إن أصعب الموضوعات التى يمكن تناولها هى: الموضوعات التى تحمل بالفعل وجهتي نظر غاية فى الإختلاف والتناقض، ولكل وجهة نظر جبهة تدافع عنها وتملك أطنانا من الوثائق والمذكرات والراويات والصور التى تثبت صحتها، وتدخر مزاعم الطرف الأخر، وخاصة أنأحداثها التاريخية كانت فى فترة زمنية عصيبة؛ مليئة بالقتل والتدمير، وفى منطقة ساد فيها القتل والفوضى، فإن محاولة تقصى الحقيقة أمر بالفعل غاية فى الصعوبةوالتعقيد، ولكن لا يفك طلاسم مثل هذا اللغر إلا قراءة تواريخ الأحداث بشيء من التروى،وربطها بما يحدث فى العالم وفى المنطقة التى وقعت بها تلك الأحداث، لتظهر مطمئنةصورة قد تكون هى الأقرب الى الصحة والوضوح والمنطق السليم. يطلق على هذه الأحداث "الجريمة العظمى, الإبادة الجماعية, التطهير العرقى, مذبحةالأرمن، عملية التهجير, قانون النقل والإسكان".. وهو ما يصف ما قامت به الدولة العثمانية تجاه رعاياها الأرمن فى 24 أبريل لعام1915م من أحداث دموية أدت لمقتل أعداد كبيرة منهم فى سبيل نقلهم من قراهم فى الأناضول وغيرها من مناطق تركيا، لمناطق إستيطانية جديدة فى سوريا، وهذه هى الرواية الرسمية للحكومة التركية حتى اليوم، بعكس ما وقر فى الضمير الجمعى للأرمن:أن ما حدث هو محاولة للتطهير العرقى، والإبادة الجماعية للأرمن من قِبل دولة تركيا القومية المسلمة، ويمكن التدليل على ذلك من قول طلعت باشا وزير داخلية تركيا، المشرف على تلك العملية إنذاك، إذ صرح قائلا: "سوف يتم إفناء وإبادة جميع الأرمن القاطنين في تركيا، ودون الأخذ بعينالإعتبار وجود النساء والأطفال والعاجزين، وسوف يتم وضع حد نهائيلوجودهم، ولا يهم مدى فظاعة الوسائل التي ستستخدم لهذه الغاية، ولا يجوز أبدًا أن تتحرك مشاعر الشفقة لدينا تجاههم" فى مشهد يدل على تحول فكرى وأيدلوجى كبير لدولة ضمت تحت لوائها الأرمن لسبعة قرون متتالية؛ لينخرطوا فى الحياة الإقتصادية والإجتماعية والسياسية، حتى أصبح منهم وزراء ومستشارين، ولم يثبت أن تلك الدولة قد حاولت أن تغير هويتهم الدينية أو الثقافية أو المعيشية بل إنهم تركوا بصماتٍ واضحة: خصوصًا فى الطابع المعمارى،كانوا فى المجمل أقرب الطوائف للأتراك، حتى سموهم "الملة الصادقة" فى إشارة للثقةالمتبادلة، والتعاون المشترك. ألا إن الدولة العثمانية القوية، التى ضمت الأرمن وغيرهم من الملل والطوائف،كالأشوريين واليونانيين واليهود، لم تعد موجودة، وبدأت تدريجيًا فى الضعف والتحلل،مما أدى إلى خسارة أراضيها الواسعة بهزائم عسكرية متتالية ومهينة فى القرن التاسععشر، وفى نفس الوقت زادت النزعات القومية والتحررية بداخل النسيج العثمانى الغيرمتجانس، فى حالة إضطراب وتفكك غير مسبوق؛ فأضطر السلطان عبد الحميد الثانى-الذى كان آخر العثمانيين الذين جمعوا بين السلطنة وخلافة المسلمين- لتشكيل ما سمى بالكتائب الحميدية- وهو جيش غير نظامى من رجال القبائل، وخصوصًا الأكراد- لفرضالأمن، وإعادة هيبة الدولة، وذلك عام 1894م؛ فقد قاموا بمهاجمة القرى، وترويعالأمنيين، وارتكاب العديد من الجرائم، مما كان حجر الزاوية للعداء الصريح بين الدولة العثمانية والأقليات، ولاسيما الأرمن، وأدت كل تلك الهزائم العسكرية الخارجية،والاضطرابات الداخلية؛ لنشوء حزب سياسى قوى يضم تحت لوائه كل معارضى الدولة؛وهو حزب الإتحاد والترقى، الذى نجح فى تحويل تركيا لنظام ملكى برلمانى، حيث كان للسلطان سلطات محدودة، لجانب سلطة البرلمان، المعروف بمجلس الامة، وبرغمالإختلافات العرقية والمذهبية والسياسية، والفكرية بين أطراف تحالف الإتحاد والترقى،إلا أنهم حافظوا على حزبهم، متغاضين عن وقوع العديد من الأحداث الدموية المتعصبة بين مسلمى ومسيحى تركيا، وبين الأرمن والأكراد وغيرهم، وذلك حتى برلمان 1912م،حيث مثل الأرمن فى البرلمان 14 عضوًا فى سابقة تاريخية نادرة الحدوث.. وفى نفس الوقت تقريبًا كانت الدولة العثمانية مازالت فى حالة خسارة لأراضيها، حيث خسرت معركة طرابلس 1911م، ومعها كل أراضيها بإفريقيا، وخسرت حرب البلقان1912م، ومعها جزء كبير من حدودها الأوربية، لتبدأ الحرب العالمية الأولى فى عام1914م، ومن المعروف أن من أهم أسبابها الإجهاز على الدولة العثمانية، وتقسيمأراضيها، وبدء كل من روسيا وإنجلترا فى التنافس لتحقيق هذا الغرض، وبالرغم منإعلان ممثلى الأرمن فى البرلمان الحياد فى الحرب، وعدم مساعدة أياً من أعداء تركيا،إلا أن الكنيسة فى يرفن، قد وقعت معاهدة مع روسيا لحمايتها فى نوفمبر 1914م؛ونتيجة لهذا نظم بعض الأرمن مجموعات مسلحة لمعاونة الجيش الروسى فى إجتياحالأراضى الخاضعة للسيطرة التركية، بل لقد انخرط بعضهم فى الجيش الروسى،وبالرغم من قلة تلك الأعداد، إلا أن الدولة العثمانية قررت عقاب كل الأرمن على هذا الفعل التى إعتبرته خيانة، فقامت بإصدار قانون سمى قانون الإسكان والتهجير: يقضىبترحيل الأرمن من جبهة القتال إلى الأراضى السورية، وذلك فى أبريل 1915م، وفىأثناء هذا التهجير قتل وفقد وعذب مئات الآلاف من الأرمن، صودرت ممتلكاتهم ليس فقط من جبهة القتال، ولكن من كل أرجاء تركيا الى جانب أن الذين وصلوا فى النهايةلدير الزور داخل الأراضى السورية، لم يجدوا إلا الصحراء المحرقة والأراضى القاحلة ليحطوا رحالهم عليها، وبالطبع انطلق الأرمن كسفراء لقضيتهم فى كل دول العالم، إلا أن لعنة تلك الأحداث قد أصابت كل مسئولى تلك المرحلة، فقد خسرت تركيا الحرب،وأصبحت كوادر حزب الإتحاد والترقى بين منفى ومقتول وهارب، وأُعدم طلعت باشا وزيرالداخلية رميا بالرصاص كمجرم حرب، وخُلِع السلطان عبد الحميد الثانى، ووُضِع بالإقامة الجبرية حتى مماته، و بالرغم من مرور ما يقرب عن مائة عام على هذه الأحداث،إلا أن شبح المأساة مازال يصرخ فى الآذان، وكلما غاب قليلًا وجد من يستدعيه.