل لزوجته مثاب عليها، لأنه بمعاشرته إياها يجنب نفسه شر النظر لامرأة جاره، وأن تبسّم المسلم في وجه أخيه “صدقة”، أي أن كل ما يفعله المسلم من قول وفعل يمكن أن يثاب عليه إذا صدقت “نيته” لله. كيف يمكن التعايش بين هذه التعاليم وبين علمانية الدولة إذن؟ يمكن التعايش بين هذه التعاليم وبين علمانية الدولة إذا فهمنا أن الدولة العلمانية لا يمكنها (حتى في أكثر أشكالها تطرفا في فرنسا) أن تستبعد الدين وفقا لهذا المنظور من المجال العام، لأنها ببساطة لا يمكنها التدخل في استبعاد “النيات” التي يعمل وفقها المسلم، ولا يمكنها التدخل لمنع الله من إثابة هذا المسلم على نيات عمله!.
ولكن، علمانية الدولة تلك ليست هي المقصودة في هذا المقال. علمانية الدولة التي يمكن تبنيها لا تعني استبعاد الدين من المجال العام، ولكن تعني من ناحية الوقوف على مسافة واحدة من الأديان السماوية المعترف بها، حتى لا يمكن دفعها من قبل أي طرف سياسي نحو تبني وجهة نظر محددة بإزاء الدين، (ما يعني عدم دفع الدولة مثلا لتبني تيار ديني بعينه، فلا يمكنها فرض أشعرية الأزهر ولا حنبلية السلفية ولا تصوف المتصوفة إلخ) لأن الأزمة لن تكون في احتمال أن تفرض أغلبية سياسية على الدولة تبني ديانة غير الإسلام، لأن ذلك مستبعد بحكم الأغلبية المسلمة المتدينة، ولكن الأزمة قد تتحقق في احتمال أن تفرض أغلبية سياسية على الدولة فقه إسلامي بعينه وبالتالي تنتفي حرية المسلمين الآخرين في ممارسة اعتقادهم بفقه آخر، أو تنتفي حريتهم في الاختيار بين مدارس الفقه وإجاباتها المختلفة، وهي الحرية التي كفلها الإسلام نفسه عقائديا، وإذا كان ذلك كذلك كما يقول المناطقة فإن غير المسلمين بالضرورة سوف يشعرون بالتهديد لأن حريتهم في ممارسة عقيدتهم سوف تكون منقوصة بدرجة ما.
هذا من ناحية ومن ناحية ثانية فإن علمانية الدولة التي أتحدث عنها لا تعني استبعاد الدين من المجال العام ولكن استبعاده من المجال السياسي، أولا لمنع استخدام الدين في توجيه الناخبين، وثانيا لصيانة الدين من ألاعيب السياسة. لا يعني ذلك استبعاد الأحزاب الدينية ففي ظني أن وجود تلك الأحزاب مُهمّا سواء للتيارات الدينية أو للحياة السياسية (لأسباب لا مجال لها الآن) ولكن باستبعاد الكلام في السياسة باسم الدين. طبعا يحق لأي حزب سياسي أن يعلن أن مرجعيته مرجعية دينية، ولكن عليه أن يتحفظ عن الكلام باسم الدين في مناقشة البرامج، وفي الترويج لهذه البرامج، وفي الدعاية لتبني هذه البرامج، لأنه بطبيعة الحال احتمالية نجاح أي برنامج من فشله لا يمكن لأحد الجزم بها، ومن ثم فإن الإصرار على عرض البرامج السياسية باسم الدين يسيء للدين لأن فشل البرامج السياسية باعتبارها فقها ودينا وشريعة قد يوحي لعموم المتدينين خصوصا البسطاء منهم أن دينهم نفسه عرضة للفشل. ناهيك عن إمكانية تمرير أي برنامج بالتأثير على الناخبين مادام ممهورا باسم الدين، حتى ولو كانت تبعاته تضر بالناخبين الذين هم عموم المواطنين المصريين، مسلمين ومسيحيين.
تبقى إشكالية “التشريع” والتي هي في ظني إحدى إشكاليات الجدل حول العلاقة بين الإسلام وعلمانية الدولة، أقول إشكاليات الجدل لأنه في ظني أن التشريع الإسلامي ليس عقبة بإزاء علمانية الدولة ولا الأخيرة عائقا بإزاء التشريع الإسلامي. وفقا للمعنى الذي طرحته فإن علمانية الدولة تعني بالأساس حيادية الدولة ووقوفها على مسافة متساوية مع جميع الأديان ومع جميع المتدينين، ومن ثم فإن قبولها لتشريع ما يستند على شريعة دينية لا يجب أن يُترجم في المجال العام على أنه انحياز لأصحاب ديانة ما على أصحاب الديانات الأخرى، ولأعطي مثالا على ذلك أقول إنه بفرض أن حزبا دينيا ما تقدم بمشروع قانون للمجلس التشريعي كُتب بالأساس كترجمة من وجهة نظر هذا الحزب ووفقا لانحيازه الفقهي للشريعة الإسلامية، وبفرض أنه وجد قبولا من الأغلبية في البرلمان (شريطة أن تتم مناقشته كقانون مدني داخل البرلمان، لأنه برلمان الشعب كله) وبفرض أنه وجد قبولا من عموم المواطنين (على اختلاف انتماءاتهم الدينية) أثناء عرضه للنقاش العام، في هذه الحالة سوف يُعتمد هذا القانون تشريعيا كقانون مدني ومن ثم تكون الدولة (العلمانية وفق هذا الطرح) منوطة بإنفاذه والعمل به دون أن تتدخل “مرجعية القانون لدى الحزب” في العمل به، ودون أن تستخدم تلك المرجعية كأداة انحياز لطائفة دينية ما على حساب الطوائف الأخرى، مع مراعاة أن الدولة سوف يكون منوط بها تبعا لموقفها الحيادي منع مناقشة القانون على أرضية دينية، ومنع ممارسة الحزب أو غيره إرهابا دينيا لتمرير القانون.
يمكننا استدعاء حدث من التاريخ القديم لفهم هذه المسألة. حين مات الرسول امتنعت بعض القبائل عن دفع الزكاة بحجة أنهم كانوا يدفعونها لرسول الله وأنهم غير ملزمين بدفعها لغيره. ظهرت وجهتا نظر سياسيتين (كلاهما تستند إلى فهم خاص للشريعة الإسلامية) وجهة النظر الأولى كانت لأبي بكر رضي الله عنه الذي مال لضرورة محاربة تلك القبائل ودفعها ب “قوة الدولة” لدفع الزكاة، فيما تبنى عمر بن الخطاب، ودعمه في ذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، وجهة نظر أخرى ترفض محاربة هؤلاء. كل من الصحابة الثلاثة بنوا وجهات نظرهم على خلفية فهمهم للدين، ولا يمكن القول أبدا إن أحدهم كان مخطئا من الناحية الدينية أو أن أحدهم فقط كان مصيبا. يمكن القول إن كلا منهم كان صائبا حسب فهمه للدين، لكن وجهة نظر أبي بكر هي التي انتصرت في النهاية لأن الأخير كان في ذلك الوقت يقف على رأس السلطة السياسية (لا الدينية) للدولة، أي أن وجهة النظر السياسية للحاكم هي التي انتصرت لا بتغليبها موقف فقهي رأت أنه أكثر قربا من الإسلام ولكن لتغليبها وجهة نظر رأت أنها أكثر فائدة للدولة، ويمكننا المجادلة بأنه إذا كان الفاروق هو صاحب السلطة السياسية لاختلف موقف “الدولة” من المتمردين عما جرى في التاريخ، خصوصا إذا ما عرفنا أن أبي بكر وقف ضد عمر وعلي حين طالبا بتطبيق حدي الزنا والقتل على قائد جيشه خالد بن الوليد، لأن الأخير كان ممثلا للدولة في حربها ضد المتمردين، ومن ثم فإن صاحب السلطة انحاز للحفاظ على هيبة الدولة سواء في موقفه من المتمردين أو في موقفه من قائد جيشه، ولم تغير وجهات النظر الفقهية الأخرى من ممارسته قوة الدولة وفقا لوجهة نظره الفقهية/السياسية.
مثال آخر: الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز قرر أن تتوقف الدولة عن جمع الجزية من غير المسلمين وقال إن الله بعث محمدا هاديا لا جازيا، لأنه ببساطة كحاكم سياسي وجد أن خزينة الدولة تمتلئ عن آخرها، وأن الدولة ليست في حاجة لجمع مزيد من الضرائب، فقد وصلت لدرجة كبيرة من الرفاهية تتيح لها أن تتوقف عن “الجباية”. موقف بن عبد العزيز هو موقف الحاكم السياسي الذي يمكنه استيعاب الغرض الأساسي من جباية الجزية، والحكمة من تبرير هذه الضريبة فقهيا، وحين رأى انتفاء الحكمة رأى انتفاء الفعل.
في الموقفين استوعب الحاكم السياسي ما فيه مصلحة الدولة والأمة دون أن يخل بأصول الدين، ودون أن يُرهب الآراء المخالفة باسم الشريعة على اعتبار أنه وحده يملك الحقيقة كاملة. ومع هذا فإن هذه المواقف ليست ما يجعل من علمانية الدولة ضرورة بقدر ما تجعلها كذلك سنوات الاضطهاد والقمع الاستبدادي لحكام الدولتين الأموية والعباسية ومن بعدهما الدويلات الإسلامية الأخرى والتي تم تبريرها دائما بغطاء من الدين، خصوصا وأن هؤلاء الحكام لم يعدموا فقهاء وضعوا أنفسهم في خدمة البلاط وفي خدمة الملك العضود.
ما يجعل من علمانية الدولة ضرورة أيضا هو أنه لا يمكن التفكير في الدين دون التفكير في أن ثمة من لا يعتقدون فيه، بل وأن ثمة من يعتقدون أن هذا الدين باطل مهما كانت قوة اعتقادنا في هذا الدين. فالمصري المسيحي مثله مثل المصري المسلم يعتقد في خطأ الأديان الأخرى، ومن ثم فإنه من المعقول تبني وجهة نظر تقول إن المصري المسيحي لا يرى في الشريعة التي يتمسك بها المصريون المسلمون أية علاقة بالسماء كما أن المصري المسلم لا يرى في الشريعة التي يؤمن بها المسيحيون شيئا يجعله يتشكك في قدسية شرائعه. ومن ثم فإن أي نقاش حول قانون ما على غير الاعتقاد في مدنيته سوف يدفع باتجاه الحرب الدينية، ليس بين المسلمين والمسيحيين فحسب، بل بين المسلمين والمسلمين أيضا، ذلك أن الإسلام يستوعب اجتهادات الفقهاء جميعهم وجميع الفقهاء القدامى والمحدثين معتبرين لديه، فضلا عن أنه من غير المعقول إغلاق باب الاجتهاد عند هؤلاء وهؤلاء، ومن ثم فإن الفقه الإسلامي في سيرورة دائمة، ومن ثم فإن تمرير قانون ما معتمدا على رأي فقهي ما يحتمل الصواب والخطأ باعتباره “الدين” يعد أمرا كارثيا، لأنه يمكن أن يصطدم أو هكذا سوف يحدث بآراء فقهية مخالفة، أو أنه سوف يمنع أية محاولة للاجتهاد الفقهي بخصوص ذلك الأمر (لا أتحدث عما هو معلوم من الدين بالضرورة على الرغم من أن بعضه أيضا محل خلاف)، أقول إن تمرير قانون على خلفية دينية لا مدنية يفتح باب الخلاف العقائدي الذي يؤجج الطائفية حتى داخل الدين الواحد، أما تمرير القانون ومناقشته على أساس مدني دون مناقشته كأمر فقهي، ودون الإخلال بمبدأ الامتناع عن مناقشة السياسي باسم الدين يحمي السياسة ويصون الدين في الوقت نفسه، وهو ما عنيته بالكلام عن إمكانية التعايش بين الإسلام وبين علمانية الدولة، بل إنه في تصوري وهذه نقطة قابلة لنقاش آخر الدولة الإسلامية عبر تاريخها لا أقول لم تعرف الدولة الدينية فحسب بل أقول إنها كانت علمانية أيضا، وفقا للطرح الذي جاء بهذا المقال، حتى ولو استغلت الدين كغطاء لإضفاء الشرعية على حكمها.
قد يُوجه نقدا لهذا المقال بوصفه محاولة للتوفيق بين أضداد. هذا النقد سوف يكون في محله فحسب لدى هذا الطرف أو ذاك ممن يعتقدون أنهم يملكون الحقيقة المطلقة، سواء في جانب الإسلاميين الأصوليين أو في جانب العلمانيين الأصوليين، لكن يبقى في النهاية “طرف ثالث” (في ظني أن قاعدته متسعة أكثر مما نتخيل) طرف يفهم الإسلام وفقا لتيار الفقه العقلاني، حتى ولو لم يحفظ أسماء فقهائه ولا مصطلحاتهم، لهؤلاء أظن أني أضع نفسي، مصري.. يؤمن أن لا فضل لعربي على أعجمي ولا لغني على فقير ولا لعسكري على مدني ولا لرئيس على مرؤوس إلا بالعمل والكفاءة، ومسلم عقلاني.. يؤمن بأن الإسلام جاء ليحرر الإنسان بإزاء نفسه وبإزاء مجتمعه وبإزاء التقليد، يُحسب على اليسار الديمقراطي.. ويؤمن بأن الدولة ككيان اعتباري يجب أن تقف على مسافة واحدة منه ومن جميع مواطنيه وأن يكون دورها في صيانة حرية مواطنيها وفي الدفع باتجاه تحقق العدالة الاجتماعية وتقليص الفجوة بين الفقراء والأغنياء إلى الحد الأقصى. والله والوطن من وراء القصد.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.