وكيل زراعة بني سويف يتفقد مطحن بوهلر لمتابعة أعمال توريد القمح    محافظ الغربية يتابع الأعمال الجارية بمشروع محطة إنتاج البيض    وزير الإسكان: استرداد مساحة 17990 مترًا بالسويس الجديدة..وقرار بإزالة مخالفات بناء ببني سويف    ننشر حركة تداول السفن والحاويات في ميناء دمياط    مباحثات قطرية تركية تتناول أوضاع غزة على وقع التطورات في رفح    مصادر: إخلاء معبر رفح الفلسطيني من الشاحنات    باحث فلسطيني: صواريخ حماس على كرم أبو سالم عجّلت بعملية رفح الفلسطينية    كالتشيو ميركاتو: لاعب روما مهدد بالإيقاف بسبب التقاط الكاميرات تلفظه بعبارات غير لائقة أمام يوفنتوس    سكاي: بايرن يدرس التعاقد مع تين هاج    غرق طفل في مياه النيل بأسوان    بدءا من الأربعاء.. 6 عروض مسرحية مجانية لقصور الثقافة بروض الفرج    ختام فعاليات المؤتمر الرابع لجراحة العظام بطب قنا    الدفاع الروسية: إسقاط مقاتلة سو-27 وتدمير 5 زوارق مسيرة تابعة للقوات الأوكرانية    حبس المتهمة بقتل زوجها بسبب إقامة والده معها في الإسكندرية    وزير الشباب يشهد "المعسكر المجمع" لأبناء المحافظات الحدودية بمطروح    مصر تحقق الميدالية الذهبية فى بطولة الجائزة الكبرى للسيف بكوريا    «الصحة»: إجراء 4095 عملية رمد متنوعة ضمن مبادرة إنهاء قوائم الانتظار    5 ملفات تصدرت زيارة وفد العاملين بالنيابات والمحاكم إلى أنقرة    زيادة قوائم المُحكمين.. تحديث النظام الإلكتروني لترقية أعضاء هيئة التدريس    «التنمية المحلية»: مبادرة «صوتك مسموع» تلقت 798 ألف شكوى منذ انطلاقها    برلماني يطالب بزيادة مخصصات المشروعات و الإنشاءات في موازنة وزارة الصحة    استياء في الزمالك بعد المشاركة الأولى للصفقة الجديدة    طارق العشرى يُخطط لمفاجأة الأهلي في مواجهة الثلاثاء    جامعة أسيوط تنظيم أول مسابقة للتحكيم الصوري باللغة الإنجليزية على مستوى جامعات الصعيد (AUMT) 2024    "دور المرأة في بناء الوعي".. موعد ومحاور المؤتمر الدول الأول للواعظات    النادي الاجتماعي بالغردقة يستقبل 9 آلاف زائر خلال شم النسيم والاستعانة ب 25 منقذًا    على مائدة إفطار.. البابا تواضروس يلتقي أحبار الكنيسة في دير السريان (صور)    إيرادات علي ربيع تتراجع في دور العرض.. تعرف على إيرادات فيلم ع الماشي    "كبير عائلة ياسين مع السلامة".. رانيا محمود ياسين تنعى شقيق والدها    في ذكرى ميلادها.. محطات فنية بحياة ماجدة الصباحي (فيديو)    لماذا يتناول المصريون السمك المملح والبصل في شم النسيم؟.. أسباب أحدها عقائدي    مفاجأة.. فيلم نادر للفنان عمر الشريف في مهرجان الغردقة لسينما الشباب    وسيم السيسي: قصة انشقاق البحر الأحمر المنسوبة لسيدنا موسى غير صحيحة    «يأتي حاملًا البهجة والأمل».. انتصار السيسي تهنئ الشعب المصري ب«شم النسيم»    الرئيس الصيني: نعتبر أوروبا شريكًا وتمثل أولوية في سياستنا الخارجية    تضر بصحتك- أطعمة ومشروبات لا يجب تناولها مع الفسيخ    بالليمون والعيش المحمص.. طريقة عمل فتة الرنجة مع الشيف سارة سمير    7 نصائح مهمة عند تناول الفسيخ والرنجة.. وتحذير من المشروبات الغازية    الشرطة الأمريكية تقتل مريضًا نفسيًا بالرصاص    التعليم تختتم بطولة الجمهورية للمدارس للألعاب الجماعية    رئيس مدينة مطاي يتفقد سير العمل بمعدية الشيخ حسن    إزالة 9 حالات تعد على الأراضي الزراعية بمركز سمسطا في بني سويف    فنان العرب في أزمة.. قصة إصابة محمد عبده بمرض السرطان وتلقيه العلاج بفرنسا    فشل في حمايتنا.. متظاهر يطالب باستقالة نتنياهو خلال مراسم إكليل المحرقة| فيديو    مقتل 6 أشخاص في هجوم بطائرة مسيرة أوكرانية على منطقة بيلجورود الروسية    مفاجأة عاجلة.. الأهلي يتفق مع النجم التونسي على الرحيل بنهاية الموسم الجاري    موعد عيد الأضحى لعام 2024: تحديدات الفلك والأهمية الدينية    إصابة أب ونجله في مشاجرة بالشرقية    ولو بكلمة أو نظرة.. الإفتاء: السخرية من الغير والإيذاء محرّم شرعًا    قصر في الجنة لمن واظب على النوافل.. اعرف شروط الحصول على هذا الجزاء العظيم    رئيس لجنة الدينية بمجلس النواب: طلب المدد من ال البيت أمر شرعي    الأوقاف تحدد رابط للإبلاغ عن مخالفات صناديق التبرعات في المساجد    مفاضلة بين زيزو وعاشور وعبد المنعم.. من ينضم في القائمة النهائية للأولمبياد من الثلاثي؟    الدخول ب5 جنيه.. استعدادات حديقة الأسماك لاستقبال المواطنين في يوم شم النسيم    بالصور.. الأمطار تتساقط على كفر الشيخ في ليلة شم النسيم    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الاثنين 6-5-2024    دقة 50 ميجابيكسل.. فيفو تطلق هاتفها الذكي iQOO Z9 Turbo الجديد    البحوث الفلكية تكشف موعد غرة شهر ذي القعدة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يحيي حقي صاحب القنديل الذي لا ينطفي
وصية صاحب القنديل تري النور وتضئ طريق الأجيال
نشر في أخبار الأدب يوم 12 - 01 - 2013


آه يا جدنا الحبيب..
مازلت أجسدك أمامي وأنت تدفع قامتك للأمام في تواضع جم.. تضع إحدي قدميك أسفلك.. ترتدي الروب (دي شامبر) البني البسيط.. أسفله فانلة صوف برقبة.. وعلي وجهك ابتسامة رضا وقنوع رقيقة عذبة تمنحنا إياها دائما فنشعر بالأمن والسكينة كعهدنا بك، ترقب عيناك الضيقتان رحلة الأيام والسنين. يسترجع عقلك الحاضر شريط الذكريات تختلج فيك كل عضلة، ويهتز مع كلامك كل عصب من أعصابك.. فتتحدث مع شفتيك عيناك وإيماءاتك ووجهك وأصابعك وقدماك، حتي عصاتك وسيجارتك..
هل تذكر يا سيدي لقاءنا الأول.. كان ذلك في فبراير عام 1980.. كنت قد أرسلت إليك خطابا أوضحت لك فيه رغبتي في أن أقابلك لكي أعرض عليك بعض قصصي القصيرة، وبعد أيام وصلتني رسالتك الرقيقة التي لم تخل من الدعابة ومعها رسالتي بعد أن وضعت خطوطا تحت بعض الكلمات بها مصوبا إياها.. وطلبت مني مراجعة بعض قواعد اللغة العربية.. وقلت لي جملة مازلت أحفظها عن ظهر قلب.. هل تذكرها؟ لقد قلت لي: (سأعتمد علي ابتسامتك وأنت تقرأ رسالتي هذه)..
وكانت الابتسامة هي وسيلة الاتصال الأولي بيننا.. فقد كنت أبتسم بالفعل حتي قبل أن أصل إلي هذه الجملة.. وفي ظهر الرسالة رسمت لي وصفا دقيقا لبيتك بمصر الجديدة، سواء من ناحية المحكمة، أو من ناحية شارع العروبة، أو من ناحية محطة صلاح الدين.. لم أنم ليلتها.. خرجت من بيتي في الفجر، وبعد أن أديت الصلاة بمسجد مجاور لمنزلي جلست في ركن أكمل قراءة كتابك (خليها علي الله). ومع الخيوط الأولي من الصباح كنت أتخذ طريقي إلي بيتك مسترشدا بخريطتك وكان السؤال الذي يلح علي طول الطريق:
(تري.. هل سيستمع لي؟ هل سيقرأ؟ هل سيعجبه ما أكتب؟ هل سيردني بكلمات طالما سمعتها من كثيرين حتي قبل أن يقرءوا لي.. (ما زال الطريق أمامك طويلا. لا تتعجل!).
أخيرا وصلت.. ورحت أحرك أصابع قدمي الباردة داخل الحذاء وقد احتواها برد الشتاء. فأحسست أنها قد تحولت إلي أصابع من الثلج.. صعدت درجات البيت بعد أن أشار لي البواب بأنك تسكن الشقة رقم 5 ووقفت برهة أمام الباب وبحذر شديد ضغطت علي الجرس، وكتمت أنفاسي وانتظرت حتي أتاني صوتك من الداخل: (مين.. صلاح؟)
وكأني صديق قديم.. ألفت قدماه بيتك..
شعرت بالطمأنينة تدخل قلبي خاصة عندما فتحت الباب لتطالعني ابتسامتك الودودة المرحبة ونسيت كل الكلمات التي أخذت أحفظ فيها طوال هذه الليلة والليالي السابقة لها فقد شعرت أني أمام شخص أعرفه منذ زمن بعيد.. ربما من قبل أن أولد.. رحت تحدثني في أمور كثيرة لم يحدثني بها أحد من قبل.. عن الأدب.. والشعر الجاهلي.. والمقامات والمعلقات، فالقصة القصيرة، واللغة العربية وجمالها.. وحسن اختيار الألفاظ. تحدثنا عن الجاحظ والمويلحي وحديث عيسي بن هشام. طلبت مني أن أقرأ عليك إحدي قصصي.. وبعد أن قرأتها رحت أستمع إلي ملاحظاتك وبلغ تشجيعك لي وكرمك الزائد أنك طلبت مني إرسالها إلي الشاعر فاروق جويدة لنشرها في جريدة (الأهرام).. وكانت هذه هي القصة الأولي التي نشرت لي..
وتعجبت.. يا لهذا الرجل.. (لا يزيد طوله عن المتر إلا بلكمية) علي حد قوله.. ولكنه عملاق حين تلتقي به وتستمع إليه تشعر كأنك تنصت إلي (أنشودة للبساطة) إلي لحن شجي عذب.. بالغ الرقة. مغرق في التواضع والحنان. أحيانا كنت أشعر أني أمام رجل آت من عصر بائد، متشبع بقيم ذلك العصر وأخلاقه ومبادئه.. وأنه الخلاصة الباقية من فكر ذلك العصر الوردي..
لقد أحببت يحيي حقي أحببته حقا (حبا من أول مرة) كما يقولون منذ أول لقاء بيننا.. بل من أول مكالمة تليفونية سمعت فيها صوته الوديع الهادئ الذي يحمل داخله صدقا ومودة نادرة.. بل أحببت يحيي حقي منذ أول رسالة بعثتها إليه.. ولن أكون مبالغا لو زدت وقلت منذ أول كتاب قرأته له وكان (قنديل أم هاشم).. واكتشفت بعد ذلك أنني لست الوحيد الذي وقع في حب يحيي حقي، فقد سبقني إليه الآلاف عبر تسعة عقود عاشها هذا الرجل..
فيحيي حقي يحسن استقبال ضيوفه ومريديه.. يفتح لهم الباب علي مصراعيه، يستقبلهم بابتسامة وديعة مطمئنة، يكرمهم فيجود عليهم بما لديه من خير ويحدثهم بمودة ومرح. وفي ثوان معدودة يدخل قلبك ويصبح صديقا يحتل مكانة عالية في حياتك وهكذا كان يحيي حقي في كتاباته.. فمنذ السطر الأول.. بل من الكلمة الأولي تنشأ علاقة وطيدة بينه وبين قارئه.
العطر الذي جمع من حوله الأحباب
وليس غريبا علي رجل كيحيي حقي أن تكون له هذه المنزلة الكريمة في قلوب الناس، يستوي في ذلك أهل الأدب والبسطاء والكادحون ممن لا صلة لهم بالأدب. فيحيي حقي المولود بدرب الميضة بالسيدة زينب. والذي تربي بين هؤلاء البسطاء والكادحين والأرزقية. المتجول في أنحاء الحي وعلي أعتاب المقام.. المتأمل لوجوه الناس الآتية والذاهبة يتلمسون الخير والبركة.. المتابع لأدعية زوار البيت وتمتماتهم وخزعبلاتهم وأحاجيهم ومعتقداتهم الموروثة.. هذا يقصد البيت ليبتغي حجابا يحفظه من عيون الناس.. وهذه تأتي إلي المقام لتتلمس طريق ابنها الغائب، والأخري تأتي لتعمل عملا لا ينفك أثره لكي يعود بالوبال علي زوجها الذي تزوج عليها وجلب إلي الدار ضرة لتنكد عيشتها.. وهكذا..
لقد تأثر يحيي حقي بهذا الجو الذي ارتبطت فيه الأسطورة بالموروث الشعبي ونشأ مشبعا بأريج المكان وعبقه وصار في حياته مدفوعا بهذا العطر الذي جمع من حوله الأحباب..
ومن السيدة زينب بدروبها وأزقتها وحاراتها انطلق يحيي حقي إلي أقصي الصعيد بقراه البعيدة وأهله الفقراء يتجول في الطرقات فيري وجوه الكادحين القانعين برحلة الحياة.. تلك الوجوه التي لا تفارقها الابتسامة بالرغم من شظف العيش.. فيعيش يحيي حقي بين الفلاحين فيأكل سريسهم ويشرب شايهم.. يشاهد بعينيه الفقر وهو يتعانق مع الجهل والتخلف.. ويستمع إلي أغانيهم ويستعذب ألحانهم ويتألم لألمهم ويتعرف علي معتقداتهم وأفكارهم.. لتتغلغل إلي نفسه موروثات وأساطير جديدة يصارعها بفكره وعقله وثقافته ..
ويرتحل يحيي حقي من خلال عمله الدبلوماسي إلي بلاد أخري أكثر تقدما ورقيا ومدنية.. باريس روما استامبول.. فيتجول في المعارض والمسارح، ودور السينما والأوبرا، ويلتقي بالموسيقي الصاخبة، والفنانين التشكيليين في الميادين العامة يعرضون لوحاتهم وتماثيلهم.
لم يصدم يحيي حقي فطبيعة الحياة جعلته يتأمل فقط.. يختزن ويقارن.. فالصراع داخله لم يكن صراعا بين فقر وغني ولا بين تقدم وجهل.. ولا بين علم وإيمان. فلم يتأثر برهبة التقدم أو المعمار ولم يهزه بريق المدنية الحديثة، فالصراع الأزلي الذي كان يشغله هو صراع الإنسان مع غرائزه ورغباته المكبوتة ومغريات الحياة.. فماذا يفعل هذا الصعيدي الفقير البسيط الذي يسعي من أجل سد رمقه لو وجد نفسه وسط باريس وشاهد بعينيه العمارات الفارهة السامقة.. والأضواء المبهرة المنبعثة من المحلات.. والنساء العاريات وصرخاتهن المثيرة.. وصراع الإنسان مع غرائزه صراع أبدي ودائم.. إنه صراع الحياة اليومية .. هذا الصراع سوف يكشف لنا أشياء كثيرة لو تأملناه..
وكان دائما يقول لي: عندما تكتب عن الحياة.. فلا تصور الحياة كما هي بالضبط، فأنت لست مصورا للحياة.. وإنما قل كأن الحياة هكذا.. وضع مئة خط تحت كلمة كأن هذه.. هكذا علمني يحيي حقي..ووجدت نفسي أترنم معه (أنشودة البساطة) لأكون شذي من (عطر الأحباب) وألج إليه (من باب العشم) لأتصفح معه (صفحات من تاريخ مصر)
4 ورقات بين طه حسين.. وأندريه جيد
أذكر أنني جلست أمامه مرة أقرأ عليه روايتي زالسلمانيةس وهي حي من أحياء السويس وتتناول الرواية التغير الاجتماعي الذي حدث بمصر بعد حرب 73 وكان من المقرر أن يكتب مقدمتها وتوقفت أمام كلمة (عاصفة هوجاء) التي كنت أصف بها بعض الصبية كانوا يندفعون... وراح يبحث عن معني أدق. فقد رأي أن كلمة (عاصفة هوجاء) كبيرة للغاية ولا تؤدي المعني الصحيح واللائق وهو لا يحب المبالغة.. وأبي أن أكمل قراءتي إلا بعد أن نبحث عن الكلمة البديلة، وطلب مني أن ألجأ إلي المعاجم لكي آتي له بالكلمة التي تعبر عن المعني بالضبط.. حتي وجد أخيرا أن كلمة زوبعة أدق من كلمة عاصفة..
ذات يوم ذهبت إليه حسب موعد بيننا فوجدته يعطيني أربع ورقات (مصورة) وطلب مني قراءتها جيدا لمناقشتها معه في الزيارة المقبلة. فإذا بالورقات الأربع رسائل متبادلة بين الكاتب الفرنسي (أندريه جيد) وبين عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين..كانت الرسالة الأولي من أندرية جيد إلي طه حسين وفيها يبدو واضحا مدي التعالي الذي يظهر في رسالته عندما علم أن طه حسين يقوم بترجمة أحد كتبه وهو كتاب (الباب الضيق) إلي العربية.. وقد اندهش اندريه جيد من أننا نحن العرب المسلمين الذين كونهم القرآن وأدبهم علي عقائد معينة لا يعنيهم الاهتمام بالمعرفة والبحث في الآداب الأخري وأن هذا القرآن هو الذي جعل تعليمهم محدودا وأن كتبه لا تشغل نفوسهم، وقد رد طه حسين علي أندريه جيد بدبلوماسية شديدة مدافعا عن الإسلام والمسلمين مبينا له أن الإسلام لا يغري بالدعة والخمول وإنما يحث علي التفكير ويدعو إلي التدبر والاستبصار .. فكان يحيي حقي مثالا للمعلم الحريص علي تلاميذه..
إلي هذا الحد كان يحيي حقي كريما لا يضن بمساعدة ولا يبخل بمعونة.. فهو مستمع جيد حتي في أوقات مرضه.. وكان كثيرا ما يطلب مني أن أعيد عليه ما قرأته أكثر من مرة .. ويتركني لحظات لكي يفكر ويقدح زناد فكره في معني أفضل وفي أسلوب أدق.. كنت سعيدًا أيما سعادة بصداقتي به وبصحبتي له.. وأعتبر نفسي محظوظا لأنني عشت بضع سنين مع (عطر الأحباب) يحيي حقي.. فإن كان يحيي حقي قد رحل. فعطره بيننا تتنسم عبيره الأجيال.
ومنذ رحل عن دنيانا لم أشعر قط بأنه فارق الدنيا فصوته ما زال يتردد حولي يرن في أذني.. وأحس أننا دائما علي موعد.فوفاء ليحيي حقي أقوم بتنفيذ هذه الوصية التي أوصاني بها قبل وفاته.. وهي ليست وصية مادية تتضمن ميراثا أو شيئا من هذا القبيل وإنما هي وصية أدبية حثنا فيها علي التمسك بنعمة الصداقة.. وقد تحدث فيها عن أصدقاء أضاءوا حياته وأسعدوه أيما سعادة.. وقد التقيت بهؤلاء الأصدقاء حاورتهم وتحدثت معهم.. فوجدت أن كل واحد منهم أضاء جانبا في حياة يحيي حقي وفي شخصيته.
الوصية الأولي.. الذي لا يحب لاتكتمل إنسانيته
ضغطت علي جرس الباب وانتظرت قليلا حتي أتاني صوته الرقيق العذب الذي يحمل حنانا ووداعة: (مين..؟ صلاح..؟).أجبته من الخارج بأنني جئت حسب الموعد. فتح الباب لألتقي بابتسامته العذبة ووجهه البشوش وهو يقول مرحبا: مساء الفل عليك..ثم شد علي يدي وهو يردد كلماته المرحبة الكريمة:
- ازي الصحة.. سلامات..
قلت له وهو يقودني إلي حجرة مكتبه:
- والله يا أستاذ يحيي حضرتك وحشني جدا.. كنت علي بالي دايما طوال السنتين الماضيتين.
رد قائلا وهو يسير متجها إلي الأمام يتحسس طريقه بعصاته:
- والله العظيم يا صلاح أنا عايش بفضل أصدقائي. ربنا أكرمني بأصدقاء عديدين أعزاء علي وأحب قبل أن أموت أن أسجلها بمناسبة زيارة الأستاذ صلاح لي وهو أيضا سيأتي ذكره بين هؤلاء الأصدقاء.
أريد أن أقول لكم إن المولي سبحانه وتعالي أنعم علي بنعم لا حد لها، وحين أقرأ القرآن أقف عند الآية الكريمة (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها).. ومن أكبر النعم التي أنعم الله بها علي ولا أدري كيف أشكره عليها نعمة الصداقة ولقد ذقت هذه النعمة منذ صغري. منذ كنت في المدرسة الابتدائية والثانوية فإذا بها تلاحقني في أواخر العمر..وفي أواخر عمري عرفت أصدقاء من أعز الناس لي ولا يمكن أن أستغني عنهم، ويجب أن أذكر أسماء كثيرة لكن إعذروني.. لن يزعلوا مني لأنني أعرف أني صديقهم، وأن العيب هو عيب الذاكرة.
حقيقة الذي لا يحب هو رجل لم تكتمل إنسانيته فالحب بين الرجل والمرأة حب قلب وجسد. ولكن الصداقة ليس فيها هذا الشعور العنيف والضغط والأخذ والرد والصلح والخصام.بل طريق ممهد، كأنك ماشي في حديقة. هذه هي قيمة (الصداقة).
الوصية الثانية.. هل العامية لغة أم لهجة؟
قد نختلف في الإجابة علي هذا السؤال.. وأنا أقصد طبعًا بالأخص اللهجة العامية المصرية.. بعضهم يقولون العامية ما هي إلا لهجة من الفصحي، وبعضهم يقولون بسبب خصائصها المتميزة بها أنها لغة مستقلة بل إنها تستطيع أن تعبر عن أشياء لا تستطيع الفصحي أن تعبر عنها.. من ذلك زالباءس في كلمة زأنا باكلس.. هذا التعبير، يدل علي استمرار الفعل. قلما نجد له مثيلاً في اللغة الفصحي.. فالبعض يقول العامية لغة والبعض يقول العامية لهجة.. ولكن هناك مسألة لا أظن بعد أن نتدبرها أن نختلف فيها وهي.. بأي لغة نفكر نحن أهل مصر؟ .. حقا إننا نتعلم اللغة الفصحي في المدرسة ونحفظ نحوها وصرفها ولكن أريد أن أدخل داخل مخ الرجل المصري الذي هو أنا مثلاً.. أشهد أن تفكيري كله باللغة العامية.. حين نكتب الفصحي هل نحاول أن نترجم هذه العامية إلي فصحي؟ .. هذه المسألة لا أريد أن أناقشها أيضًا.. ولكن أقول أن إدراكنا للطبيعة التي حولنا.. الانتباه إلي بعض نواحي الجمال.. الانتباه إلي المفارقات.. الانتباه إلي النكت التي تدعو أحيانًا إلي التعجب وأحيانًا إلي الابتسام أنا أستعمل كلمة نكتة هنا لا بمعني الفكاهة، بل بمعني كل شيء دقيق يحتاج إلي لمحة سريعة لتبينها.. كل هذه الأشياء ننتبه إليها بفضل العامية.. إذن أقول لك يا أستاذ صلاح.. أنا أشترط لمن يريد أن يكتب اللغة الفحصي كتابة جيدة أن يتقن اللغة العامية.. كيف؟ أولا أن يحبها حبًا شديدًا.. أن يعرف كل ألفاظها.. أن يقف أمام دقائقها العجيبة في التعبير. من ذلك قولنا اهذه الشقة مبهوأة علي، هذه الشقة محندقة عليب فانظر إلي كلمة امبهوأةب و امحندقةب وحاول أن تجد لفظين فصيحين يحلان محلهما لإحداث نفس التأثير الذي يحدثه هذان اللفظان العاميان.. فقلما تجد.. إذن أنا أريد منك أولاً أن تحب اللغة العربية وأن تتقنها كما قلت لك بمعرفتها أولاً. وكأنك تتصيد كل الألفاظ العامية التي تجد أنه لا يمكن ترجمتها إلي الفصحي.
كيف نصل إلي إتقان اللغة العامية؟
أقسم اللغة العامية إلي قسمين.. قسم أقول عنه إنه سوقي.. تعامل كل يوم.. أن تذهب بهذه اللغة العامية إلي سوق الخضار وتقضي حاجتك وتتكلم في التليفون في مشاغل الحياة.. هذه اللغة ضعها في كيس وألقها في البحر.. لا قيمة لها.. ولها عيوب كثيرة جدًا لأنها تتحول من جيل إلي جيل وأضرب لك مثلاً: كنت حين أركب الأتوبيس يقولون ااتفضل يا أفنديب ثم أصبح ااتفضل يا بيهب وبعدين ااتفضل يا باشمهندسب.. فكل جيل له تعبير يناديني به..
ثم ثانيًا.. ليس لها جذور .. اللغة الفصحي لها جذور ضاربة لأعمق أعماق وجداننا وتاريخنا ومراجعنا.. ولها أسرار .. يعني اللغة الفصحي ليست لغة, بل هي حرف. كل حرف في اللغة الفصحي له معني وله دلالة..
أنا مغرم أشد الغرام بالاستماع إلي التجويد في القرآن لأتبين كيف ينطق كل لفظ له نوع معين من النطق وموسيقي خاصة به، بل له معني.. وضربت لذلك مثلاً في بعض كتبي. حينما صدر قاموس المعجم الوسيط لمجمع اللغة العربية كان عندي وقت طويل فقرأت القاموس من أوله إلي آخره كلمة كلمة.. كان غرضي الأول أن أصل إلي الكلمات المستحدثة التي استحدثها المعجم..
كنت أريد أن أعثر علي الكلمات الجديدة لأنني في أشد الحاجة إلي هذه الكلمات.. فإذا بي أقف عند كلمتين استوقفتا نظري: كلمة زتوربيدس و زطوربيدس وكلمة زترابيزةس و زطرابيزةس واضح أن المعجم حينما وصل إلي هذه الكلمة وتبين له أن كل كلمة منهما يستطاع أن تكتب في التاء مرة وفي الطاء مرة.. يعني تقارب النطق بالتاء والطاء جعله يري من الأمانة أن يكتبها مرة بالتاء ومرة بالطاء.. كما فعل في التوربيد طوربيد وترابيزة طرابيزة.. فإذا بي أجده في ترابيزة زبالتاءس يقول منضدة صغيرة توضع فوقها الكتب أو الأشياء.. لما كتبها زبالطاءس طرابيزة قال منضدة كبيرة..
كذلك في توربيد زبالتاءس يعني قذيفه، وطوربيد زبالطاءس.. قذيفه كبيرة. فانظر كيف تحول نطق اللسان من التاء إلي الطاء أعطي للكلمة معني الكبر والضخامة مه أن هذا ليس في هذه الكلمة أي شيء يدل علي الكبر.. لكن مجرد تغيير نطق حرف من تاء إلي طاء يضيف للتاء معني لا يستدل به من الكلمة ولا من وصفها.. إلي هذه الدرجة أقول لك إن اللغة الفصحي ليست ألفاظا ولا كلمات.. بل الحرف له معني..
هناك أيضًا الحروف المتشابهة وهناك الحروف المتحابة.. ونحن في المدرسة ضربوا لنا أمثلة علي التنافر في الحروف.. وقالوا بيت شعر مشهور: اوقبر حرب بمكان قفر.. وليس قرب قبر حرب قبرب وأنا حين أتأمل هذا البيت أقسم لك أني لا أجد فيه أي تنافر.. علي كل حال انتبه علماء اللغة إلي أن الحروف قد تتنافر، وحذروا من أن تجمع في كلمة واحدة مثل هذه الحروف المتنافرة.. ونسوا أنه ليس هناك شيء مخلوق ليكون حرفًا أو ليكون كلمة.. إنما هو مخلوق لأداء معني .. فإذا كان تجمع هذه الحروف التي يرونها متنافرة تؤدي معني فهي علي العين والرأس وهي ليست متنافرة أبدًا.. قلت لك إن اللغة العامية السوقية لا قيمة لها.. بل سمجة أيضًا..
تبقي ما يسمي باللغة العامية الفنية التي استخدم في استعمالها الذوق.. التلذذ باللفظ سواء وأنت تنطقها أو وأنت تشير إلي شيء معين، وتشعر بنشوة أنك نجحت في العثور علي هذا اللفظ لأداء هذا المعني أو لوصف هذا الشيء.. فتشعر باللذه والسرور.. هذه اللغة العامية الفنية هي مطلبي من الكاتب الأديب منك يا صلاح أن تبحث عنها وتتأملها وتتذوقها وتعرف من أين يأتي جمالها؟ من أين تعثر علي هذه اللغة العامية؟ في بابين: الباب الأول أسميه زالأغاني الشعبيةس.. لأن هذه الأغاني الشعبية نابعة من صميم الشعب، متصلة بوجدان الشعب اغير متأثره بحكاية اللغة الفصحيب يعني انتاج مصفي لا يخالطه أي تأثيرات، كأنه وليد لم يلبس ملابسه بعد ما أجمله؟ زح تلبسه طاقية وقميص وابصر ايه .. ما يبقاش هوس نحن نريد أن نري اللغة العامية كما تولد.. فإذن يجب أن نهتم أشد الاهتمام يا أستاذ صلاح بأن تجمع الأغاني الشعبية,. الباب الثاني زالأمثال الشعبيةس شوف الرقة والذوق في تعبيرها.. مثلا عندما يقال لك زقلب الشتا طوبهس. وعندما يقال: اخبط الهوا علي الباب .. قلت الحبيب جاني.. أتاريك يا باب كداب.. تتهز بالعانيب كلمة العاني هذه الواحد يقف قدامها متحير.. ازاي جت؟ وما لذتها هنا؟ ولا يمكن ترجمتها.. فنحن اذن نبحث عن الأمثال الشعبية أيضًا وندرسها دراسة صحيحة..الأغاني والأمثال في نظري هما المنبعان الرئيسيان لتذوق اللغة العامية ومعرفتها.. فإذا تحقق هذا لديك.. هل أطلب منك إذن أن تترجم هذه اللغة العامية إلي الفصحي كأنك تترجم انجليزي إلي فصحي أو فرنساوي إلي فصحي أو طلياني إلي فصحي؟.. لا. أحذرك من هذا كل التحذير.. سيبوظ كل شيء لأن الترجمة بتفسد النص الأصلي، قصدي هو أن يتكون لك من إتقانك للغة العامية مزاج نابع من تذوقك لهذه اللغة بجمالها.. بهذا المزاج تدخل إلي الفصحي..
الوصية الثالثة .. احذروا معاول صغيرة بحجم الكف!
- يقولون االصحة تاج علي رؤوس الأصحاء لا يراه إلا المرضي»، ولكني أقول للشباب، أنتم في أيديكم أكبر نعمة من الله سبحانه وتعالي وهي الشباب.. جميع حواسكم سليمة وقتكم متسع.. فمن البؤس أن تصابوا بإحباط أو يأس، بل يجب أن تيقنوا أن في أيديكم نعمة لا حد لها فيجب استغلالها أولا لنفعكم، ثم لنفع البلد بلا جدال.. فلينظر كل شاب ما هي مقدرته ويحاول أن ينميها، يجب أن يؤدي عملا إيجابيا، وأتمني أن ينصرف همه إلي دراسة المجتمع الذي يعيش فيه لأن مع الأسف الشديد جزءا كبيرا من مصر مهمل.. يعني لا نعرف مثلا خصائص مدينة ابورسعيدب.. كيف نشأت وكيف تكونت وما هم الأهالي الذين جاءوا إليها وما تأثيرها وما تطورها؟.. فالشخص الذي يعيش في منطقة يجب أن يهتم بدراسة هذه المنطقة ويجمع أمثالها الشعبية وأغانيها وطرقها وعاداتها.. في كل منطقة محلية.. والشاب يجب أن يستخرج لنا ما نجهله عن هذه المنطقة..
وأنصح الشباب أيضا كما نبهت من قبل أن في أيديهم ثروة كبيرة جدا لا يجب أن يهدروها بدعوي الشعور باليأس والإحباط والمستقبل المظلم.. فهذه معاول هدم.. والذي يهدم ليس معولا كبيرا واحدا، بل في الحياة معاول صغيرة دقيقة لا يزيد حجمها عن الكف هي التي تتجمع وتخبط.. مش معول واحد.. بل عديدةا وكلهم صغيرينب لكن تجمعها له القدرة والقوة..
ثم الإرادة.. يجب أن يكون الشاب صاحب إرادة ولو في قوله ا لن أشرب سجاير.. أو سأتعلم الإنجليزية.. أو سأقرأ كتابا...ب أريد مشروعا بسيطا يستطيع أن يفعله أي شاب ويصمم علي تنفيذه.. ويجب أن يثبت لنفسه أنه نجح في تنفيذ مشروع أعده لنفسه وخططه لنفسه.. فهذا النجاح في المشروع البسيط سيثبت إيمانه بإرادته وينقله من عزم إلي عزم حتي يشق طريقه في الحياة...
الوصية الرابعة... استعادة كنوزنا من تركيا
عندما أتأمل هذه الوصية وأستعيد ذكرياتي مع هذا العملاق فأتحسر علي حال الفن والأدب والثقافة في أيامنا.. أعتقد أنني علي المستوي الشخصي قمت بتنفيذ هذه الوصية كما أملاها علي يحيي حقي من حيث لقائي بأصدقائه المقربين فأضاء كل واحد منهم جانبا من شخصيته الأدبية، وكذلك القراءة المتأنية المنتظمة والاهتمام باللغة العربية وجمالياتها والانتظام في الكتابة والإبداع بشكل مستمر والتأمل في الطبيعة وقراءتها بالعين.. وأحاول كلما حضرت ندوة أو ملتقي أن أنقل إلي الشباب فكر هذا الرجل وثقافته ونصائحه لهم..
لكن بقي شئ مهم تذكرته الآن ولأول مرة منذ رحيل يحيي حقي.. فقد أوصاني به في أخريات أيامه وكأنه يحملني أمانة فوجدت بدوري أن أنقلها إلي الأدباء والقراء والمثقفين والحريصين علي تراثنا الثقافي..
لقد حملني يحيي حقي مسئولية استعادة المخطوطات المصرية الموجودة بتركيا وهو تراث ضخم أعتقد لو ساهمنا في إحضاره إلي مصر ستتغير الخريطة الثقافية والأدبية في العالم العربي.
أنشودة للبساطة عنوان كتاب للاستاذ يحيي حقي والدي العزيز والذي يجعلني اشعر دائماً بالفخر والاعتزاز وإنني أشكًر الله العظيم الذي اختار لي هذا الانسان الكريم ان يكون والدي... وكلما قرأت كتابات يحيي حقي يزداد إعجاب ويزداد اندهاشي وكيف استطاع هذا الكاتب ان يكتب بهذه الحميمه مع المشاركة الوجدانية بينه وبين القارئ ومن الذكريات التي لاتزال تعيش في وجداني عندما أتت اليه فتاه بسيطة وهي غير بصيرة بعلوم اللغة ولافأر كتب او واسعة الثقافة ولكنها مرهفة الحس وذواقة قالت له جملة ظلت محفورة في وجدانه قولها الذي كان عفويا ولكنه بالغ التعبير..قالت له انني حين اقرأ لك احس أني لا اقرأ انما تدخل الفكره في عقلي بسهولة ويسر وكأن القلم ينساب بتلقائية في قلب القارئ وهذا هو التعبير الصادق في الكشف عن سر البلاغة وهو اصدق مدح يطمع اليه اي كاتب ... لأني أتصور ان هذا المعني لا ينطبق الا علي العازف البارع وكأنه منبعث من روح العازف وهذا الشعاع الفني المتألق آذا به ينطبق أيضاً علي الكاتب الذي لا يجعلنا نشعر اننا نقرأ ألفاظا بل نلتقي تعبيرا متصلا متلاحقا وكانه منبعث من روح الكاتب بلا وسيله ماديه وكانه شعاع جوهر مستور داخل كلمات الكاتب...
تأثيرها لا يزال قويا
ويحيي حقي يثير الاندهاش والإعجاب من خلال قصته الشهيرة (قنديل ام هاشم )والتي كتبت في النصف الاول من القرن الماضي والتي لا يزال لها التأثير القوي في عصرنا الحديث وكأنها كتبت حديثاً بلغة العصر القضية المثاره في القصة لا تزال تعيش في مفهومنا الحاضر وتأثير هذه الروايه في الادب العربي جعل يحيي حقي يحمل لقب. صاحب القنديل ...
ولقد كان يحيي حقي يسبق عصره ولا ادري كيف استطاع ان تكون هذه النظرة الثاقبة في ريادة عصرية ومن هنا اهتم في المرحلة المبكرة بالكتابة عن عالم الحيوان من خلال قصة » فله ومشمس ولولو «وتعد من اجمل ماقرأت ليحيي حقي وظل مهتما بهذا العالم واصبح من معالم أدبه فيما بعد فنقرأ قصته عنتر وجولييت ونلاحظ اهتمامه من ناحية الشكل بالصورة الوصفية والتي اصبحت من معالم فنه القصصيه كما يعترف الاستاذ يحيي حقي من خلال قصته الرجل ذو القناع الاسود انه كتبها متأثرا بالقصاص الامريكي الان بو وايضا كان رائدا بالاتجاه الرمزي وصل الي ذروته فيما بعد في قصته صح النوم اما قصة قهوة ديمتري تمثل في كتابات يحيي حقي نحو الواقعيه كما ان له قصه اغلب الظن لم يطلع عليها الا قله بعنوان الموت وأنها تمثل في رأيه الشكل الفني الذي يجمع بين القصة والمقال وهذه طريقه حديثه في تقديم اسلوب من أساليب الشكل الروائي والذي قد عودناالأديب التجديد والحداثه كما ان يحيي حقي اتجه الي الكتابات النقديه في النقد الادب من خلال المقالات الهامة التي جمعت بعنوان (خطوات في النقد) وكتاب (هموم ثقافية) وكتابه( تراب الميري) اغلبها دراسات نقدية يضع من خلال سطوره الأفكار الحديثة في النقد والفكر الابداعي.
خادم اللغتين الشريفتين
وايضا اتجه يحيي حقي في مرحله من مراحل كتاباته الي الأسلوب الفكاهي وهو اسلوب نابع من استمرار محاولته خلق أدب مصري نابع من الروح المصرية الي تشفي الفكاهة مثل كتابه (دمعة وابتسامة) وكتابه (فكرة وابتسامة) وفي مجال السرد والأسلوب استطاع يحيي حقي ان يجد طريقا جديدا في التعبير واحترام الكلمة وتوظيفها برشاقة واحترام ووضعها في المكان المطلوب لا تزايد ولا تناقص وسمي بالأسلوب العلمي في الكتابة وقد لقب نفسه انه خادم اللغتين الشريفتين الفصحي والعامية ولا مانع في استخدام الكلمه العامين إذا لزم الامر.
في قصة البوسطجي
وقد استطاع ان يكون رائدا في الرؤية الحديثة مثل انه كان اول من استخدم الفلاش باك في قصته (البوسطجي) وايضا أول من استخدم الرواية الدائرية من خلال قصته السلحفاة تطير حيث تنتهي الرواية من حيث بدأت لم تكن الساحة الأدبية تعرف هذا الإبداع والذي. ولد علي يد هذا الكاتب الذي لا يعلن عن نفسه ويترك للمهتمين بالدراسات النقديه مهمة التعريف والتقديم اما اذا سالت عن احب الكتابات الي نفسي اجد من الصعوبة في الاختيار من كنوز يحيي حقي ولكن ارشح كتابه صفحات من تاريخ مصر لانه في هذا الكتاب يسرد الحوادث التاريخيه بالأسلوب القصصي المتميز وهذه الصفحات ليست معاهدات انما اختيارت يراها بنظره ثاقبة ويحاول ان يكون الجبرتي الحديث عندما يؤرخ للحوادث او الانسان فقد قدم لنا شخصية القبقابي «بائع القباقيب» ويصف الحوادث وكأنه يحمل كاميرا فوتغرافيه لتصوير الكلمات داخل غلاف الإتقان والابداع ويتمتع الاستاذ يحيي حقي بالحس الفني الرفيع وله سلسلات فنيه تعبر عن الفنان في داخله من خلال كتبه (محراب الفن) و(تعالي معي الي الكونسير) و(ياليل ياعين).
ورغم غياب يحيي حقي عن الساحة الا ان قنديله سيظل مضيئا في افق الادب العربي يحمل معه عصارة عصر مذدهر برواده وأفكاره وفلسفته حتي يظل في جبين الزمان اجمل عنوان للحضارة الانسانيه التي تنم عن عظمة الانسان المصري عبر العصور المختلفة ...
ودكان يحي حقي يحتوي العديد من الكنوز والجواهر والعقيق هي نظرات وتأملات وانطباعات واختيارات فنان عميق الحس الإنساني والأخلاقي ونافذة البصيرة ورحب الأفق يقول: لا قياس عندي لعمري الا بهذه اللحظات القليلة النادرة التي نبض فيها عرق من روحي معتزا بجذب قدسي عند التقائي بالفن متلقيا ومعبرا، قمة هذا الجزل عند التقائي بالشعر والموسيقي علي قدم المساواة ثم النحت ثم التصوير ثم العمارة ،
لست ادري أين أضع بينها لقائي برشاقة هذا الانسان في فن الباليه، ويعلو كل هذا جذل اللقاء بفن واجل ، فن الطبيعة وجمالها لو افضت فيه لاحتجت ان اكتب مجلدا ضخما ، هي لحظات قليلة نادرة ، لكني عرفت بفضلها طعم السعادة وحمدت ربي عليها حمدا طويلا لا ينقطع ... هذه كلمات رجل مرهف الحس عميق الذوق شكلت مساهمته الابداعية والنقدية مرحلة مضيئة من عمر الادب والفن في مصر ستظل منارة ساطعة للاجيال القادمة، وستظل مهارات يحي حقي رغم قلتها وتذبذبها بين الواقعية والصوفية بين اللقطة الحساسة المرهفة واختزال الواقع وصدقه هي من اهم سمات وجدان هذا الكاتب المتميز .
تصوير روح الشعب
لم اعرف كاتبا او مؤرخا استطاع ان يصور روح الشعب المصري مثله مثل المؤرخ الكبير الجبرتي وحاول ان يستفيد منه ففتح آفاقا جديدة للكتابة التاريخية والتاريخ الاجتماعي ونبه الي المنهج العلمي بعيدا عن النقل الآلي الميكانيكي للنظرية دون مراعاة خصوصية التطور ارخ هذا في كتابه فجر القصة المصرية...
وأشعر بالفخر والاعتزاز عندما اكتب عنه وبعيدا عن انني ابنته وهذا الاعتزاز يرجع بأنني عشت هذه الحقبة الأدبية المزدهرة في حياتنا الثقافية والأدبية لانه كان واحدا من أعلامها وله اكبر الأثر في الانجازات في التطوير الابداعي في الادب العربي المعاصر والفكر المتجدد رغم مرور العمر وضعف النظر ظل شابا يعيش عصره بل يسابقه .
وأصدق دليل علي ذلك ان كتابات تعيش الي عصرنا بلغة حديثة تواكب العصر الحديث وكانها كتبت. اليوم وهو أيضاً يمتلك تركيبة خاصة بتنوعه في المزا ج الأدبي والثقافي ويحتار المرء في تصنيفه وتقديمه فهل نقدمه رائد القصة القصيرة والرواية القصيرة وتقنين شكلها وإعطائها مزاجا خاصة بها من حيث المضمون والرؤية المصرية العميقة في النفاذ داخل الانسان وتحليله بعيون فاحصة وثاقبة فيرسم اللوحة القصصية بريشة فنان كما انه أستاذا في الدراسات النقدية والثقافية تستحق ان يلتفت اليها في اطار مدرسته في الادب النقدي الحديث من دراساته في الجانب التطبيقي للنقد وقدمها في كتبه خطوات في النقد فجر القصة المصرية عطر الأحباب أنشودة للبساطة ، هذا الشعر عشق الكلمة هموم ثقافية ...
كما اهتم بالفنون بكل أطيافها الفن التشكيلي والعمارة والنحت والموسيقي والرقص الشعبي من خلال كتبه محراب الفن ، تعال معي الي الكونسير. وياليل ياعين وهكذا نشهد لهذا الكاتب الفنان المبدع ثقافته الفنية التي وراء تميزه في الذوق الإنساني من خلال ما يكتبه بهذا الرقي وهذا الفهم وهذا الحس المرهف ، وان رؤية يحي حقي كانت تتغلغل في الأعماق بصدقة وقدرته علي التعبير من خلال سرد أفكاره ...
وعندما يذكر اسم يحي حقي يحتار القارئ في اختيار اهم الكتب التي تؤرخ لابداعاته لأنهم كلهم يستحقون كل التقدير والإعجاب وانما في تقدير الخاص اهتم بشده وحب بكتابه كناسة الدكان وأعتز به اشد الاعتزاز بما يحتوي من الحس المرهف المتذبذب بين الواقعية والصوفية والوصف الدقيق للإنسان والنفس البشرية لضعفها وارتقائها وكانه يصورها فوتوغرافيا لتكون الصورة مجسمة امام القارئ الي هذه الدرجة من العمق الذي يلمس القلب ... وهكذا يصل بالقارئ الي آفاق جديده تداعبه وتؤانسه وهذا هو يحي حقي صاحب القنديل والذي حمل قنديله في افق الادب العربي ليضئ الطريق للقصة المصرية في ربوع الجمال والتي ستظل مشتعلة ومواكبة الزمان لتكون اصدق دليل علي هذا الكاتب الذي اعطي عصارة فكره بكل صدق نبضات الحداثة في أزهي عصور التقدم الفكري المعاصر ... سيظل واسمه ساطعا لن يطفأ ... لأن هؤلاء هم وجدان هذه آلامه ونبضها.
يقول الفيلسوف الألماني هيجل إن الاغتراب الإبداعي هو حالة الوعي التي يخرج فيها عن ذاته ويعبر عن شيء آخر وتصبح الروح عندئذ سواء في الحضارة أو الطبيعة يطلقونها في حالة اغتراب ليست في وجودها الصحيح سوي في الاغتراب الأدبي وهذا النوع من الاغتراب أمر ضروري لا مفر منه وتلك الروح إذا أرادت أن تعرف نفسها فاغتربت عن ذاتها بأن خلقت الطبيعة وتجسدت في أضرب الحضارة المختلفة من فلسفة وعلم ودين وهذه الأضرب وإن كانت جزءا من الروح فهي أيضا أشياء غريبة عنها اكتسبت وجودا مستقلا ويندرج تحت هذا الاغتراب ( الإبداع الفني ذ الأدب ذ العلم)
في رحاب السيدة
قنديل أم هاشم للكاتب الكبير يحيي حقي توضح حال البلاد من فقر وجهل ومرض نكشف النقاب عن شخصيات القصة لتعكس أوجه الاغتراب ومظاهره من خلال بطل القصة إسماعيل الذي عاش في رحاب حي السيدة زينب والذي كان يعيش في كنف أبيه وأمه ويحاول كل منهما توفير احتياجاته ولو علي حساب نفسه، كما تعيش معه في البيت ابنة عمه اليتيمة افاطمة النبويةب كانت دائما تسهر معه حين يذاكر وتتطلع إليه بعينين مريضتين محمرتين الأجفان وكانت تري فيه أنه كبير في نظرها لأنه يعرف أكثر لأنه يتحدث لغة الغرب بينما هو لا يري في هؤلاء الفتيات سوي رؤوس خاوية. عاش اسماعيل في رحاب السيدة الطاهرة تربي علي القيم والمباديء وبيت يقرأ فيه القرآن وتردد فيه الأوراد ويري قنديل أم هاشم المعلق علي المقام والذي لا يمكن للجدران أن تحجب نوره أبدا.
عاش اإسماعيلب وسط نداءات الباعة بنغمها الحزين وبائع الدقة الأعمي والشحاذ والطرشجي مع الفئات المطحونة من عامة الشعب التي تعيش الواقع المر، تفانت أسرة اإسماعيلب البسيطة الكادحة لتوفر له نفقات التعليم في الخارج، ليتعلم الطب والذي لم يؤهله مجموعه لدراسته في بلده جمع الأب كل ما استطاع من مال وباعت الأم حليها واشترت تذاكر السفر والملابس الثقيلة التي تقي من برد أوروبا واقترب موعد السفر وحل الوداع وودعته الأسرة بقلوب حزينة وأعين دامعة ولم ينس الأب أن يوصيهب وصيتي لك أن تعيش بره كما عشت هنا حريصا علي دينك وفرائضك وإن تساهلت مرة لا تدري إلي أين يقودك تساهلك واعلم أن أمك وأنا قد اتفقنا علي أن تنتظرك افاطمة النبويةب ولم يستطع أن يتخلص من الموقف فقرأ الفاتحة مع أبيه وخرج إسماعيل من القرية الصغيرة بقيم آبائه وأجداده وتعاليم دينه إلي عالم كبير وفضاء واسع من حوله قضي سبع سنوات في الغربة في بلاد غير بلاده وبالتأكيد كان لابد أن تطرأ عليه بعض التغيرات فخرج من قريته اعفا فغوي وصاحيا فسكر كما أنه راقص الفتيات وفسق هذا الهبوط يكافئه صعود لا يقل عنه جدة وطرافة ذلك علي حد تعبير الكاتبب.
و بطل قصة قنديل أم هاشم ااسماعيلب خرج من بلاده وهو في سن المراهقة في فترة تغير فيها كل شيء من تغيرات فسيولوجية وجسمية وفكرية علاوة علي أنه كان شابا خجولا تربي علي قيم ومباديء لم تسمح له هذه القيم أن يعبر حتي عن مشاعره للفتاة السمراء التي كانت تتردد علي مقام السيدة الطاهرة وتدعو الله أن يتوب عليها وتتنذر للسيدة الطاهرة خمسين شمعة فقد خرج اإسماعيلب في مرحلة ليست بمرحلة نضوج فكري وكان يعيش في مجتمع له حدوده وقيمه الدينية وإن كان هذا المجتمع في ذلك الوقت يخلط بين الدين والخرافات لأنه مجتمع بسيط غير متعلم فوجد اإسماعيلب نفسه في خضم هائل فضاء واسع عالم نظيف ليس فيه قذارة الحارة والشارع اللذان تربي فيهما مجتمع لا يراعي تلك القواعد أو الحدود التي تربي عليها مجتمع مختلف في كل شيء قيمه و تقاليده و لغته و فهمه لطبيعة الأشياء و نظرته للعلاقة بين الرجل والمرأة
ماري.. فضت براءته
ونجد أن (ماري) زميلته في الدراسة ساعدته علي أن يتعرف علي عالمها فوهبته نفسها في أول فرصة وهنا الكاتب يصف سذاجة وعدم خبرة إسماعيل بأنه(عندما وهبته نفسها كانت هي التي فضت براءته العذراء) فجعلته يكفر بالقيم والمباديء ولا يقيم وزنا لتعاليم دينه
فقد بهرته الحياة الجميلة المريحة التي يدفع ثمنها الأبوان من صحتهما وقوتهما والتعامل السهل البسيط في كل شيء مع الفتاة يأخذ كل شيء دون تعقيدات ودون أن تطلب منه شيء مقابل ذلك لا حدود.. لا قيم.. لقد بهرته الفتاة بأفكارها وجدالها المستمر كانت تحدثه في الفن في الموسيقي في الطبيعة بل في الروح الإنسانية عندما كان يحدثها عن الزواج تحدثه عن الحب عندما يحدثها عن المستقبل تحدثه عن اللحظة الراهنة كان قبلها يبحث عن شيء خارج نفسه يتمسك به ويستند إليه ألا وهو دينه وعبادته تربيته وأصولها ولكنها جعلته ينظر لكل هذه الأشياء بل أصبح يري فيها قيودا كنظرة اماريب لتلك القيم والمباديء بل كانت تعتبرها مشجب لو علق عليه معطفه سيظل أسيرا لتلك القيم والمباديء فكانت أكثر ما تخشاه اماريب القيود وأكثر ما يخشاه اإسماعيلب الحرية وكانت حيرته محل سخريتها كانت روحه تتأوه وتتلوي تحت ضربات معولها إلي أن استيقظ في يوم فوجد روحه خراب لم يبق فيها حجر علي حجر وأين افاطمة النبويةب ابنة عمه وخطيبته من اماريب ففاطمة مريضة لا تتكلم وإذا تكلمت لا تجيد فن الكلام ولا تعرف سوي أن تنظر إلي اإسماعيلب نظرة إكبار واحترام دون حتي أن تعبر عن هذا الرأي أما اماريب فهي تعرف كل شيء بل ربما أكثر منه وتجيد فن الحديث وتحدثه في كل شيء
هنا اغترب اإسماعيلب عن مجتمعه عن مبادئه عن قيمه بل اغترب عن ذاته حيث بدا له الدين خرافة لم تخترع إلا لحكم الجماهير والنفس البشرية لا تجد قوتها ومن ثم سعادتها إلا إذا انفصلت عن الجموع وواجهتها أما الاندماج ضعف ونقمة ونجد أنه طبقا للنظرية النفسية لستوكلز عن الاغتراب والتي توضح أن الاغتراب يتضمن بعض الأعراض مثل العزلة وغيرها من الأعراض.. ينطبق الاغتراب علي إسماعيل لشعوره بالعزلة سواء عن قيمه أو مبادئه أو وطنه عندما كان غائبا عن الوطن.. أو عندما عاد إلي الوطن بجسده فقط ولكن زإسماعيلس عاد شخصا آخر بمعتقدات وأفكار جديدة يحملها من ثقافة غريبة عنه ودين مختلف لقد اندمج زاسماعيلس في مجتمع مختلف وانعزل عن أفكاره وقيمه ودينه وثقافته، ربما تكون غربة زإسماعيلس عن أهله ووطنه سببا في اغترابه، لقد شعر إسماعيل بأنه تائه فشعوره بالعزلة وبالوحدة أظهرت لديه شعور بالقلق والحيرة كما بدت في نظراته لمحات الخوف والذعر كل هذا التيه والشعور بعدم التوازن جعله يتعرض لهزة عنيفة انقطع علي أثرها عن الدراسة وكأنه غريق فقد طوق النجاة كل هذه المشاعر ما هي إلا مظاهر لاغتراب إسماعيل عن كل ما عرفه ووعيه وعاش فيه في وطنه وسط أهله ومجتمعه وهو يتلمس الحلال والحرام ويمارس العادات والتقاليد ولقد استطاعت زماريس أن تقف بجانبه وتخرجه من محنته واستطاع أن يعود إلي دراسته ولكن بعد أن أضحي شخصا غير الذي كان من قبل فاكتمل اغترابه بعد أن اغترب عن دينه فقد طرح الاعتقاد في الدين جانبا واستبدله بإيمان أشد وأقوي بالعلم وعلي هذا فقد اغترب عن ذاته وهنا نجد الكاتب دائما يوضح من خلال القصة أن الفشل والعجز والاغتراب الذي يظهر لدي الشخص مرتبط دائما عنده بالبعد الديني ومدي تمسكه وقربه من الله وعلي أساس ذلك يمكنه قهر الاغتراب.
صدمة إسماعيل
عندما عاد اسماعيل إلي وطنه وجد نفسه غريبا اصطدم بالواقع و الجهل و المرض والذباب والفقر والخراب بعد كل المتعة والجمال والتقدم والتلهي بما لذ وطاب من متع الحياة علي اختلاف أشكالها في بلاد أوروبا لقد صدمه الواقع وأيقظه علي حقيقة أشد قسوة ومرارة، وجد إسماعيل نفسه غريبا بين أهله حتي أنه لم يتصور بينه وبين نفسه كيف سيعيش بينهم في تلك الدار فما أقسي أن تشعر بالغربة وأنت وسط الأهل والأحبة، صدم إسماعيل ليلة عودته بالجهل قريبا منه عندما وجد أمه تضع لفاطمة من زيت القنديل في عينيها وهي موقنة من شفائها ببركة زيت القنديل فصرخ صراخا مدويا قام علي أسره والده ليري ما الأمر ووجد أنه يعيب في الست الطاهرة عندما قال لهم( أهي دي أم هاشم يتاعتكم هي اللي ح تجيب للبنت العمي) واتهموه بالكفر وضاع أمل الأب والأم في إبنهما الذي تحملا من أجله كل الصعاب وخرج يصرخ في الناس ويحطم القنديل فداسته الأقدام وسال الدم منه ومكث في البيت طريحا للفراش مريضا وهنا تأكد الناس أنه مرض بسبب عدم ثقته في قدرات زيت القنديل وبركته وعندما استرد عافيته حاول أن يعالج عين فاطمة إلا أنه فشل بكل العلم الذي أتي به ورغم أنه عالج مثل هذه الحالة من قبل ونجح في علاجها دون أدني شك وفقد الجميع الثقة فيه وفي علمه ونبذه الجميع.
هو وفاطمة
هنا تجلي شعوره بالعجز وعدم قدرته عن فعل أي شيء لفاطمة وتتعاقب بعد ذلك مظاهر اغترابه فيصبح بلا هدف يبيع كل أجهزته الطبية التي جاء بها ليسكن في بنسيونات أصحابها أجانب ليعيش المجتمع الذي يريده ولكن يكتشف أنهم مختلفين عن هؤلاء الذين كان معهم حتي أنه فكر في الهروب والعودة مرة أخري إلي حيث كان في أوروبا ولكن يعود في اليوم التالي ليجد نفسه يدور في حي السيدة الطاهرة ويتطلع إلي المنزل لعله يري فاطمة الذي فشل في علاجها والبيت الذي لفظه وعندما يأتي رمضان وهو لا يصوم وتأتي ليلة القدر التي يشعر بطقوسها وأهميتها منذ صغره وما زال يحتفظ بذكراها في نفسه ويذهب إلي المقام ويراه الشيخ زدرديريس الذي يعرفه جيدا من قبل أن يسافر ويطلب منه بعض زيت القنديل ويري الفتاة السمراء التي أعجب بها رغم أنها ليست لها براءته وإنما هي مجرد بنت من بنات الهوي وقد عادت بعد سبع سنوات لم تقطع فيها الأمل أن يتوب الله عليها ويهديها إلي طريق الصواب وقد وفت بنذرها وأحضرت خمسين شمعة لمقام الست الطاهرة وشعر بشيء غاب عنه من زمن طويل واجه أهل حيه بأخطائهم ولكنه عاد هذه المرة وهو يدب في قلبه ذلك الشيء الذي حال بينه وبين علمه هو الإيمان، وعندما استطاع إسماعيل أن يعود لأيمانه وجد ذاته التي طالما بحث عنها ولم يجدها وتأكد له أن العلم ليس له قيمة بدون الإيمان واستعاد توازنه وأصبح متكيفا مع المجتمع الذي بات يوما غريبا عنه وبالرغم من أن إسماعيل وهو يعاني من أيام اغترابه وجد في فاطمة شخصا غريبا عنه وبالرغم من اتساع الهوة العلمية والثقافية بينهما إلا أن زفاطمةس هنا تمثل الوطن والجذور ومعني أنه استرد وعيه وذاته فلابد من عودته للوطن والأرض والناس و هذا يتمثل في عودته لفاطمة .. وهنا يوضح لنا الكاتب أن الإنسان لايفقد قيمه وتراثه وعاداته وتقاليده لكنها تبقي راسخة في الأعماق في اللاشعور وهذا ما سبب لإسماعيل الصراع من قبل..
نجد أن اسماعيل في النهاية يعد فاطمة بأنه لن يتركها وسيعلمها كيف تلبس وكيف تأكل ويحثها ألا تيأس من الشفاء.. هنا قمة عودته لذاته بعد تعرفه عليها باالإيمان وهنا نقول أن فاقد الشيء لا يعطيه فعندما عاد لذاته وعاد إليه إيمانه يري كل شيء علي حقيقته بل استطاع أن يمد يده بالمساعدة لكل من حوله فعاش سعيدا وأسعد من حوله وشفيت فاطمة وتزوجها وأنجب منها خمسة بنين وستة بنات وعاد يخدم أهل القري والغريب أنه لم يحاول أن يعمل في القاهرة بل ذاع صيته في القري المجاورة وقنع بهذا النجاح..
كن كان...القدرة والمقامرة
(كن كان) اسم يرمز لأكثر من معني بين الكاف والنون يكمن سر من أسرار الخالق العظيم قدرة الله ومشيئته وامتثال الإنسان لقدرته لأنه أمر يتعلق بالقدرة الإلهية التي لا تتأتي لغيره عز وجل.. علي الناحية الأخري معني كن كان نوعا من المقامرة في أوراق اللعب وقد استخدمها الكاتب للإسقاط علي شخصية بطل القصة الذي قامر بعشر سنين من حياته دون أن يعلم هل سيبقي له غيرها أم لا وإن كان هذا التصور لا معقول إلا أنه يرمي به إلي عدم رغبة حسين بطل القصة في البقية الباقية من حياته والتي لايعرف إن كانت ساعة أو عشر ساعات أو عشر سنوات لأنه ليس له هدف في الحياة ..وتبدأ القصة بسؤال عميق حير العلماء والفلاسفة وكذلك الأدباء وهو:إن بطل اكن كانب احسين فرغليب يعيش علي هامش الحياة ويخشي أن يدخل في أغوارها لايستطيع أن يلاطم الأمواج خشية أن تعصف به فهو يتابع أصدقائه في المقهي في اللعب ولكنه قد لا يلعب فهو دائما يلوذ بالشاطيء خوفا من تيارها علي حد تعبير الكاتب ونجد أن عواطفه موزعة تارة مع الغالب وتارة مع المغلوب ليس له اتجاه محدد في الحياة بشكل عام وحياته بشكل خاص فهو دائما يلتزم موقف المحايد والمحايد محروم من لذة المشاركة في الصراع إن حسين مع أصدقائه علي المقهي لا يتحدثون سوي عن الوظيفة والدرجات حياة روتينية من الدرجة الأولي وكذلك الأمر في بيته وحياته الزوجية مع زوجته وابنة عمه إحسان فهي دائما تشكو لا تنتظره بالشكل الذي يرغب فيه ويجعله يعف عن التفكير فيما كان يحب ونجد أن حسين في هذه الليلة التي يشعر فيها بقمة اغترابه ورفضه لحياته يشعر أن الليل يحجبه عن الأنظار وهنا يلذ له أن يحتضن أفكاره ويختلي بها تعود إلي ذكريات قديمة عيناه تارة تتكلمان بالسرور وتارة بالحزن ويهتز رأسه مرة بالعجب ومرة بالحسرة إنه يعاني من تخبط في مشاعره إنه يشعر بمشاعر كثيرة متناقضة أحيانا سارة وأخري حزينة في هذه الليلة نجده يحاسب نفسه فهو آسف علي حياته نادم من جديد يتمني أن ينسي اليوم الذي ألقي بنفسه في مدرسة المعلمين فهو كاره لها إنه يمقت مهنة التدريس كأشد ما يمقت في حياته فهو يري أن المدرس لا يتقدم إلي الأمام بل أن العالم يتقدم إلي الأمام والمدرس ثابت في مكانه وإن التفت يلتفت إلي الماضي ويري إنه لا فائدة من تعليم هؤلاء الصبية فهو نفسه عاجز عن إسعاد نفسه فكيف له أن يسعد هؤلاء الصبية إنه واثق بعجزه عن إسعادهم فالحياة مليئة بالمصائد محفوفة بالمظالم وهو لم يسلحهم إلا بقشور من العلوم النظرية وهنا نتبين أن عجزه عن تحقيق السعادة لنفسه تنعكس علي من حوله فهو يري أنه عاجز بالتأكيد عن تحقيق أي شيء للصبية الذين يقوم بتعليمهم ويتضح لنا هنا مبدأ أنب فاقد الشيء لا يعطيهب إن الإنسان من أجل أن يقنع الآخرين لا بد وأن يقتنع هو أولا ولا بد أن يتمتع بالحجة القوية والبرهان.
كان يتمني أن يكون محاميا فهو يحس في نفسه المقدرة علي الفهم واستخلاص المباديء وسلامة المنطق وهذه مواهب لا تفيده في صناعة التعليم كان يتمني لو استطاع أن يدافع يوما عن مظلوم أو يرد حقا إلي صاحبه لكنه عاجز. تذكر كيف نكص عن الزواج بجارته آمال الفتاة الجميلة التي سحرته فلقد خشي أن يتزوج بآمال جارته لأنها مستبدة ولعوب و فاتنة ورضي بالزواج من إحسان ابنة عمه لا عن حب بل قياما بالواجب إلي جانب أنه اطمأن لأنها ربة بيت وهادئة ومعتكفة ومن وجهة نظره أنه قد أدار ظهره للنشوة والمتعة واللذة المتجددة المليئة بالعواطف وآثر حياة راكدة كالمستنقع.. نجد أن زوجته سرعان ما ا نقلبت إلي إمرأة بدينة خشنة اليدين فلم يرها مرة تستقبله عند عودته وقد مشطت شعرها أو اعتنت بزينتها إن حسين يري حياته سلسلة من الأخطاء وسوء الحظ، لكنه لم يفكر يوما أن يغير ما لا يعجبه في حياته أو يلفت نظر زوجته إلي المظهر الذي يحبه فيها أو يحب أن تكون عليه كعادة الكثير من الأزواج ليعتبرها زريعة للخيانة أو الزواج بغيرها..
التمرد واللاهدف
يشعر حسين أن قلبه يؤلمه يخبره الطبيب أن قلبه ضعيف يخشي عليه من كثرة الاجهاد ويتمني أن تأتي الأجازة وما الأجازة هنا إلا حيلة للهروب من مهنة يمقتها وزوجة لايحبها ولكنها فرضت عليه بحكم المجتمع والتقاليد ونجد هنا ثورة داخلية للكاتب عبر عنها في كن كان وقنديل أم هاشم وزواج إسماعيل من ابنة عمه ونجد أن الكاتب نفسه قد تزوج في أول حياته بابنة عمه فربما يود أن يعبر عن تقاليد وعرف المجتمع في ذلك الوقت وما تفرضه علي أبنائها ربما بأشياء لا يرغبون فيها ولا يتمنونها ويحاول الكاتب أن يلفت نظر كل زوجة إلي مظهرها الذي تهمله بمحرد أن تتزوج فتصبح غير التي أحبها أو حتي تزوجها بطريقة تقليدية لقد جاء علي لسان الكاتب نفسه أنه سرعان ما تغيرت زوجته وأصبحت بدينة مشعثة الشعر يديها خشنة إذن هو يري ويلمس فيها كل ما لا يحب ولا يرغب حينما تزداد حدة ما يشعر به الفرد من اغتراب وانفصال عن نفسه أو مجتمعه أو عالمه الموضوعي فإن حياته النفسية تختل ومعاييره تهتز وتظهر عليه زملة الأعراض المصاحبة للشعور بالاغتراب والتي قد يتمثل بعضها في الشعور بالعزلة والتشيؤ واللامعيارية والعجز واللامعني والتمرد واللاهدف واللامعقول.
ليس ضروريا أن تظهر كل هذه الأعراض بل يكفي أن تظهر إحداها و حسين بطل قصة كن كان ظهرت عليه بعض مظاهر الاغتراب مثل عجزه عن اختيار مهنته وعن اختيار الفتاة التي أحبه. شعوره بأن حياته لم يصبح لها معني.. شعوره باللامعيارية وعدم الاتزان في مشاعره .. عدم الثقة في نفسه ويوضح لنا روبنز أن هناك علاقة بين مفهوم الذات والاغتراب عن الذات فالاغتراب عن الذات ينتج عن تضاءل مفهوم الفرد لذاته وأن النمو السوي للفرد يتضمن معرفته بذاته ومن ثم احساسه بهويته احساسا قويا ونجد أن تافز وشاختل ومادي وهيلين امتدادا لما بدأته هورني برد الاغتراب إلي الذات وإلي عوامل نفسية تؤدي إلي الشعور بالخزي والإحساس بالدونية تجاه الآخرين والشعور بالانفصال عن الواقع الخارجي وما يستتبعه من تحريف له فنجد حسين يري المظالم تتزايد أمامه وتتلاحق ولا أمل له في أن يري نهايتها أو يري عالما تسوده العدالة ، ويشير ليفكورت إلي أهمية التفاعل بين الفرد والموقف.. نجد أن حسين بطل القصة من هؤلاء ذوي الضبط الخارجي الذي ينظر إلي فشله أنه نتيجة للظروف وللآخرين أو للحظ أو الصدفة .ونجد هنا أن حسين ما زال يرجع الأمور لأشياء غير قابلة للحدوث لغيبيات وقد دفعه ندمه علي حياته بأنه لو يستطيع أن يرتد القهقري عشر سنوات ولو ضحي من أجل ذلك بعشر سنوات من مستقبل عمره.. لم يكد يسير حسب بضع خطوات بعد أن خطر علي باله هذا الخاطر حتي خيل إليه أنه يسمع صوتا من ورائه وفجأة شعر باليد التي وقعت علي كتفه التفت حسين مذعورا فوجد وراءه رجلا نحيفا قصيرا يذكره بصورة قديمة لأحد أجداده .
التقرب إلي الله
هنا ذكاء الكاتب مع حرفته في الكتابة يرد علي حسين بأمر قد يحل مشكلته وهو الجانب الديني والتقرب إلي الله ومنه وأن أثق في الله ثقة كبيرة لا يخالطها الشك في تحقيق ما تمني وأعطاه هذا االشخص الذي قابله الدليل من القرآن علي تحقيق ما يريد لكن بطل القصة عندما لجأ إلي حل مشكلته لجأ إلي حل من الحلول الغيبية لأنه خارجي الضبط ولو أنه من هؤلاء داخلي الضبط لأرجع سبب مشكلته إلي إخفاقه في الاختيار وتخليه عن حلم حياته في المخنة وفي اختيار شريكة حياته التي أحبها ووافق حسين علي أن يتنازل عن سنواته العشر.. لكن الحل كان غيبيا
هنا نجد أن الفلسفة في رؤية الحياة يتنازل الإنسان عن شيء لا يملكه ولايعرف كنهه ولا يبدأ إلا إذا أتاه الحل من الخارج بعيدا عنه دون أن يعقد مثل هذه الصفقة لو أنه فهم ذاته وحدد أهدافه وسعي في تحقيقها .
هنا وضع الكاتب يده علي قمة فلسفة الحياة لمن يدرك هذا المعني الذي بدأ به قصته فدائما يسعي الإنسان إلي ما هو بعيد عنه ويري جماله وبمجرد أن تمتد يده إليه يعافه وكم يعاني الإنسان ويتعذب ويتجرع غصة الألم علي أشياء ليست في متناول يده ولنه إذا رضي بالقضاء والقدر وبما قسمه له الله سيجنب نفسه آلالام الاغتراب التي يعيشها إن حسين لم يدرك جمال زوجته وابنة عمه إلا عندما عاشر آمال التي أحبها ووجد نفسه يتمني ابنة عمه وكذلك المهنة التي كان بنعي حظه أنه لم يمتهنها مهنة المحاماة ولكنه عاد وتمني المهنة التي ثار وتمرد عيها ولعن حظه من أجلها إذن المشكلة ليست في المهنة أو في الحياة نفسها ولكنها في نظرتنا تجاه هذه الحياة وإيماننا بالله ويقيننا فيه وفي قدرته فبيد كل منا أن يخلق عالما يحبه بالإرادة وبالإيمان وليس بالعجز والاسستسلام وبعض الدراسات تجد أن مفهوم إرادة المعني هو القوة الدافعة التي من خلالها يكون الفردالمعني والهدف من الاستمرار في الحياة ذلك أن غياب إرادة المعني كما يري فرانكل يؤدي إلي الشعور باللامعني والسأم والملل واللامبالاة واللاهدف وعدم الانتماء وكلها محددات لشعور الفرد بالفراغ الوجودي فليبحث كل منا داخله ماهي قدراته و ماذا يستطيع أن يفعل ويسلح نفسه بالإيمان وعندما نستطيع أن نقضي علي الاغتراب نستطيع أن نقهره ونعود إلي ذواتنا من جديد كان بإمكان حسين أن يكون مدرسا ناجحا ومؤثرا في جيل الأبناء أو أن يكون محاميا ناجحا له هدفه إذا كان يملك أدوات ذلك كما يقول ويربط مادي بين اغتراب الذات بما يسميه بالعصاب الوجودي حيث يري إن العصابي هو شخص منفصل عن التفاعل مع وجوده وعن التفاعل العميق مع الآخرين ولهذا السبب يقول مادي فإن العصابي الوجودي هو شخص مغترب عن نفسه وعن المجتمع وهذا التعريف يستمد خصائصه من الفكر الوجودي عامة ومن التحليل النفسي الوجودي خاصة والذي يري أن العصاب هو أسلوب في الوجود ينتج عن فشل الفرد في تحقيق مطالبه الوجودية في الحياة وعن الاضطراب في الاتصال بالواقع وعن هذا الفشل والاضطراب تنتج أشكال الوجود الفاشل التي تتمثل في الاغتراب عن الذات وعن الآخرين.
اللجوء إلي اللامعقول
فالاغتراب هو الشعور بالتفكك والعزلة وعدم الانتماء والعجز واللامعني واللامعيارية واللامعقول كما يقول ميرتون وميدلتون وسارتر وكامو وحسين كان منعزلا بعيدا عن كل شيء يلجأ إلي اللامعقول في حل مشكلاته لا ينتمي لزوجته أو مجتمعه الذي يعيش فييشعر بعدم الثقة في نفسه ويفضي ذلك إلي أشياء خارجة عن إرادته .. كما أن الاغتراب هو الشعور بالرفض للمجتمع أو الانسحاب منه أو التمرد بدون قضية كما يقول كينستون وسرول وميرتون ، هو نمط من الخبرة يري فيها الإنسان نفسه كما لو كانت غريبه ومنفصلة عنه أو هو الشعور بالشك أو عدم الثقة بوصفه متغيرا أوليا في زملة أعراض الاغتراب وهو الشعور بعدم تعين الهوية وما يتمخض عن ذلك من أعراض وتبعث بعض النظريات عن الاغتراب نظرة تفاؤل بصحة الفرد النفسية من منطلق أن الإنسان كائن نمائي وكل مرحلة نمو لها جوانبها الإيجابية والسلبية وأن الفشل في مرحلة يمكن تصحيحه في مرحلة لاحقة وأن الاغتراب يمكن محوه وتحقيق تواصل الفرد مع نفسه والآخرين، وامتدادا لما قالت به هورني من أن الاغتراب مفهوم نفسي يكمن في الاغتراب عن الذات فإن تافز يري أن الاغتراب عن الذات يرجع إلي الكبت وإحساس الفرد بعدم القدرة علي التحكم في سلوكه وفي استجاباته بما يحول بينه وبين أن يكون فردا مؤثرا في الآخرين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.