فيتنام تلك البلاد الأسيوية الصغيرة، التى يقطنها شعب ضيق العينين قوى العزيمة لم ينعم بحريته واستقلاله على مدار التاريخ إلا قليلاً، فمنذ قدم الدهر وفيتنام جزء من الامبراطورية الصينية القديمة، التى تسيطر عليها وتقع تحت لوائها بدءً من عام 111 ق.م، ولم يتغير هذا الوضع على مدار التاريخ إلا بدخول المستعمر الأوربى للمنطقة، فقد نجحت فرنسا فى ضمها عام 1858م، وفرضت على سكانها الديانة المسيحية، وأصبحت جزءا من مستعمرة فرنسية تسمى الهند الصينية الفرنسية، وبعد سقوط فرنسا فى يد الألمان خلال الحرب العالمية الثانية، أسرعت اليابان فى ضمها تحت لوائها ولعل الأمر الذى يثير السخرية فى أنه بعد هزيمة دول المحور واستسلام اليابان فى الحرب، لم تستطع فرنسا -التى كانت قد أُنهكت تماماً تحت وطأة المحتل النازى- أن تسترد مستعمرتها، أو تسيطر عليها، فلجأت لعدو الأمس القريب متمثلا فى اليابان؛ لتساعدها فى السيطرة على المستعمرة فى مشهد يبدو باعثا للتأمل فى الدوافع الحقيقة وراء تلك الحروب العنيفة التى اندلعت منذ سنوات قليلة فى شتى أرجاء العالم، والتى رفعت شعارات تدعو للديمقراطية وحرية الشعوب والقضاء على الفاشية وغيرها.. والحقيقة أن فرنسا كانت فى جميع الأحوال، غير قادرة بنفسها على ضبط مستعمراتها وفى حاجة لوقت طويل لإعادة البناء والإعمار، وكانت الولاياتالمتحدةالأمريكية فى نفس الوقت تتطلع بقلق وريبة لنمو الشيوعية والاتحاد السوفيتى، وكان على أمريكا أن تدعم حليفها الفرنسى فى فيتنام بشكل مستتر فى البداية، عن طريق تمويل الجيش الفرنسى، الذى خسر حربه فى فيتنام، وهنا لجأ الغرب المستعمر لخطة ماكرة تدعو لتقسيم فيتنام لقسمين: قسم شمالى حر، ولكن تحكمه حكومة ضعيفة تدين بالولاء للمستعمر فى شكل ديمقراطى زائف، وجزء جنوبى يخضع لسيطرة المحتل بشكل مباشر، وبينهم منطقة منزوعة السلاح، على أن تجرى انتخابات ديمقراطية بعد فترة إنتقالية مدتها عامين لانتخاب رئيس تخضع له فيتنام بشمالها وجنوبها، وهذه الانتخابات لم تحدث أبدا! حيث كان شعار أمريكاوفرنسا فى العلن هو: السعى وراء الديمقراطية وحق الشعب الفيتنامى فى تقرير مصيره، وفى الخفاء عملت المخابرات المركزية على خلق حالة من الفتنة؛ عن طريق الاغتيالات والتفجيرات لعرقلة تلك الانتخابات فيما عرف بنظرية نيكسون، ولكن تلك الخطة لم تؤت بثمارها فى فيتنام، فوجدت أمريكا نفسها مضطرة لدخول الحرب؛ لإيقاف المد الشيوعى فى الشمال وبالفعل أرسلت البحرية الأمريكية تقرير بحدوث هجوم "غير مبرر" على سفنها فى خليج تونكن.. ثم تصاعد التوتر بإدعاء حدوث هجوم أخر، يليه بعدة ساعات، ولم يستطع أبدًا أى من قادة وإعلامى النظام الأميركى إثبات حدوثه، فسارع سلاح الجو الأمريكى بضرب فيتنام الشمالية بشكل عنيف ومتصاعد؛ لتقذف الكنائس والمستشفيات والمدارس والقرى والمزارع، والقليل من الأهداف العسكرية التى لا تكاد تذكر فى مواجهة آلة الحرب الأمريكية؛ حتى أن إجمالى المتفجرات والقنابل التى ألقيت خلال الحرب، يتعدى 8 مليون طن من القنابل التقليدية، والنابالم الحارق، والقنابل العنقودية، ورشت مواد كيماوية سامة بالأطنان على حقول الأرز والغابات لتدميرها بالكامل وحرمان الشعب الفيتنامى من مصادر الغذاء. وكانت تصريحات المسؤولين الأمريكيين خلال الحرب كلها فى منتهى العنف الديمقراطى المسلح؛ فيخرج ميكانمارا الذى أُطلق عليه مهندس حرب فيتنام ليقول: "لو فشلت تلك الأمة الصغيرة فى تحقيق الحرية الديمقراطية لنفسها، فهل ستنجح باقى الأمم الصغيرة فى ذلك؟!" ويخرج مسؤول آخر ليقول: " يجب تدمير كل شبكات الرى لحرمان المقاتلين من كل مصادر الغذاء، كما أنه يجب ألا يبقى هناك طريقين ممهدين ومتصلين ببعض، ويجب دفع ثمن الانتصار فى هذه الحرب، ولو كان بقتل كل رجل عامل فى فيتنام" لتجد أمريكا نفسها فى النهاية متورطة فى حرب مباشرة لمدة 19 عامًا فقدت فيها 58 ألف قتيل أمريكى، ويمكننا أن نذكر العدد بدقة متناهية لأن أسماءهم محفورة على نصب تذكارى فى العاصمة واشنطن، بينما لا نستطيع أن نحسم عدد القتلى الفيتناميين، الذى ربما يتعدى الخمسة ملايين قتيل، منهم مليون مقاتل والباقى من المدنيين، ومرتكبة العديد من جرائم الحرب التى اثبتت دوليًا، ولعل القضية الشهيرة التى عُرفت بمجزرة " ماى لاى" والتى سربها أحد الجنود لوسائل الإعلام العالمية، ليفضح ما قام به زملاؤه من انتهاكات أودت بحياة سكان قرية فيتنامية كاملة من النساء والعجائز والأطفال؛ حيث قاموا بجمعهم فى ساحة القرية وقتلهم جميعا ثم أضرموا فيهم النيران وفى منازلهم، وبالفعل اضطر النظام الأمريكى لمحاكمة قائد تلك العملية، وحكم عليه بالسجن مدى الحياة، ولكن المفارقة الديمقراطية العجيبة أدت لأن يفرج عنه الرئيس نيكسون بعفو خاص بعد مرور خمس سنوات! وهناك العديد من الراويات والوثائق التى كشفها الجنود الأمريكيين عن جمع آذان الموتى لمبادلاتها بزجاجات البيرة المثلجة كمكافأة، واغتصاب النساء، وقصف المنازل والأكواخ بالمدفعية كنوع من المراهنات، وتبقى دائما صورة الفتاة الصغيرة العارية "كيم فوك" التى تجرى هربًا من القصف على قريتها بالنابالم الذى أحرق جسدها، واعتبرت تلك الصورة من أهم عشر صور أثرت فى البشرية، وفاز عنها المصور "نيك اوت" بجائزة Pullitzer لتمثل مع غيرها من الوقائع والأحداث والصور ضغط عالمى ومحلى عنيف على الإدارة الأمريكية، التى وجدت نفسها متورطة لسنوات طويلة فى معركة لا تستطيع أن تفوز بها فاضطرت فى النهاية إلى الانسحاب تاركة الشعب الفيتنامى ليختار طريقه بمفرده بعيدًا عن ديمقراطيتهم الزائفة.