وذاك رجلٌ اختُلِفَ فيه أشد الاختلاف ؛ وتجادل القوم حوله جدالاً طويلاً ؛فرُمِيَّ بكل نقيصة واستبيحت سيرته، وفسرت أقواله حسب الهوى، ونسب إليه ما لم يقله؛فنُعِت بالكافر الزنديق ، وصار علمًا على المروق ، حتى قال فيه أبو الفرج بن الجوزي "زَنَادقَةُ الإِسْلاَمِ ثَلاَثَةٌ : ابْنُ الرَّاوَنْدِي ، وَأَبُو حَيَّانَ التَّوْحِيْدِيُّ ، وَأَبُو العَلاَءِ المَعَرِيُّ ، وَأَشدُّهُم عَلَى الإِسْلاَم أَبُو حَيَّانَ ، لأَنَّهُمَا صَرَّحَا ، وَهُوَ مَجْمَجَ وَلَمْ يُصرِّح". هوأبو العلاء المعري أحمد بن عبدالله بن سليمان المولود في معرّة النعمان بسورية عام363ه، وقد عَمِيَ من الجدري في عامه الرابع ورحل إلى بغداد سنة 398 ه ، وأقام بها سنة وسبعة أشهر ثم رجع إلى بلده معرّة النعمان ولزم منزله في عزلة لا يبرح بيته ولا يأكل اللحم ولم يتزوج أيضًا وكان يصوم كل أيام السنة ما عدا عيد الفطر وعيد الأضحى وكان يلبس خشن الثياب وعاش زاهدًا حتى وفاته بمعرة النعمان سنة 449 ه. "أيها الغرّ إنْ خُصِصْتَ بعقلٍ فاتّبعْهُ ، فكلّ عقلٍ نبي " ربما كانت هذه المقولة المنسوبة إلى أبي العلاء هي المدخل إلى عالمه الفكري الذي ماج بالشك، ورفض التسليم بكثير من المطلقات " حيث نرى رؤيته الشكِّية في كل ما يجرى من حوله ، فلا جوامد ثابتة أو غير قابلة للتحليل والنقد ، وربما كان العمى عند أبى العلاء عاملاً نحو رؤية الأشياء مجردةً ، وهذا ما نراه في اشتقاقاته اللغوية التي نراها في مؤلفاته ، حيث تجري على الأقيسة اللغوية حتى لو لم تكن مستعملة في عصره ، فاللغة ليست مقدسة عند أبى العلاء بل هي قابلة للتأليف والنسخ والحذف والإضافة ". لقد تحرر أبو العلاء من كل قيد يكبِّل العقل ، أو يحصر فاعليته في الأُطر الضيقة ؛ رافضًا الامتثال لمقولات القدماء التي رآها تحمل من الزيف والتدليس ، أكثر مما تحمل من الحجج والبراهين المقنعة ، وهو مع ذلك لا يجهل على مقام الباري جل شأنه ولا يماري في حكمته ؛ ولكنه يتعذَّب بقصور إدراكه عن الوصول إلى مرامي هذه الحكمة ، وفي هذا يقول الدكتور طه حسين إنَّ " أبا العلاء قد هداه عقله إلى أنَّ لهذا العالم خالقًا، وإلى أنَّ هذا الخالق حكيم. لا يشك في ذلك، أو على الأقل لا يظهر فيه شكاً، وهو إذا تحدّث عن هذا الخالق الحكيم تحدّث عنه في لهجة صادق يظهر فيها الإخلاص واضحًا جليًا. ولكنَّه عاجز عن فهم هذه الحكمة التي يمتاز بها هذا الخالق الحكيم. وعجزه عن فهم هذه الحكمة هو الذي يضنيه ويعنِّيه ويعذبه في نفسه أشد العذاب. خالق حكيم، خلق هذا العالم ورتبه على هذا النحو الذي رتبه عليه. ولكن لماذا، وما بال هذا الخالق الحكيم الذي منحنا هذا العقل وهدانا إلى التفكير لم يكشف لنا القناع كله أو بعضه عن وجه هذه الحكمة التي لا نشك فيها ولا نرتاب؟". و يصرح المعري في "رسالة الفصول والغايات" بتأرجحه بين القبول والرفض للحياة فيقول : " نفس تأمرني بذلك ، ونفس تنهاني "وربما كان يعني التخلص من الحياة؛ ولذا فهو يصرِّح في رسالة الغفران:"قد كدت ألحق برهط العدم ؛ من غير الأسف ولا الندم، ولكنما أرهب قدومي على الجبار" . فذاك رجل في شكه تصديق، وفي تساؤلاته بحث دءوب عن الحقيقة واليقين، وهو يرى أنَّ إعمال العقل فريضة، لا يعدل إثم تركها إثم ، فالعقل لديه نبي واجب الاتباع فيقول في " لزومياته" : يرتجي الناسُ أن يقومَ إمامٌ ناطقٌ في الكتيبة الخرساءكذبَ الظنُّ لا إمام سوى العقل مشيرًا في صبحه والمساء. وهو لا يرى هذه المذاهب التي تفرق عليها الناس إلا" أسباب لجذب الدنيا إلى الرؤساء" و لقد كان شكه في كل ما حوله، هو سبيله لإدراك حقيقة هذا الصراع الأبدي مع نفسه ومحيطه والسلطة القائمة على الأباطيل ، والتي تحكم بتصدير اليقين الزائف للناس عبر وسطائها من الكهنة رجال الدين ولكنَّ إحساسه بهذه القوة الداخلية ظل يطارده حتى ارتقى بفكره إلى منزلة اليقين ، وكان قد سعى إلى الإصلاح ابتداءً، ولكنه عندما أدرك استحالة ذلك سعى إلى تحطيم كل هذا الأوثان الحاكمة للعقول ما استطاع إلى ذلك سبيلاً. ويروي ياقوت الحموي أنَّ القاضي أبا الفتح قال:"دخلت على الشيخ أبي العلاء التنوخي بالمعرة، وكنت أتردّد إليه وأقرأ عليه في بعض خلواته- بغير علم منه- فسمعته وهو ينشد من قوله:كم غودرت غادة كعاب وعمّرت أمّها العجوز، أحرزها الوالدان خوفًا والقبر حرز لها حريز، يجوز أن تبطىء المنايا والخلد في الدهر لا يجوز، ثم تأوه ثلاث مرات وتلا قوله تعالى:" إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ (103) وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ مَّعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105)هود، ثم صاح وبكى بكاءً شديدًا، وطرح وجهه على الأرض زمانًا، ثم رفع رأسه ومسح وجهه وقال: سبحان من تكلّم بهذا الكلام في القِدم، سبحان من هذا كلامه، وسكت وسكن، فصبرت عليه ساعة ثم سلّمت عليه فردّ عليّ السلام، فقال لي: يا أبا الفتح متى أتيت؟ فقلت: الساعة، فأمرني بالجلوس فجلست وقلت: يا سيدي أرى في وجهك أثر غيظ، فقال: لا يا أبا الفتح، بل أنشدت شيئًا من كلام المخلوق، وتلوت شيئًا من كلام الخالق فلحقني ما ترى. فتحققت صحّة دينه وقوة يقينه". ولربما قصر السبيل عن تبين حقيقة أبي العلاء كونه كان مؤمنًا عميق الإيمان، أو غير ذلك ، فليس هذا كله مما يهم ؛ لكن تبصُّر منهجه في تنحية المسلمات ، وإفساح المجال للعقل؛ لإدراك المقاصد والغايات، وتلمس السبيل إلى فهم المدلولات ، ودفع كل يقين مكتنف بالزيف والادعاء … هو ما نحن في أمس الحاجة إليه ، وإن كان الوصول إليه الآن بعيد المنال.