«الأديب مثل الإسفنجة التي تمتص كل ما حولها وتخلطه بداخلها ثم تخرج لنا شيئا مختلفا، وبالتالي فكلما امتصت أكثر أخرجت لنا شيئا أفضل»، هكذا وصف الأديب الراحل يحيى حقي كل من يطمح أن يصير كاتبًا مرموقًا، فكانت القراءة عشقه وسلوته الفريدة في الحياة، ومكتبته الضخمة التي أهداها لجامعة المنيا خير دليل على شغفه بالقراءة. اليوم تحل الذكرى ال22 على وفاة المبدع العظيم مؤلف «قنديل أم هاشم، لاعب الشطرنج، الطائر الأزرق، دكتور كنور، انتوني كروجر، البلطة، سيرة اسكندر رماس والبوسطجي»، وغيرهما من الأعمال القيمة التي أثرى بها المكتبة العربية. بمناسبة هذه الذكرى، نتعرف سويًا عزيزي القارئ على شخصية «حقي» الإنسانية والإبداعية باستعادة بعض مشاهد من حياته. «حقي».. وعشقه للغة العربية «وأنت تكتب عليك بمحاولة استبعاد كل كلمة من الجملة فإن بقيت الجملة مفهومة فلتحذف هذه الكلمة فورًا وأدخل في الموضوع مباشرة أنه ما يسمى بفلسفة الحتم، لأن الصيغ الكثيرة التي نستخدمها استوحيناها من الترجمات الغربية ولا علاقة لها باللغة العربية»، إحدى النصائح التي قدمها «حقي» لتلميذه سامي فريد، فقد كان مؤلف «كناسة الدكان» مولعًا باللغة العربية وآدابها، وساعده في ذلك حبه للشعر العربي الذي ورثه عن والده، فحفظ مئات القصائد التي أمدته ببراعة اللغة وحسها الفني، لليؤكد للجميع عروبته بجانب أصله التركي. «حقي».. واحتواء لشباب الكُتاب عُرف «حقي» بهدوءه وتواضعه الجم، فكان أبًا لأأدباء عصره، لدرجة أن نجيب محفوظ وإبراهيم أصلان ويوسف أدريس، كانوا دومًا ما يشعرون أنهم تلاميذ في حضرته، كذلك أول مقاله نشرت للدكتور جابر عصفور- وزير الثقافة الحالي، كانت بفضل «حقي» الذي أعطى ل«عصفور» هذه الفرصة آنذاك. لم يكتقي «حقي» بمساعدة شباب الأدباء بالتوجيهات والنصائح فقط، بل كان يأثرهم على نفسه، وما حدث مع محمد إبراهيم مبروك يثبت ذلك، فأثناء رئاسته لمجلة «المجلة» جاء لفريد سامي شاب –محمد إبراهيم مبروك- ومعه قصة بعنوان «نصف صوت صمت نصف طائر»، طالبًا عرضها على «حقي»، فقال له إن الوقت تأخر ولا يمكن أن يذهب إليه ليقرأ عليه قصة، خصوصًا أنه سيسافر في الفجر، لكن الشاب حزن كثيرًا، فقرر الاتصال ب«حقي في التليفون»، وحكى له ما حدث، فقال له "تعالى فورًا لتقرأ لي القصة"، وذهب سامي إليه وقرأها عليه عدة مرات، فقال له «هذه القصة تذهب إلى المطبعة على الفور إنها فتح جديد في عالم القصة»، فقال له سامي إن العدد انتهى وذهب إلى المطبعة ومن المستحيل إدخال مادة أخرى، فطالبه بإلغاء مقالة في العدد الجديد ونشر هذه القصة بدلًا منه. واقعة أخرى حدثت مع محمد حافظ رجب، الذي ترك له قصة بعنوان «مخلوقات براد الشاي المغلى» وعندما قُرأت أمام باقي أعضاء المجلة لم تعجبهم نهائيًا ووصفوها بأنها مغرقة في السريالية ولن يفهمها أحد، فما كان منه إلا أن أعطى نقودًا لأحد عمال المجلة وطالبه أن يسافر إلى الإسكندرية ولا يعود إلا ومعه محمد حافظ رجب الذى كان يعمل وقتها بائعًا لللب والسوداني أمام إحدى السينمات، وعندما حضر قال له إن كتابته رائعة ولكن لن يفهمها أحد قبل 40 سنة، ثم طلب من صلاح عبد الصبور أن ينشرها له وبالفعل نشرت له مجموعتان. «حقي» وجريدة الأهرام.. كرامة إنسان بعد أن أغلقت «المجلة» تعثرت الحالة المادية ل«حقي»، ووقتها كان يعمل تلميذه سامي فريد في جريدة الأهرام، وفي يوم طلب منه يوسف السباعي وصلاح منتصر، اللذان يعملان في الأهرام أيضًا، أن يعطي «حقي» عقدًا على بياض يوقع عليه ويضع المبلغ الذي يريده مقابل أن يكتب مقالًا في الصحيفة في اليوم الذي يرديه وبالمساحة التي يرغبها، إلا أن «حقي» أنفعل بشدة وصرخ فى وجه "فريد" قائلا: "أنت كمان؟ عاوزين منى إيه؟ هو أنت صدقت إنى باشحت؟". رفض «حقي» العمل بالأهرام حتى لا يتصوره أحد أنه يشحذ، في المقابل كان يكتب لجريدة التعاون دون أن يأخذ مليمًا واحدًا، وعندما سئل عن هذا التصرف العجيب، قال أنه في الأهرام سيكون واحدًا من طابور العظماء الذين يكتبون بالجريدة، أنما في التعاون فهو الملك. «حقي».. خجل وهروب من الصحافة كان الخجل من أكثر المكتسبات التربوية حضورًا في شخصية يحيى حقي، مما دفع الدكتور على شلش بعد أن التقى به في إحدى الندوات التي نظمتها رابطة الأدب الحديث لمناقشة كتاب «فجر القصة المصرية»؛ أن يصفه قائلًا: راح ينظر إلى الحاضرين في وداعة تارة ثم ينظر تارة أخرى إلى الأرض ويده اليسرى تقبض على عصاه القصيرة في قلق ظاهر، وكأنما يقول في نفسه: ماذا جنيت حتى يتفرج علي الناس هكذا ؟. أيضًا كان «حقي» قليل الكلام، فقلما تجد له حوارًا صحفيًا أو لقاءًا تليفزيونيًا، وكان رده دائمًا على من يطلب منه لقاءًا "أنا قلت كل اللي عندي في كتبي وأعمالي ومش عندي حاجة تاني أقولها". وصية «حقي» الأخيرة لصلاح معاطي طلب «حقي» حين شعر بدنو أجله، من الكاتب صلاح معاطي، أن يستمع لشريط كاسيت بعد رحيله، وحين سمعه اكتشفت أنه يطلب منه لقاء 15 كاتبًا حول الجمهورية، يعرفهم عن قرب، ليتعلم منهم ويساعدوه في تكوينه الأدبي، منهم: الكاتب الراحل عبد الحكيم قاسم صاحب "أيام الإنسان السبعة"، والناقد نعيم عطية، مصطفى ماهر أستاذ الأدب، وسامي خليل الكاتب بالأهرام، ومحمد رميش الشاعر الجزائري، والدكتور عطية أبو النجا والفنان حسن سليمان.