وجوه رسمت بالشقاء تعبيرات باعثة على الأسى والفقر المدقع، تحمل تجاعيد حفرها الكدح والمعاناة، لأجساد بلغت من الكبر عتيا، ذابت تحت أشعة الشمس، وبعيون ترتقب خطوات المارة ونظراتهم، في انتظار إشارة بدء دائرة الشقاء لملء أمعاء خويت، مطرقة وفأس وأدوات تصحب عجوزا لم يعد قادرا علي حمل أثقالها إلي حيث لقمة عيش تسد رمقه وأسرة يعولها. بين العشرات..رصدت "البديل" عددا من "الفواعلية" ممن تعدوا سن ال60 عاما، يجلس كل منهم منذ السابعة صباحا علي أرصفة الطرقات، يهرول بأدواته فور توجه زبون نحوه وقبل أن يزاحمه زملائه، متناسيا شيخوخته وما ينتظره من رحلة شقاء ينتظرها هو، وغالبا ما تشير نظرة الزبون إلي شابا من بينهم، ليعود غضبان أسفا. فور الاقتراب من أحدهم بمنطقة "الحبشي" بمدينة المنيا هرول الجميع بلهفة، وبعد إفهامهم إنه تقرير صحفي لبحث أحوالهم، عادوا إلي حيث أتوا، وكانت البداية مع عجوز يبلغ من العمر 70 عاما يدعي محمود حداد سلطان، يقيم بمنطقة كفر المنصورة بمدينة المنيا، يجلس وسط "الفواعلية" بملابس بالية تجاوره أدواته، وتظهر علامات الشيخوخة والشقاء علي وجهه، "ما فطرتش من وقت ما صحيت الساعة 6 الصبح، 12 جنيه في جيبي، مستخسر أفطر منها عشان لو ما اشتغلتش النهرده أغدي بيها العيال وأمهم" كلمات قالها في حديثه مع أحد رفاقه عندما سأله "عامل إيه النهرده"، يقول "حداد" ل"البديل" لدي 8 أولاد أتكفل بالإنفاق علي 3 منهم، وأحضر منذ السابعة صباحا قبل رفاق المهنة، وأعمل يوم واحد فقط في الأسبوع ونادرا ما أجد عمل أكثر من يوم، لأن معظم الزبائن تنظر للشباب وتفضلهم، ويوضح أن أجره يتوقف علي طبيعة العمل وغالبا لا يزد عن 70 جنيها. أمتار قليلة من "حداد"، يجلس أكبرهم سنا.."عبد العاطي محمد علي" (78 عاما) من مواليد 1937 بمدينة المنيا، يروي قصة أصعب معاناة، ليقول إنه لم يعد بمقدوره النوم ليلا بسبب آلاما بظهره، في حين إنه مكلف بدفع إيجار شهري لمسكنه الكائن بمنطقة مساكن الإيواء جنوبالمدينة، وهو عبارة عن غرفة وصالة ودورة مياه، كما إنه مكلف بإعالة ابنه وابنته وزوجته، وليس لديه أي مصدر آخر للترزق. أما "نجاح عطية عبد اللطيف" البالغ 65 عاما من قرية "ريدة" تبعد مدينة المنيا بقرابة 15 كيلو مترا، وبسؤاله قال إنه يحضر منذ السابعة صباحا لموقعه المعتاد آملا ألا يعود لمنزله دون عمل، خاصة وأنه يعول زوجته وابنه الأصغر طالب بالتعليم الفني، وإنه يضطر لطبيعة عمله الشاقة بعد انقطاع مساعدة مالية كان يتقاضاها من الشئون الاجتماعية دون معرفة السبب. وأضاف "عطية" بأن معظم الوافدين يفضلون الشباب على المسنين، وأن 4 أيام أكثر مدة عمل له علي مدار الشهر، متمنيا العمل كل يوم رغم شيخوخته، ومشقة طبيعة العمل وشكاية الشباب منها، فمعظمها أعمال حفر وتكسير أحجار، ورفع مواد بناء، ويضيف أيضا بأن في قريته يمارس تلك الأعمال من حين لآخر بحسب الطلب، موضحا أن الأجر في المدينة يصل 70 جنيها يوميا، بخلاف القرية لا يتعدي الأجر بها 45 جنيها، وأحيانا يقتصر عمله علي ساعتين أو أقل ولا يتقاضى وقتها أكثر من 20 جنيها. حالة أخري لعجوز عمر (64 سنة) مواليد 1951 من قرية "بني أحمد الغربية" يدعى "علي سيد علي" بدأ حديثه بكلمات العوز "مش لاقي آكل أنا وبيتي..وولادي الكبار مش لاقيين شغل..شايل الطورية وقاعد في الشارع..يوم بشتغل وشهر لأ", ويقول "سيد" إن لديه عدد 6 أولاد بينهم اثنين متزوجين، ويعول بقيتهم ولم يقوى علي الإنفاق عليهم لاستكمال تعليمهم، وبالتالي تسربوا من مدارسهم، ولا يجدون عملا لأن أعمارهم لم تتجاوز ال18 عاما، ويضيف : لولا إرثي منزل والدي لكان مبيتنا علي الأرصفة. وبسؤاله عن حالته الصحية قال إنه لا يعاني من أية أمراض أو شكاوي بدنية، فصحته الضامن الوحيد لحياته وأسرته، ويستطرد "بدفع 2 جنيه يوميا في المواصلات..ولو حسبتها هتلاقيني بدفع ربع اللي بشتغله مواصلات". حالات أخرى لمسنين يمتهنون نفس المهنة، ينتشرون بمناطق (الحبشي- ميدان مستشفي الحميات بحي أبوهلال- منطقة بنك الدم- ميدان عمر أفندي)، تجمعهم سمات مشتركة في مقدمتها العوز وفقر الحال، والعمل اضطراريا رغم تقدم العمر وعدم تحمل مشقة العمل، كانت أبرز مطالبهم توفير معاش تضامني وتأمين صحي، وتوفير فرص عمل بالتنسيق مع مقاولي المناقصات الحكومية، وكذا توفير عمل للأبناء. في الوقت نفسه وبحسب تصريح وكيل وزارة التضامن الاجتماعي بالمنيا فإن لتلك الشريحة حقوق يجهلونها لأميتهم، وعدم سؤالهم وسعيهم للمطالبة بها، فأوضح وكيل التضامن ل"البديل" إنه بالنسبة للشريحة العمرية 65 تكون مدرجة ضمن فئة الشيخوخة ولهذه الفئة معاش تضامن، أما بالنسبة لشريحة عمر 60 عاما وأقل من 65 يلزم لحصولهم علي معاش تضامن توافر شروط نسبة العجز المقررة ب50% تثبت عدم قدرتهم علي العمل، ويحددها كمسيون طبي، بالإضافة لإثبات عدم حيازتهم أراضي زراعي وألا يكون مؤمن عليهم من أية جهة، وطالب العمال بالتوجه لأقرب وحدة شئون اجتماعية تابعة للنطاق الجغرافي لكل منهم. وينتظر شباب "الفواعلية" مصير كبار السن من زملائهم ورفاقهم بالمهنة، خاصة في ظل عدم امتلاكهم بدائل أخرى، ويقول "سيد عبدالحميد" (43 سنة عامل) إنه لا يمتلك ما يمكنه خوض تجربة السفر للقاهرة بقصد العمل في أية شركة أو مجال آخر، كما انه لا يعرف سوى مهنته الحالية، ولا يحترف أي حرفة أخرى، مضيفا أن العمل بالأراضي الزراعية غير مجدي وغير متوفر. وبالانتقال لمحمود أبو اليزيد (38 سنة عامل)، يقول إنه وبرغم خطورة الأوضاع في ليبيا، فإنه يأمل في السفر هربا من تردي أوضاعه المادية، مع تفاقم وتزايد المسئوليات والطلبات الحياتية لكونه متزوج ويعول 3 أولاد وزوجته.