مشهد جعل العشرات من الثوار والمثقفين بدمنهور يستعيدون رائعة أسامة أنور عكاشة "الراية البيضا"، حينما همت لوادر فضة المعداوي بالانقضاض على فيلا الدكتور أبو الغار، ليتغير الموقف على أرض الواقع بإزالة مقهى "البنا" بوسط المدينة والمطل مباشرة على ميدان الساعة أو ميدان الثورة كما يسمونه رواد المقهى الأشهر، والذي تم هدمه لبناء برج على الطراز الحديث، رغم عراقة المبنى الذي تم تأسيسه في العشرينيات على الطراز اليوناني. و"البنا" ليس مجرد مقهى عادي، فهو حاضن الأدباء والمبدعين والفنانين وملاذ الثوار طوال السنوات الماضية، ليبقى شاهدًا على الأحداث كافة، التي شهدتها المدينة طوال سنوات المد الثوري الأخير. ولعل روادها الذين وقفوا عاجزين أمام الاستثمار العقاري الطاغي عبروا عن حزنهم الشديد لافتقاد قبلتهم كما يطلقون على المقهى، لكنهم لا يملكون سوى استعادة الذكريات. يقول علاء الخيام، القيادي بحزب الدستور: مقهى البنا بدمنهور شاهد على الثورة ورفيق المناضلين والمثقفين والثوار، لافتًا إلى أن أعمال الهدم ستنتهي خلال أيام، لكن لن تنتهي الحكايات عن مقهى كان مركزًا للمدينة بالكامل، ومركزًا لتجميع المبدعين من الفنانين والكتاب والشعراء. وبحكم وجوده في الميدان كان شريكًا في الأحداث كلها، ولقربه من مبنى أمن الدولة سابقًا؛ كان استراحة لانتظار المفرج عنهم من معتقلين سياسيين، في أيام ثورة يناير كانت بداية التحرك منه ونهاية المسيرة عنده، واستراحة ما بعد التعب وكوب الشاي. وفي 28 يناير شهد المقهى سقوط الشهيد بهاء الجرواني على بعد أمتار منه، وأيضًا الشهيد أحمد حسب الله "حمادة" الذي استشهد داخل المقهى، وظلت صورته معلقة على جدرانه حتى تم هدمه مؤخرًا. كان المقهى محاصرًا بين قسم الشرطة ومبنى أمن الدولة ومقر الحزب الوطني، وبعد الثورة عاد مقر الحزب الوطني لدار الإسعاف لخدمة المواطنين، وتحول مبنى أمن الدولة لهيئة قضايا الدولة، والآن مبنى الأوبرا ومركز الإبداع. كان مقهى "البنا" شاهدًا على كل التحركات ضد مبارك وضد مرسي، ابتداء من الوقفات الاحتجاجية والمظاهرات للقوى السياسية التى بدأت بمظاهرات رفض الإعلان الدستور فى عهد مبارك سنة 2007، واستمرت الوقفات والمظاهرات حتى يوم 25 يناير لإسقاط نظام مبارك، ثم 30/6 وما تبعه من تحركات حتى الآن، وجلس عليه العديد من النخب في زيارتهم لدمنهور، منهم الدكتور عبد الوهاب المسيري وأبو العز الحريري وحمدين صباحي وعبد الجليل مصطفى، وتقريبًا كل من كان يزور دمنهور كان عليه أن يمر بهذا المكان، مضيفًا: أشعر والكثير من الرفاق بالحزن لفراق هذا التاريخ وكل هذه الحواديت والحكايات. ويقول أحمد ميلاد، المحامي وأحد نشطاء ثورة يناير: مقهى البنا يحمل الكثير من الرمزية لكل من عمل بالسياسة بمدينة دمنهور، ليس فقط لأنه كان يمثل نقطة تجمع لكل التيارات وأصحاب الرأي الذين يعرضون وجهات نظرهم ويناقشون المستجدات السياسية، لكن أيضًا بسبب موقعه الجغرافي في أكبر وأهم ميادين العاصمة، كان شاهدًا على كثير من الأحداث السياسية المهمة. وأضاف: مقهى البنا يحمل لي ذكريات انتظار الشباب المقبوض عليهم من قِبَل جهاز أمن الدولة المنحل، الذي كان مقره المحترق يقع على الجهة المقابلة، وكنا ننتظر خروج الشباب ومتابعتهم ونحن جلوس عليه، فضلاً عن أنه كان مقر انتظار للناشطين في ثورة يناير وكل موجاتها الثورية المختلفة، وكان مساندًا لأول اعتصام في شارع بحراوي في يوليو 2011 للمطالبة بتحقيق مطالب الثورة، حيث تمت إقامة الاعتصام في الميدان أمام المقهى مباشرة، ويضيف ميلاد: مقهى البنا وقع به ثاني حادثة استشهاد في ثورة يناير عندما لقى أحد الشهداء "حسب الله" ربه وهو جالس عليها بطلق ناري صادر من اتجاه مباحث أمن الدولة، حينها صورنا أثر الطلق الناري الذي ظل جدار المقهى المعدني يحمله، مشيرًا إلى أن كثيرًا من الوقائع والأحداث للأسف لا يتم توثيقها، وتنتهي وتختفي بزوال المباني والبشر، وأشار إلى أهمية أن يكون للبحيرة متحف قومي يجمع تاريخي "البشر والحجر".