غياب القوانين المنظمة يهدر حقوقهم.. والقطاع الخاص يستغل حاجتهم تصوير إسلام البيطار: تتابع أعينهم السيارات التي تقترب منهم في ترقب، ليهبوا إليها هبة رجل واحد مندفعين إلى صاحبها، الذي غالبًا ما يحمل إلى بعضهم بشرى الرزق، يلتفون حوله بهمة ونشاط قائلين: "أوامرك يا باشا مش عاوز رجالة يا بيه"، ويتمنى كل منهم اختياره من بين الجميع، لتبدأ المفاوضات على الأجر، إنهم عمال التراحيل أو عمال اليومية أو كما يطلق عليهم السوايسة عمال "الدمراني". عمال "الدمراني": نعيش يومًا بيوم.. ومن يمرض لا يجد قوت يومه في منتصف شارع أحمد عرابي تقع منطقة "الدمراني"، ويفترش عشرات العمال الرصيف، كل منهم ممسك بسلسلة حديدية وشاكوش وعدد من الأزاميل. "هيلا هيلا صلي على النبي.. هيلا هيلا شد حيلك يا صبي" بمثل هذه الأغاني والأهازيج يحاولون التغلب على يوم عمل شاق، إلَّا أن "محمد" يخفي همومه خلف ابتسامة عريضة ترتسم على وجهه، أثناء جلوسه على رصيف "الدمراني". مع أول خيط لضوء النهار يقف محمد، 35 سنة من محافظة سوهاج، على رصيف "الدمراني" وسط كثيرين من زملائه، ممن لا يمتهنون وظيفة مؤقتة أو يمتلكون شهادات تعليمية ينخرطون بها في سوق العمل، بانتظار مجيء أحد المقاولين أو أصحاب البيوت ليتفق معهم على عمل هنا أو هناك، يبيعون مجهودهم البدني طوال النهار مقابل بضع عشرات من الجنيهات يعودون بها لأطفالهم، قبل أن يناموا، على أمل بغد أفضل، في أن يجدوا من يحتاج إلى قوة أذرعهم مع شروق شمس صباح جديد يحفرون الأرض يدويًّا يخرجون أحشاءها على أمل أن يحصلوا على اليومية، أي أجرة العمل اليومي بعد نهار شاق من الحفر والرفع والعرق. يقول "محمد": أنا على باب الله، بعيش يوم بيوم، "معنديش شغلانة معينة، النهاردة نرصف طريق، بكرة نشتغل في المعمار أو نشيل طوب أو مونة والحال ماشي والحمد لله"، ويعول والدته وثلاثة إخوة بالإضافة إلى عائلته الصغيرة المكونة من زوجة وطفلين، قائلًا: إذا مرضت يومًا لا أجد قوت يومي، ليس لنا إلَّا الله". وسرد الواقع المؤلم الذي يعيشه يوميًّا، وهو يرتشف كوب شاي صعيدي.. "قبل الثورة كنا نتعاقد مع شركات، لنعمل معها حتى انتهاء المشروع الذي تنفذه، نأخذ أجرنا باليومية أيضًا، ولو حدثت لأحدنا إصابة وقت الشغل أو سقط من ارتفاع كبير، لا يصرف له أي تعويض، وتقول الشركة إننا نعمل باليومية ولسنا موظفين كي تتحمل مسؤوليتنا، وننتهي من العمل في شركة ونذهب لأخرى، ومن موقع في الصحراء لآخر، قد يكون في المدينة أو غيره، لكن بعد الثورة كل حاجة تقريبًا وقفت، مضيفًا: "لولا الواحد كان معاه قرشين شايلهم للزمن مكوناش هنعرف نعيش". معاناة محمد، الحاصل على الابتدائية، تختصر الوضع الاقتصادي الذي تشهده بعض القطاعات الاقتصادية بمصر حاليًا، خاصة القطاع العقاري، المعتمد على "عمال الترحيلة" في تنفيذ مشاريعه الإنشائية المختلفة؛ لرخص أجورهم مقارنة بأولئك الذين يتقاضون أجورًا شهرية ثابتة، إضافة لقلة المخاطر على الشركات، التي لا تلتزم بتوفير نفقات إضافية للعمال، لغياب القوانين المنظمة للعمل مثل هذه الفئات العمالية، وتعذر تطبيقها حتى إن وجدت، وانعدام المنظمات المدافعة عن حقوقهم، في حين تشن بعض منظمات المجتمع المدني حملات للدفاع عن حقوق الحيوان. يظل مستقبل محمد وأسرته ومئات من زملائه وأسرهم مرهونًا برصيف ينتظرهم يوميًّا، ليقفوا عليه حاملين آلات ومعدات للحفر والهدم، آملين أن يأتي في كل يوم من يعطيهم فرصة العمل وجني ثمار تعبهم، حتى لو تركهم في آخر النهار في ترقب مما سيلاقونه في الغد. فواعلية الترعة: البرد هيموتنا.. والشرطة مش سيبانا في حالنا في ميدان الترعة، لا يختلف الحال كثيرًا عن منطقة "الدمراني" نفس الوجوه البائسة تكسوها علامات الفقر والحزن، ينتظرون القادم ليحمل لهم بشرى الرزق يلتفون على أمل أن اختياره ليتفاوض على على الأجر.. اقتربت منهم عدسة "البديل" لتنقل معاناتهم، فلم يعطونا فرصة للكلام في البداية، وجدنا أنفسنا محاصرين من العشرات، يعرضون خدماتهم بدون الاستفسار عن نوع العمل، طالما سيتقاضون أجرًا، وسرعان ما خاب ظنهم بعد علمهم أنني أريد أن أتعرف على أحوالهم، انصرفوا إلَّا ثلاثة منهم مرددين: "انتو اللي هتحلوا مشاكلنا.. المشاكل كتير والحمل كبير". يبدأ عبد الرحيم حديثه: معاك بطانية قديمة يا بيه أصلنا هنموت من البرد، وتابع، بعد وعده بجلب غطاء ونشر معاناتهم، أنه أتى من قنا منذ 5 سنوات، وعمل بمجالات عدة، وينتظر هنا ليأتيه من يستأجره في أي عمل شاق للحصول على أجرة يومية، إلَّا أن الرزق تضاءل كثيرًا منذ قيام الثورة، وأسند عبد الرحيم مطرقة ضخمة وعدة "أزاميل" ملفوفة بشريط من الجلد جانبًا، وقال مشيرًا إلى ميدان الترعة: يعني مش كفاية البرد، سعات نشوف مظاهرات والشرطة تيجي وتضرب غاز واحنا نتبهدل، ومش فاهمين حاجة، وأنهى عبد الرحيم حديثه مرددًا: "متنساش يا بيه تشوف لنا بطانية، وتنشر أننا محتاجون بطاطين". بينما يقول محمد إسماعيل، أحد أبناء محافظة الشرقية، أنه قدم إلى السويس منذ 7 سنوات للبحث عن الرزق، وكان يعمل في الماضي في البناء والهدم في القرى السياحية، وكان يعود إلى أسرته آخر الأسبوع ليسد جوعهم ويلبي احتياجاتهم، لكن عقب قيام الثورة قلت الإنشاءات فقل الطلب بشكل كبير على عمال اليومية، حيث يقول "محمد" شاكيًا: "بقالي شهر مدخلش جيبي جنيه وبستنى أي حد يديني حاجة أكلها، وزاد كمان البرد وأشارك اثنين من زملائي في بطانية"، ولا أعلم شيئًا عن أسرتي وأتمنى أن يتولاهم الله برحمته ويرزقهم". وقاطعه "حامد"، أكبرهم سنًّا يعمل في السويس منذ 12 سنة، بأنهم يتعرضون للمضايقات والسخرية بشكل مستمر، فضلًا عن استغلال المقاول لهم والمماطلة على اليومية المتفق عليها، وتخفيضها بشكل كبير لتأكده أنهم سيوافقون لقلة العمل، وفي بعض الأحيان يعملون مقابل الأكل، وأنهى حديثه: "محدش يعرف معنى الجوع والبرد إلَّا اللي جربه بجد". ويقول دكتور "علي السويسي"، الأستاذ بجامعة قناةالسويس: لا شك أن عمال التراحيل جزء مهم من الاقتصاد غير الرسمي، فليس لديهم تأمين صحي أو اجتماعي، ولا يحصلون على أجور ثابتة، مضيفًا: يمثل عمال التراحيل نحو 40٪ من العمالة الموجودة في مصر، وقد يرتبط هؤلاء بالقطاع الرسمي في الدولة، من تدوير القمامة وإعادة تصنيعها بأجر زهيد، ويستفيد من وراءهم كبار التجار. وتابع: مواجهة تلك الظاهرة تكون بتحسين أوضاع تلك العمالة، مع العمل على مد الخدمات الاجتماعية لهم.