سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
«الفواعلية» يبحثون عن الطعام فى الزبالة بسبب ركود سوق العمل.. الثورة والأوناش أصابت «عمال البناء» بالبطالة.. والعمل انخفض ليوم واحد فى الأسبوع بدلا من ستة
كان يهم بالرحيل حاملا معداته على كتفه، لكنه وقف برهة يتلفت حوله، وكأنه يأمل أن يجد فرصته الأخيرة فى إيجاد أحد الزبائن لينهى حالة الانتظار التى يعيشها منذ السابعة صباحا، يدور بنظره فلا يجد إلا أجسادا متراصة أرهقتها جلسة الرصيف وحرارة الشمس، الجالسون منهم من يستند تحت ظل شجرة مقررا الانتظار لساعات أخرى، وآخرون افترشوا الأرض فى نوم يتقطع مع كل صوت قدم جديدة تدب فى المكان، بينما انشغل أغلب الجلوس إما فى تركيز النظر على دخان سيجارة محترقة بين أنامله أو متفحصا وجوه المارة فى الشارع. عمال البناء أو «الفواعلية» كما يطلق عليهم، والذين ارتفعت أعدادهم بشكل كبير مؤخرا رغم حالة الركود التى يعيشها سوق العمل، لا يجدون أى اهتمام من الدولة أو حتى المنظمات النقابية أو الاجتماعية، رغم أن المهنة ليست بالجديدة، ومشاكلها لم تظهر مؤخرا فقط، فعلى مدار سنوات يبقى حال الفواعلية كما هو، بدون تأمين أو معاش أو نقابة تقنن أوضاعهم وهذا كله ينذر بكارثة وشيكة، فسوق العمل راكد، والدخل المادى الذى كان يسد حاجتهم قارب على الانقطاع وهم مغتربون عن محافظاتهم الأصلية من أجل لقمة العيش. إذا تجولت فى ميادين القاهرة ستلاحظ بسهولة مجموعات الفواعلية الذين يبدأون فى التجمع مع ظهور نور الصباح، ويجلس كل منهم أمام أدواته، وأغلبهم نازحون من محافظات الصعيد وجاءوا إلى القاهرة منذ عشرات السنين، لكن منهم أيضا من انضم حديثا إلى تجمعات الفواعلية لفقدان عملهم السابق، وما أن يظهر أحد الزبائن حتى يسرع الجالسون إلى الوقوف ولسان حالهم يقول «أنت وحظك»، فالعميل أو «الزبون»، هو الشخص الوحيد صاحب الحق فى الاختيار، ليأخذ من كان حظه فى العمل، ويبقى الآخرون منتظرين زبونا جديدا. «لو نزلت يوم فى الأسبوع بحمد ربنا وبختصر الأكل لوجبتين فى اليوم عشان أقلل المصاريف».. هكذا تكلم هانى ممدوح، 34 سنة، من أسيوط، ل«اليوم السابع» وهانى جاء منذ 10 سنوات إلى القاهرة، بعد رحلة طويلة للبحث عن عمل فى موطنه لكنها انتهت بخيار واحد هو السفر لخارج المحافظة، وذلك لأن السفر خارج مصر غير متاح له، فلقد أصبح النزوح إلى القاهرة الحل الوحيد. يقول هانى «مش معايا أى مهارة أو مهنة، فملقتش قدامى غير إنى أشترى العدة، وأجلس بها مع الآخرين، ومن 10 سنين السوق كان نشيط جدا، وكنا بنشتغل 5 أو 6 أيام فى الأسبوع مقابل 40 أو 50 جنيها فى اليوم، فكان الدخل كويس شهريا»، الأمر اختلف تماما لدى هانى وغيره من العمال فى السنوات الأخيرة، حيث أصبح مقاولو البناء يلجأون إلى استخدام الأوناش بدلا من العمالة، يقول هانى «الونش بيعمل كل حاجة بيهد ويرفع ويقدر المقاول يستغنى بيه عن نصف العمالة اللى كان بيستخدمها زمان». هانى، يجلس فى مكان ثابت بميدان نصر الدين بالهرم، والذى يجتمع فيه أغلب الفواعلية، ويوجد أماكن مثيلة فى الطالبية، وأمام ميدان الحصرى بأكتوبر، وأسفل مزلقان أرض اللواء، وفى دوران شبرا، ورمسيس والعتبة. ووفقا لثقافة السوق، يبقى الحصول على عمل وسط هذا العدد الكبير من العمال أمرا صعبا، يقول محمود أحد العمال «اللى بييجى الناس بتتلم عليه، ويا يلحق يا ميلحقش، وممكن فى النهاية بدلا من أن يأخذ الزبون 4 عمال، ممكن ياخد 8 ويقسم الفلوس عليهم». 60 أو 70 جنيها هى اليومية المتفق عليها بين أغلب العمال فى هذه المناطق، لا يستطيعون أن يزيدوها حتى رغم ركود السوق، فارتفاع السعر ليس فى صالحهم وسيحجم الزبائن عنهم، وهم فى أشد الاحتياج لأى دخل يستطيعون أن يرسلوه إلى أسرهم فى المحافظات، ويضيف محمود «بحاول أبعت أى شهرية للبيت، مبقتش أقدر أغطى مصاريف أولادى، ابنى خرج من المدرسة عشان يساعدنى، وبقالى 3 شهور ونص مش عارف أزورهم عشان مفيش فلوس». أعداد الفواعلية تقدرها نقابة عمال اليومية المستقلة بأكثر من مليون ونصف المليون فى 2012 ورغم ركود السوق فإن هذه ليست المشكلة الوحيدة التى تواجههم فالتأمين الصحى هو المطلب الأكثر إلحاحا لهم، صالح، 60 سنة، يعمل فى المهنة منذ 30 عاما، يقول «المهنة خدت كل صحتى ومع ذلك مجبر على الاستمرار فيها، مين هيصرف على البيت، حتى العلاج بيكون على حسابى، فمنذ عامين وقع رخام على رجلى، صاحب المكان اللى كنت شغال فيه مقدرش حتى يوصلنى للمستشفى وقالى أنا هديلك يوميتك مش أكتر، واضطريت إنى استلف عشان أعمل عملية تخلينى أقف على رجلى تانى وارجع أشتغل». عليهم قليل» كما يقول، فسنه الكبيرة تجعل الزبائن تتجنبه وتختار أصحاب الأعمار الصغيرة، فبالنسبة إليهم الأصغر أسرع وأجود، لكن صالح فى النهاية لا يستطيع أن يغير مهنته، يجلس منتظرا أن يطلبه أى شخص فى أى عمل، يقول «مر علينا من قبل أحد أعضاء الإخوان المسلمين وقالنا نشتغل فى الزبالة مقابل 600 جنيه فى الشهر، طيب أنا بعد 30 سنة وعندى 9 عيال آخد 600 جنيه أعمل بيهم إيه». الوجوه المحترقة من حرارة الشمس للفواعلية تخفى وراءها قصصا ومآسى كثيرة، فمنهم من يخبرك أنه لم يعد قادرا على دفع إيجار الغرفة التى يسكنها فأصبح مكانه «الشارع»، ينام مع حلول الليل ويستيقظ مع الصباح ليجلس فى مكانه منتظرا الزبون، منهم من يتجول فى قمامة المحلات المحيطة يبحث عن طعام بدلا من أن ينفق ماله القليل على وجبة، وآخر لحقته الإصابة فتحول إلى متسول يعطف عليه البعض ويلفظه الآخرون. خالد عاشور، من قنا، يقول «أعمل نحات من وأنا عندى 10 سنين، دلوقتى مفيش ربع الشغل اللى كان قبل الثورة، زمان كان ممكن اشتغل 5 أيام وأقعد يومين، حاليا أصحاب الشقق بيخافوا يجيبونا بسبب الانفلات الأمنى، إحنا كل اللى عايزينه تأمين على حياتنا من الإصابات، وأى تقنين لعمالنا لكن بدون أن يكون هناك مقاول يستغل أوضاعنا ويحصل على يومياتنا».