يحيى حقي أهدى مكتبته الكاملة لجامعة المنيا !! حكاية الكاتب المصاب بالزهايمر الذي راسل مشاهير الفن والأدب حقي ينصح صديقه الصغير بزيارة 15 كاتبا .. والإبحار في الشعر حقي كتب نفسه في "خليها على الله" و"كناسة الدكان" و"تعالى للكونسير" حقي كان عازفا بالتخت الشرقي .. وقد انعكست الموسيقى على أدبه مواقف مع الشيخ شاكر وطه حسين في درب الحياة سار يحيى حقي متقلبا بين العمل الحكومي والدبلوماسي والأدبي، وبرغم أصوله التركية فقد كان مصريا حتى النخاع، ويعد أحد أبرز العازفين الرواد بنوتة الأدب العربي والمصري المعاصر . كان عاشقا للفن عشق لا مثيل له، كما كان رائدا من رواد القصة القصيرة ، وكتب أيضا الرواية والمسرحية كما أسس فرق الفنون الشعبية ومسرح العرائس وكان ناقدا عملاقا ومتذوقا للموسيقى والفنون التشكيلية، وقد خرجت من عباءته عشرات الأقلام التي صار أصحابها نجوما في الستينيات وما بعدها ولعل أشهرهم الروائي الكبير نجيب محفوظ. على هامش ذكرى رحيله عن عالمنا في 8 ديسمبر 1992، التقينا الثنائي الهائم بحب الكاتب الكبير؛ ابنته وتلميذه النجيب، الأولى "نها حقي" كاتبة متميزة قدمت العديد من الأعمال الشهيرة بينها مسلسل "اللقاء الثاني" بطولة محمود ياسين وبوسي، والثاني "صلاح معاطي" إعلامي وقاص مصري ولعل أحد أهم أعماله مسلسل "خليها على الله" الذي جسد فيه وصية أستاذه بشكل درامي ؛ حيث الكاتب الكبير يختفى ويظل تلميذه في اقتفاء أثره بين رفاقه القدامى !! وقد تشارك الكاتبان كذلك في أعمال عدة عن يحيى حقي ومنها "ثمرة حب خائب" . السطور القادمة تحمل تفاصيل من عالم الراحل الكبير .. محيط : هل يجد أدب حقي ما يستحقه من اهتمام بمصر ؟ نها حقي : ليس اهتماما كافيا، فدوما يؤرقني أن التركيز يظل منصبا على عملين أو ثلاثة فقط لأبي، لكني أيضا ووسط ما نراه هذه الأيام من تحديات صعبة في مصر لا أستطيع أن أقول أن هناك تجاهلا رسميا أو نقديا لأبي لأنه في كل عام نجد عشرات الندوات والاحتفالات بكتبه ورسائل الماجستير والدكتوراة، كما أن هناك العديد من قصصه تدرس بالمناهج المختلفة بالكليات أو حتى المدارس، ويكفيني أنني حين ذهبت منذ سنوات للمدرسة الأمريكية بالمعادي وقد كانوا يحتفلون بذكرى مرور 100 عام على مولده، وجدت الطالبات الصغيرات يناقشونني بأدبه مناقشة المتمكنين من النقاد وهذا هو الجيل الذي نعقد عليه آمالنا جميعا. محيط : أين ذهبت مكتبة "حقي" ؟ نها حقي : لقد أهداها في حياته لجامعة المنيا كرد على تكريمه بإهدائه الدكتوراة الفخرية من الجامعة، ولكني اليوم أتساءل أين وضعوها وهل استفادوا منها حقا أم لا .. مسألة محيرة ومخيبة للآمال. محيط : ما أبرز الخصال التي ورثتيها عن أبيك؟ نها حقي : التسامح الشديد والاحتفاظ بالكرامة مهما تكلف ذلك، وروح الدعابة والمرح والذائقة الفنية والثقافية. أتذكر أن أبي كان يردد بيتا من الشعر يقول فيه : "كان الغم إن ذلوا ونالوا .. فما بالك وقد ذلوا وخابوا" محيط : ما هي القصص الأقرب لنفسك بين أعمال الأديب الكبير ؟ نها حقي : بالطبع أحب كل كتاباته وأعشق كل جملة فيها فهي عالم بأكمله ، وأتذكر دائما أعماله المشهورة ومنها "البوسجي" و"قنديل أم هاشم" لكنني أيضا أميل لعدد من القصص ربما لم تسلط عليها الأضواء في العالم العربي كما ينبغي، ومنها "فلة وكوكو ومشمش" وهي قصة إنسانية عن سيدة تقاسي ويلات الوحدة وسط رفقاء حياتها من الحيوانات الأليفة وقد كان لافونتين يقول أرى الحكمة على أفواه الحيوانات ، وهناك قصة "جميلة عنتر" وتجسد الصراع الطبقي بين البشر برمزية من الحيوانات؛ فهناك جوليت القطة التي تقطن مع أصحابها بحي الزمالك الراقي، والتي وقعت في حب "عنتر" قط بلدي يعيش مع أصحابه بحي بولاق . من القصص التي أحبها كذلك لأبي مجموعة "تعالى معي إلى الكونسير" و"كنا ثلاثة أيتام" و"أم العواجز" و"تنوعت الأسباب" ورواية "صح النوم" الفلسفية. من جانب آخر، ألف يحيى حقي موسوعة تاريخية عن مصر منذ عصرها الفرعوني وحتى القرن العشرين بشكل أدبي راقٍ ينم عن مؤرخ كبير لم يحظ بالاهتمام النقدي المحلي . محيط : بصراحة .. هل عوضك أبيك عن الرحيل المبكر لوالدتك؟ نها حقي : رحلت والدتي بعد أن وضعتني بشهرين، وكان أبي في أوج عمله الدبلوماسي فلم يتمكن من اصطحابي معه بالطبع للخارج، وقد رعتني جدتي وكانت لي بمثابة الأب والأم، لكن مع ذلك حاول أبي أن يعوضني بإجازاته عن بعض أحزان فقدي له وكان يصطحبني معه لصالونات كبار الأدباء كطه حسين والشيخ شاكر والعقاد وتوفيق الحكيم، كما كان يحضر لي الكتب والمذياع وأشياء من هذا القبيل لتعويضي .. وتوطدت علاقتنا حينما كبرت واقتربنا بشكل أكبر وكانت رسائله تأتيني حتى حين نفترق فتؤنسني وأتعلم منها . محيط : ما دمنا ندور في رحى ذكرى الرحيل .. فهل تتذكرين أيامه الأخيرة؟ نها حقي : قضى أبي أياما قليلة بالمستشفى قبيل رحيله، وهذا من رحمة الله لأنه كان شخصا حساسا لا يتحمل الألم، وحين زرته كنت أجده يعقد نادٍ ثقافي مع الأطباء في غرفته يتحدث عن الشعر والشعراء مغلفا ذلك بنكات ومواقف طريفة تجعل مجلسه كالعادة لا يمكن مغادرته . محيط : ما أهم القصص التي اقتربت من حقيقة يحيى حقي؟ نها حقي : بالتأكيد كل عمل فيه شيء من روح حقي، لكن مذكراته "خليها على الله" و"محراب الفن" و"تعالى معي إلى الكونسير" ومجموعة "كناسة الدكان" تعد من أهم الأعمال التي وصف فيها حياته على طبيعتها وبساطتها وعمقها أيضا . يحيى حقي .. المعلم الكبير محيط : كيف نشأت صداقتك ليحيى حقي ؟ الكاتب صلاح معاطي: أعتبر أنه معلمي الأول، فقد ذهبت له في صباي لعرض بعض القصص التي أكتبها عليه، فطلب مني أن أكتب خطابا للشاعر فاروق جويدة أطلب منه فيه نشر القصة ، وكان ذلك هو رده .. وقد طلب مني أن أقرأ كثيرا في الشعر لأكتب قصصي بلغة أدبية حقيقية، وهذا ما فعلته . محيط : ما هي وصية يحيى حقي التي حولتها فيما بعد لكتاب ؟ صلاح معاطي : لقد طلب مني الراحل حين شعر بدنو أجله أن أستمع لشريط كاسيت بعد رحيله، وفعلا نفذت رغبته ، وحين سمعت اكتشفت أنه يطلب مني لقاء 15 كاتبا حول الجمهورية، يعرفهم عن قرب، ويعلم أنني سأستفيد من حديثي إليهم في تكويني ككاتب، وأتذكر أن هؤلاء كان منهم الكاتب الراحل عبدالحكيم قاسم صاحب "أيام الإنسان السبعة" ونعيم عطية الناقد البارع والفنان، وهناك مصطفى ماهر أستاذ الأدب، وسامي خليل الكاتب بالأهرام، ومحمد رميش الشاعر الجزائري، والدكتور عطية ابو النجا واكتشفت أنه رحل حين ذهبت إليه وهناك الفنان حسن سليمان الذي صمم أغلفة مجلة المجلة التي ترأسها الراحل . وبين هؤلاء الذين أوصاني حقي بزيارتهم كان كاتب يدعى "محمد عصمت" وقد فوجئت بأنه يقطن بدار لرعاية المسنين ، والمؤلم أنه نسى كل شيء، فقد الذاكرة فعلا بعد أن أصيب بمرض الزهايمر، وحين طلبت من الدار مشاهدة أوراقه التي دخل بها وجدت صندوقا به رسائل متبادلة مع يحيى حقي ونجيب محفوظ وسيد مكاوي ، فقد كتب إليه مكاوي أن مصر التي تتحدث عنه لا تعرف أن جيبه لا يحوى سوى بعض الملاليم !! محيط : ما هي الأشياء التي لا تنساها بين نصائح يحيى حقي لك ؟ صلاح معاطي : الحقيقة أنني تعلمت منه كثيرا، ولكنني لا أنسى حين اتصلت به هاتفيا وقلت أنني تم تعييني مصححا لغويا بإحدى دور النشر اللبنانية، فبدا "حقي" منفعلا وقال "حاسب تغلط في أي كلمة" وقد كان بالفعل لا يتهاون في اللغة أبدا ويقدرها بميزان الذهب. وكنت أعجب بأدب حقي للموسيقى النابعة من بين طيات سطوره وربما ساعده على ذلك أنه كان عازفا بالتخت الشرقي ببداياته ، وكذلك لاحتفائه ببيئات الصعيد والريف المصري واقترابه من الإنسان البسيط المصري. ومن الأعمال التي أعتز كثيرا بقرائتها في نشأتي "فجر القصة المصرية" والتي تجعل الكلمة سرور وحبور . محيط : حدثنا عن علاقة حقي بالشيخ محمود شاكر ؟ صلاح معاطي : كانت علاقة الصداقة بينهما ملء السمع والبصر في مصر، وقد تعرف إليه حين كان يعمل بوزارة الخارجية، وقد قال الشيخ شاكر أن حقي يستحق أضعاف جائزة نوبل، وكان شاكر يحتفظ بكثير من كتب حقي بل واستضافه للإقامة ببيته فترات طويلة . لكن مع الأسف حدثت جفوة غير مفهومة بين العملاقين وكانت تسبب ألما ليحيى حقي. محيط : وماذا عن "حقي" الإنسان ؟ صلاح معاطي : كان خجولا رقيقا مؤدبا حتى إن الشاعر الأبنودي وصفه ب"القطنة المبللة" . محيط : لكنا كنا نعلم مناظرات ساخنة بينه وبين طه حسين؟ صلاح معاطي : بالفعل لقد ربطته به صلة وطيدة، وصداقة كبيرة، وكان حقي يرى أنه يجب علينا الجمع بين الأصالة والمعاصرة، فلا نذوب في الغرب ولا نأخذ سوى منجزاته العصرية ونظل حريصين على تراثنا وهويتنا العريقة . وأتذكر أن حقي ناقشني ذات مرة عن رد طه حسين على الأديب الفرنسي أندريه ديب، وكان يوجه عبارات مهينة للعرب مدعيا أنهم ليسوا فطاحل حتى يترجموا الأدب العالمي، فرد عليه ردا دبلوماسيا، وقلت رأيي ليحيى حقي أنه كان ينبغي أن يكون الرد بنفس القسوة .. فصمت برهة ثم قال لي جملة لن أنساها : "لا قسوة في الأدب" .