لا كرامة لنبي فى وطنه.. رحيل غامض .. وملابسات وفاة تلقي بالاتهام على الكيان الصهيوني مؤرخون وأصدقاء لحمدان: كان يكره السادات لتصالحه مع الصهاينة ومبارك كان فى رايه امتداد له 22 عامًا على رحيل العبقري فيلسوف الجغرافيا الأول الذى لم يسبقه أحد.. جمال حمدان راهب العلم صاحب موسوعة "شخصية مصر.. دراسة فى عبقرية المكان"، الذى مات فى 18 إبريل 1993. إنه رحيل العاشق الولهان ببهية العظيمة، الذى غاص عن كثب وتأمل فى عبقرية مكانها وموقعها الاستراتيجي الفريد، وأخرج مجموعة من الدرر واللآلئ، مثل القاهرة، واستراتيجية الاستعمار والتحرير، وحرب 1973، وجغرافيا المدن، والمظاهر الجغرافية لمجموعة مدينة الخرطوم (المدينة المثلثة)، ودراسات عن العالم العربي، وغيرها الكثير. "البديل" فى منزل شارع جمال حمدان 25 شارع أمين الرافعي بالدقى المقابل لمجلس الدولة.. إنه المكان الذى انعزل فيه الراهب لأكثر من 30 عامًا بعد استقالته من جامعة القاهرة عام 1963.. فى تلك الشقة الصغيرة المكونة من حجرة وصالة جلس العالم الكبير يبحث ويقرأ ويدرس وينتج مشروعه العلمى الكبير موسوعة "شخصية مصر"، وكتبًا أخرى عن اليهود والأنثروبولوجيا واستراتيجية الاستعمار والتحرير. فرض على نفسه سياجًا قويًّا من العزلة وكأنه يسابق الزمن من أجل الإنجاز والعلم. لم يخرج إلى نادٍ أو مقهى طوال حياته، وفضل أن يقضيها فى العلم، وتحولت شقة حمدان فيما بعد إلى مكتب للدعاية والإعلان. بواب عقار 27 المجاور لمنزل حمدان: كان لا يمتلك سيارة.. والجميع يقدره ويحترمه يتذكر حارس العقار رقم 27 المجاور لمنزل جمال حمدان، وهو عم "على فتح الله" أن عالمنا كان يعتمد على بواب عمارته عم أحمد، والذى مات منذ ثلاث سنوات، فى قضاء حاجاته من طعام أو جرائد أو ذهاب للبنوك، وكان لا يمتلك سيارة. ويضيف فتح الله أنه يعمل فى الشارع منذ أكثر من 27 عامًا، وكان ينظر للعالم جمال حمدان بكل تقدير واحترام، وكل من فى الشارع كان يقدره ويهابه، وأن علاقاته كانت محدودة جدًّا، وزيارة الضيوف له قليلة للغاية، فالكل يعلم أنه باحث ومهتم بالخرائط والجغرافيا. وعن وفاته أكد فتح الله أن إشاعات ترددت وقتها ما بين أنه مات مقتولاً ومحروقًا عمدًا، وأنه مات بسبب تسرب غاز الأنبوبة أثناء تسخينه الشاى. إحدى طالبات حمدان تروي ذكرياتها عنه وتصفه بأنه جنتل مان وفى العقار المجاور لمنزل جمال حمدان سيدة فى السبعين من عمرها، كانت تتنزه مع الكلب الخاص بها، وبسؤالها عن جمال حمدان، ابتسمت وتأملت فى السماء قليلاً، وبعد نفس طويل قالت "أنا كنت أحد تلاميذه فى قسم الجغرافيا بكلية الآداب بجامعة القاهرة، وتخرجت عام 1960.. كان شخصًا دمث الخلق.. كان "جينتل مان" وأكثر الأساتذة قربًا وتعاونًا وإنصاتًا للطلاب". وأضافت إلهام فهمى "عملت لفترة بعد التخرج فى مصر للطيران كمضيفة أرضية، وكنت أشاهده يأتى لاستقبال افواج من الخارج تريد أن تعرف أكثر عن علمه ودراساته، وكان ودودًا للغاية". وأشارت إلى أنها حزنت بشدة بعدما علمت باستقالته من الجامعة لمشكلات إدارية واضطهاد وظلم تعرض لهما الراحل، مضيفة أن شخصية جمال حمدان الصادقة الواضحة كان لا يمكن أن تستمر مع أى انحرافات أو صراعات، "فهو كان حامى العلم، عاشق البحث والدراسة، ولم أتمكن من زيارته فى منزله، فبعد استقالته مع انعزل مع نفسه، وكرس حياته للعلم، ولم يتزوج، وكانت فاجعة يوم وفاته، فلم أصدق نفسى يومها، وأتمنى أن تكرمه الدولة التكريم اللائق به". فريدة الشوباشى: حمدان قتله الكيان الصهيوني بعد استعداده لتأليف موسوعة تكشف كذبهم وقالت فريدة الشوباشى – الكاتبة الصحفية – إن جمال حمدان ذلك القامة العلمية والثقافية التى لم تنل التكريم اللائق بها حتى الآن يستحق أن تدرس أعماله وكتبه فى جميع المناهج التعليمية، لتغرس الانتماء الوطنى فى الجيل الجديد، فهو الذى كشف برؤيته الاستراتيجية مواطن الضعف والقوة في الشخصية المصرية، وطرح حلولاً للخروج من الأزمات التى تمر بها مصر. وأكدت الشوباشى أن حمدان كانت انتماءاته ناصرية حتى النخاع، فهو الذى قال فى موسوعته "شخصية مصر": "الناصرية هى المصرية كما ينبغى ان تكون"، وقرر العزلة لمدة 30 عامًا احتجاجًا على نظام السادات وتوقيعه اتفاقية الذل والعار "كامب ديفيد"، بل وصفه بالانهزامى الخائن، وتصريحاته المنحازة بأن 99% من اللعبة فى يد أمريكا، وكان حمدان أيضًا يحمل موقفًا مضادًّا من مبارك الذى اعتبره امتدادًا لعهد السادات وسياساته المنبطحة للكيان الصهيونى. وعن وفاته أشارت إلى أنها تميل لأن وفاة حمدان جاءت مريبة وغريبة، بل تجمع عدة ملابسات بأن الكيان الصهيونى وراء مقتله، مؤكدة أن موسوعته الأخيرة التى كان بدأ فى كتابتها وهى "اليهود والصهيونية وبنى إسرائيل" كانت تتناول بالنقد اللاذع والصريح، كعادة حمدان وجرأته، الكيان اللقيط، واتهامه بأنه كيان استعمارى استيطانى وليس له علاقة باليهود والنبى موسى عليه السلام. زبيدة عطا: حمدان لم ينل التكريم المحترم من الدولة حيًّا او ميتًا وأكدت الدكتورة زبيدة عطا – أستاذ التاريخ الحديث بجامعة القاهرة – أن "موسوعة شخصية مصر.. دراسة فى عبقرية المكان" من أهم 100 كتاب فى العصر الحديث أو القرن العشرين، فهى دراسة شاملة انطلق فيها حمدان من فلسفته الجغرافية لتقديم رؤية استراتيجية شاملة ووافية لواقع الدولة المصرية من الناحية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. واشارت عطا إلى أن حمدان فى كتابه هذا أبرز فكرة التجانس الحضارى للدولة المصرية التى بدأت بالوثنية فى العهد الفرعونى والرومانى ثم المسيحية ثم الإسلام، موضحًا أن الشخصية المصرية هزمت واستوعبت كل هذه الثقافات والديانات المتتالية، وأن مصر لم تنبطح لأى مستعمر ذي فكر مختلف، بل كانت دائمًا تستوعبه وتهضمه فى ضوء حفاظها على كيانها، وهو ما حدث مع الإخوان المسلمين الذين لم يتمكنوا من تغيير الهوية المصرية ولا الشخصية التى تعشق الحضارة والعلم والفن والأدب. وأكدت أن حمدان ركز على أبعاد مصر الأربعة الآسيوية والإفريقية والعربية والمتوسطية، وعبر عن دور الموقع الاستراتيجي لمصر، فضلاً عن عدائه الشديد للصهوينية وتفنيده كذب ادعاءاتهم وأكذوبتهم بأن اليهود الحاليين أحفاد بني إسرائيل الذين خرجوا من فلسطين خلال حقب ما قبل الميلاد، وذلك في كتابه "اليهود أنثروبولوجيا" الصادر في عام 1967. وأوضحت أن حمدان أثبت بالأدلة العملية أن اليهود المعاصرين الذين يدعون انتماءهم إلى فلسطين ليسوا أحفاد اليهود الذين خرجوا من فلسطين قبل الميلاد، ولكنهم منتمون إلى إمبراطورية "الخزر التترية" التي قامت بين "بحر قزوين" و"البحر الأسود"، واعتنقوا اليهودية في القرن الثامن الميلادي، وهو ما أكده بعد ذلك بعشر سنوات "آرثر كويستلر" مؤلف كتاب "القبيلة الثالثة عشرة" الذي صدر عام 1976. واختتمت عطا كلامها بأن حمدان لم ينل التكريم الكافى الذى يستحقه حتى الآن، ذلك الرجل الزاهد والذى اعتكف أكثر من 30 عامًا فى محراب العلم والإنتاج العلمى والسياسى والاستراتيجى، حتى إنه انعزل عن المجتمع والأهل والأصدقاء، وكرس حياته من أجل إنتاج مشروعه الكبير "شخصية مصر"، الذى يمثل خارطة طريق لكل المصريين عبر كل زمان ومكان. نبيل زكى: كان يكرة السادات بعد توقيعه اتفاقية كامب ديفيد.. وكان ناصريًّا حتى النخاع وقال نبيل زكى – القيادى بحزب التجمع – إن الدكتور جمال حمدان قامة كبيرة فى تاريخنا الثقافى المصرى، فهو من العلماء الذين تعمقوا فى فهم الواقع المصرى حضاريًّا وثقافيًّا وتاريخيًّا واقتصاديًّا، وتمكن من فهم مكونات الشعب المصرى وطاقاته الكامنة، لتصبح كتبه وأعماله من مقالات وأبحاث بمثابة دراسات نموذجية استرشادية يمكن الرجوع إليها فى أى وقت والاستفادة من نصائحها، لأنها باقية على مر الزمان. وأوضح زكى أنه من خلال 29 كتابًا وأكثر من 79 بحثًا ومقالاً سياسيًّا علميًّا، حلل حمدان الدولة المصرية على طريقة التشريح العلمى، وأبرز مكانة مصر أمام العالم أجمع وقوتها الاستراتيجية وما تمتلكه من إمكانيات، سواء فى الأرض أو البحر أو النيل أو فى الثروة البشرية. وأكد زكى أن حمدان كان مفكرًا مستقلاًّ يستعصى على التطويع من جانب أى نظام سياسى حاكم، والدليل على ذلك زهده فى أى منصب واستقالته المبكرة من جامعة القاهرة عام 196 ، عندما تخطاه أحد الزملاء فى الترقية، وهو ما اعتبره إهانة لتاريخه العلمى، بل رفض بعد ذلك جائزة الدولة التقديرية عام 1988، اعتراضًا منه على حكم مبارك الذى كان امتدادًا للسادات صاحب معاهدة السلام والتصالح مع الصهاينة الذين كان يكرهخم حمدان بشدة. وأشار زكى إلى أن حمدان عاش منعزلاً فى صومعته العلمية بشقته الصغيرة بالجيزة، وكان يضع لنفسه نظامًا صارمًا فى استقبال الضيوف، فهو لا يفتح لأحد بدون ميعاد مسبق، وعندما ذهبت إليه شخصيًّا بعد نكسة 1967 لأطلب منه أن يستأنف العودة للكتابة فى مجلة "الكاتب" الثقافية، رفض أن يفتح الباب؛ لأننى ذهبت بلا موعد، رغم أن الظرف كان استثنائيًّا والبلد فى نكسة. وأوضح زكى أن حمدان كان أحد الكتاب أصحاب القلم المستقل الواضح بعد حرب 1967، وكان يطالب بالحرب والثأر، فى وقت كان هناك من الكتاب من ينادون بالحل السلمى، ولكن حمدان أخذ خط الحرب وعدم التراجع.