من أشد المفاهيم إثارة للجدل واستدعاء للتناحر عبر تاريخنا: مفهوم الحاكمية الذي رمى بظلاله غير مرة في عدة وقائع استلزمت إراقة الدماء وتشرذم الأمة، وغلبة أهل الباطل، ونحن هنا لسنا بصدد سرد تاريخي لتلك الوقائع، ولن نحاول استدعاءها، فأثر الاختلاف حول هذا المفهوم – تحديدا- مازال جليا في مأزق الأمة التي تعيشه اليوم، ولا سبيل إلى الخروج منه – حسب ظننا- في المستقبل المنظور. والحاكمية التي نقصدها هنا هي حاكمية الله تعالى للحياة البشرية وفق شريعته ومنهاجه، وهو ما يستلزم مناصبة كل حكم خلاف ذلك العداء الذي يصل إلى حد القتال { حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّه}. ولا يمكن النظر لمفهوم الحاكمية بمعزل عن غيره من المفاهيم المتعلقة به كالدين والاستخلاف والشريعة والمنهاج وغيرها، ونحن هنا نؤكد أننا لسنا في خصومة مع المفهوم ولا مع القائلين به، ولكننا نحاول الاشتباك معه بقصد تخليصه مما علق به من اجتهادات بشرية – ربما- خالفت مقصوده الأساسي، بل ابتعدت به إلى ما يخالفه. إذن لا بد من عودة إلى التعريف، يوضح الباحث هشام جعفر في كتابه الأبعاد السياسية للحاكمية أنَّ "الحاكمية مصدر صناعي يؤدي نفس المعنى الذي يؤديه المصدر القياسي(الحكم) ومن ثم فإن سبيل معرفة معناها وبيان دلالاتها وتوضيح مضمونها هو البدء بجذرها اللغوي (ح. ك. م) وما اشتق عنه من ألفاظ (حكم/ حكام/ حاكم/ حكيم/ حكمة/ أحكمت/ أحكام/ محكمة) وردت وامتلأت بها الأصول ( قرآنا وسنة). إلا أنَّ هناك من يفرِّق بين الحاكمية والحكم من جهة أن الحكم اسم للحدث من حيث هو، والحاكمية اسم له مع ملاحظة ذات تتصف به. وخلاصة القول أنَّ الحكم ما كانت غايته أو مقصده الأساس المنع من الفساد بغية الإصلاح، ومن تم فإنَّه لابد أن يتسم بالإتقان وأن يؤسس على الحكمة، وهي إصابة الحق وأدواته: النبوة والكتب السماوية والجمع بين العلم والعمل، والقضاء بالعدل". وباعتبار أن الحاكمية هي فرع على أصل هو التوحيد فقد تمت نسبتها إليه، وعليه فإن توحيد الحاكمية يعني إفراد الله تعالى وحده في الحكم والتشريع، فالله تعالى هو الحكَم العدل، له الحكم والأمر، لا شريك له في حكمه وتشريعه.. فكما أن الله تعالى لا شريك له في الملك وفي تدبير شئون الخلق كذلك لا شريك له في الحكم والتشريع. كما قال تعالى: { إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ }، وقال عز من قائل: { وَاللَّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ }، وقال جل شأنه: { إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ }، وقال سبحانه: { وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا }، وقال تباركت أسماؤه: { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ }، { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ }، وقال تعالى: { وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ }. وغيرها كثير من الآيات البينات المحكمات التي أشارت إلى هذا النوع من التوحيد، والذي لا يصح إيمان المرء إلا به، وفي الحديث فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنَّ الله هو الحَكَمُ، وإليه الحُكْمُ). ومعلوم أن أبا الأعلى المودودي يُعدّ أول من صاغ فكرة الحاكمية الإلهية في الإطار السياسي والاجتماعي والقانوني، وقد قام بتوظيف ذلك من أجل بناء نظرية سياسية تقوم على منظومة عقائدية، حيث تتجلى الحاكمية الإلهية في السلطتين السياسية والقانونية. ويرى المودودي "أن الحاكمية في الإسلام خالصة لله وحده، فالقرآن يشرح عقيدة التوحيد شرحا يُبيِّن أن الله وحده لا شريك له، ليس بالمعنى الديني فحسب، بل بالمعنى السياسي والقانوني كذلك، كما أن وجهة نظر العقيدة الإسلامية تقول: إن الحق تعالى وحده هو الحاكم بذاته وأصله، وإن حكم سواه موهوب وممنوح، وإن الإنسان لا حظ له من الحاكمية إطلاقا… وخلافة الإنسان عن الله في الأرض لا تُعطي الحق للخليفة في العمل بما يشير به هواه وما تقضي به مشيئة شخصه، لأن عمله ومهمته تنفيذ مشيئة المالك ورغبته.. فليس لأي فرد ذرة من سلطات الحكم… وأي شخص أو جماعة يدَّعي لنفسه أو لغيره حاكمية كلية أو جزئية في ظل هذا النظام الكوني المركزي، الذي تدبر كل السلطات فيه ذات واحدة هو ولا ريب سادر في الإفك والبهتان.. فالله ليس مجرد خالق فقط، وإنما هو حاكم كذلك وآمر، وهو قد خلق الخلق ولم يهب أحدا حق تنفيذ حكمه فيهم. كما يرى المودودي "أن الإسلام يضاد ويعارض الممالك القائمة على المبادئ المناقضة للإسلام، ويريد قطع دابرها، ولا يتحرج في استخدام القوة الحربية لذلك، وهو لا يريد بهذه الحملة أن يكره من يخالفه في الفكرة على ترك عقيدته، والإيمان بمبادئ الإسلام، إنما يريد أن ينتزع زمام الأمر ممن يؤمنون بالمبادئ والنظم الباطلة، حتى يستتب الأمر لحملة لواء الحق، وعليه فإن الإسلام ليس له -من هذه الوجهة– دار محدودة بالحدود الجغرافية يذود ويدافع عنها، وإنما يملك مبادئ وأصولا يذب عنها، ويستميت في الدفاع عنها"ومن هنا ازدرت الفكرة الإسلامية مفهومي الوطنية القطرية والقومية بل ووصمتهما بالمروق والجاهلية،وقد تبنى النهج نفسه سيد قطب عندما اعتبر الإسلام «إعلان عام لتحرير الإنسان في الأرض من العبودية للعباد، وذلك بإعلان ألوهية الله وحده، (التي تعني) الثورة الشاملة على حاكمية البشر في كل صورها وأشكالها وأنظمتها وأوضاعها، والتمرد الكامل على كل وضع في أرجاء الأرض الحكم فيه للبشر بصورة من الصور.. إن معناه تحطيم مملكة البشر لإقامة مملكة الله في الأرض». و«مملكة الله في الأرض… لا قيام لها إلا بإزالة الأنظمة والحكومات التي تقوم على أساس حاكمية البشر، وتحطيم الأنظمة السياسية الحاكمة أو قهرها حتى تدفع الجزية وتعلن استسلامها والتخلية بين جماهيرها وهذه العقيدة، تعتنقها أو لا تعتنقها بكامل حريتها". ومن المعلوم أنَّ كل ذلك لا يتحقق بالبلاغ والدعوة وحدهما، بل لابد له من قوة قاهرة تذل رقاب المتجبرين، وتخضع الحكام المعاندين، وتتيح لأهل الحق السبيل لجعل{ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا} وعلى ذلك فإنه على أهل الحق أن يكونوا في حركة دائبة، وجهاد متصل من أجل تحقيق هذه الأهداف، وهم لا يدخرون وسعا ولا يضنون بجهد، حتى لو صلوا في نهاية المطاف إن يكون استخلاف الله لهم في الأرض بحسب ما فهمه الملائكة ابتداء {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء}! ولا يوجد ثمة تمايز بين المودودي وسيد قطب من حيث مفهوم الحاكمية، فسيد قطب يسميها الحاكمية العليا ويرى أنَّها"نزع السلطان الذي يزاوله الكهان ومشيخة القبائل والأمراء والحكام، والسلطان على الضمائر، والسلطان على العشائر، والسلطان على واقعيات الحياة، والسلطان في المال، والسلطان في القضاء، والسلطان في الأرواح والأبدان.. ورده إلى الله". ونحن نرى أن الحاكمية في نسختها النهائية ألا تجعل أحدًا حكمًا على قلبك ولسانك ويدك وكافة جوارحك؛ غير الله تعالى، وأن تترك الحكم على الخلائق لله وحده، وألا تجعل من نفسك قاضيا على الناس وجلادًا لهم، وأن تحرَّم الظلم على نفسك وألا ترتضي وقوعه على غيرك؛ فأنت عبد للحكم العدل؛ وأن توقن أنها الارتضاء التام والقبول العام لكل ما قدره عليك رب الأنام؛ مدركا أن تمام العبودية لله- جل وعلا- أن تعيش حياتك طالبا لحكمته، باحثا عن سبيل الوصول إليه. في الختام لابد من الإشارة إلى أنَّ الحاكمية في مفهومها الواسع هي السياج الحامي للقيم الإنسانية المعبرة عن مقاصدها، ألا وهي العدل والرحمة اللذان هما مؤهلات الاستخلاف، وبدونهما لا يمكن الوصول إلى الحاكمية وفق أيٍ من مفاهيمهما { وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} وإلا ستظل الحاكمية مطية كل طامع، وراية كل مدع، ولواء كل مخادع.