* أحداث التحرير أكدت للمجلس أن هناك قوي مصرية حليقة اللحية تستطيع التأثير والحشد * وثيقة السلمي محاولة لطمأنة أصدقاء الخارج الخائفين من حلفاء الداخل * صناعة الفتنة هي الحل الأخير .. والثوار هم الطرف المستبعد دائما من المعادلة لماذا فشل المجلس العسكري منذ اللحظة الأولي في التواصل مع شباب الثورة رغم أنهم الصناع الحقيقيون لها ؟ سؤال ظل يتردد في ذهني منذ أن بدأ التوتر يسيطر علي العلاقة بين المجلس والثوار .. هل بسبب الفارق الكبير في العمر بين أعضاء المجلس الذين تجاوز أصغرهم الستين والشباب الذين لم يتجاوز أكبرهم الثلاثين من عمره ؟ أم لأن المجلس نفسه يعاني من وجود اتجاهات مختلفة داخله .. بعضها يتفاعل مع الثورة والبعض الآخر يميل الي المحافظة والجمود؟ كنت أتوقع – مثل غيري – أن يسعي المجلس العسكري منذ اللحظة الأولي وهو الذي أخذ علي عاتقه تحقيق أهداف الثورة أن يقٌرب هؤلاء الشباب ويجعل منهم مستشارين له أو علي الأقل يحرص علي التشاور معهم في أمور البلاد وليس في ذلك ما يهينه أو يقلل من قدره لأن أعضائه كانوا أول من يشيدون بشباب مصر الذين انبهر العالم بما فعلوه في ثمانية عشر يوما كانت هي الأهم في تاريخ مصر الحديث .. من جانبهم أدرك الشباب أن هناك فجوة لا يريدون لها أن تتسع بينهم وبين من تولوا إدارة شئون البلاد .. وفي الوقت الذي صدقنا فيه أن هناك خلية نحل في أروقة المجلس تعمل علي نقل مصر الي عصر الحرية والرخاء الذي تحلم به .. كان المجلس العسكري في وادٍ آخر .. لم ينشغل ساعتها بما كنا نظن أنه شغله الشاغل .. لكنه كان يبحث عن حليف .. ضد من ؟ لا أدري .. هل ضد الشعب الذي قام بالثورة والتي يفخر الجيش بأنه من حماها .. أم ضد حالة الفوضي الأمنية التي خربت البلاد وجعلت المواطن المسكين لا يأمن علي ماله أو بيته أو أسرته ؟ للأسف لا .. كان المجلس يبحث عن حليف يساعده في الحكم .. وثمة فارق كبير بين من يسعي الي السيطرة علي الحكم ومن يدير مرحلة انتقالية يعرف أنه سيرحل بعدها مشكورا الي ثكناته .. كان الحليف جاهزا يمد يد العون مقدما صحيفة أحواله التي تشهد بأنه الأقوي والأكثر تنظيما .. تيار الإسلام السياسي صاحب الشعبية العريضة ومن يملك – وهذا هو الأهم – صكوك المغفرة وهتافات الدعوة الي نصرة الله وشريعته .. كان تشكيل اللجنة المكلفة بوضع التعديلات الدستورية يوحي بأن حالة من الغزل – كنا نظنه عفيفا - بين الحكام الجدد وجماعات الإسلام السياسي التي بدا حضورها بارزا عبر رئيس اللجنة الأستاذ طارق البشري المحسوب علي هذا التيار والمحامي صبحي صالح القيادي في جماعة الإخوان المسلمين الذي انتهي من وضع التعديلات ثم خرج ليشبع المختلفين معه سبا واتهاما وتكفيرا .. واستمر شهر العسل الذي كان من أبرز معالمه (يوم الصباحية ) وأعني به الاستفتاء علي التعديلات الدستورية في شهر مارس .. حيث أتم الله علي الحليفين نصره المبين في غزوة الصناديق التي تم حشد المصريين فيها لنصره شرع الله والإبقاء علي المادة الثانية التي لم تكن مطروحة أصلا للاستفتاء !! وتصاعدت الأحداث .. اصبح التيار الإسلامي كله الي جانب المجلس العسكري الي درجة وصف السلفيين للمشير طنطاوي في جمعتهم الشهيرة بأنه أمير المؤمنين .. ولأن التيار السلفي حديث عهد بالسياسة فقد كشف كل أوراقه وأعلن عنه نيته في تغيير هوية الدولة وتحويلها من دولة مدنية تقوم علي حق المواطنة الي دولة دينية لابد أنها سوف تزعج الغرب الذي يري في مصر دولة اقليمية كبري لا يمكن المغامرة بها .. ومن هنا بدأت – فيما اعتقد – مشاورات حول مستقبل مصر بين حكامها الجدد وأطراف غربية يقلقها ما تراه من تصاعد حدة الأحداث الطائفية .. ومن تصريحات تبشر بقرب قيام دولة دينية علي ضفاف النيل .. اكتشف الحكم العسكري إذن أن حليفه الأقوي داخليا يزعج حليفه الأقوي خارجيا .. من هنا بدأت محاولات تدارك الأمر .. ورغم أن المجلس كان يدافع باستماتة طوال الشهور الماضية عن المسار الذي حدده الإعلان الدستوري للمرحلة الانتقالية .. ورغم رفضه التام لدعوات الليبراليين الي وضع الدستور أولا وإصراره علي أن يتولي البرلمان القادم هذه المهمة إلا أنه عاد محاولا تدارك الأمر فكلف الدكتور علي السلمي نائب رئيس الوزراء بوضع وثيقة المباديء الدستورية التي تضم معايير تشكيل لجنة المائة التي ستكلف بوضع الدستور الجديد .. وتضمن وضعا مميزا للمؤسسة العسكرية يحولها الي دولة داخل الدولة .. وكانت هذه الخطوة بمثابة ضربة لحليفه الداخلي الذي ساعده في تحجيم دور الليبراليين مقابل وضع يسمح له بالانفراد بوضع الدستور طبقا لما هو متوقع من حصوله علي الأغلبية البرلمانية .. ثار الإسلاميون وأعلنوا رفضهم للوثيقة وصعدوا من حدة تصريحاتهم الي درجة أن الشيخ حازم أبو اسماعيل أعلن في مليونية الجمعة 18 من نوفمبر أن التاسع من شهر ديسمبر المقبل قد يأتي دون أن يكون المجلس العسكري موجودا !!! وقال الشيخ صفوت حجازي أن من في الميدان سوف ينتخبون رئيسا للجمهورية من بينهم .. وكانت تلك الجمعة اشارة واضحة الي انتهاء شهر العسل بين الحليفين .. ورغم حدة من دعوا الي مليونية الجمعة الأخيرة وإعلانهم نيتهم في الاعتصام إلا أنهم انسحبوا وتركوا عددا من مصابي الثورة وأسر الشهداء ليعتصموا وحدهم في الميدان .. ولأن حكامنا الجدد قد اطمئنوا الي أن الإسلاميين قد تركوا الميدان فقد قرروا سحل من تبقي من الغلابة الذين يطلبون قرارات العلاج أو تعويضا يعينهم علي مشقات الحياة .. كانت الحكومة والمجلس في حالة اطمئنان كامل بعد أن أعلن الدكتور علي السلمي أن المشاروات حول وثيقته مستمرة ونشر صورة معدلة منها خلت من مصطلح الدولة المدنية الذي يصيب تيار الإسلام السياسي بالحساسية الشديدة .. ما الذي يخيفنا اذن ؟ التيار الأكثر عددا والصديق الأكثر قوة عاد للتفاوض معنا ويمكن أن نصل الي صيغة وسط تحقق له طموحاته السياسية وترضي أصدقاء الخارج .. لا خوف اذن ممن يبيتون في برد الميدان .. بضعة جنود يستطيعون أن يفرقوهم من حيث أتوا .... وقد كان .. تم تفريقهم وضربهم وسحلهم بلا رحمة ... وفجأة .. اشتعلت مصر من جديد .. قامت الدنيا ولم تقعد .. امتلأ الميدان ولم يعد أمام العسكر سوي المواجهة .. فتحت مخازن الداخلية أبوابها وقذفت الي رجالها بصناديق من قنابل الغاز التي تم استيرادها حديثا .. بالإضافة الي ما يلزم من الرصاص المطاطي والخرطوش والحي أيضا .. والسؤال .. هل كان المجلس العسكري وحكومته يساورهما أدني شك في أن تعجز القوات عن مواجهة ما يجري في التحرير .. الإجابة بالقطع لا .. بل ربما أصدر أحد حكامنا الأمر بتفريق المتظاهرين واستغرق في نوم عميق ممنيا نفسه بأنه سوف يستيقظ ليجد كل شيء تمام سعادتك يافندم .. لماذا كل هذا الاطمئنان .. لأن الفصيل الأقوي – من وجهة نظرهم – قد صلي العشاء ونام .. نعم صلي كل من يصدعوننا بدفاعهم عن شرع الله صلاة العشاء وناموا نوما هنيئا يحلمون فيه بجنة الخلد التي اتمني ألا تراها عيونهم قبل أن يحاسبهم الله علي تفريطهم في دماء المصريين .. نام الجميع واستيقظت مصر .. حكامنا تأكدوا من أن الميدان لا يضم بين جنباته أصحاب اللحي .. وهؤلاء اقنعوا أنفسهم بأن رسالتهم وصلت والدليل الأكبر علي ذلك أن علي السلمي عدو الله قد عدل عن وثيقته وأعادها لمرحلة التشاور .. وبينما كلهم نائمون استيقظت مصر وانتفضت .. عادت مصر الي الميدان حليقة اللحية .. راهن النائمون علي أن المليونية التي دعا اليها الثوار لن تجذب أحدا لكنهم خسروا رهانهم وتلألأ الميدان بشباب وبنات مازالوا علي عهدهم مع ثورتهم .. المعادلة اذن مختلة .. نعم هناك قوة أخري في مصر .. هناك ثوار يستطيعون أن يحموا ميدانهم ويحملوا جثامين شهدائهم دون أن تمن عليهم أي جماعة انتهازية بأنها حمتهم يوم اشتد القتال في موقعة الجمل .. قتلي بالعشرات .. مصابون بالمئات .. غاز من أحدث موديلات مصانع القمع .. رصاص مطاطي وضباط تدربوا جيدا علي فقأ عيون الثوار وكلما اصطادوا عينا ثائرة طاهرة ساهرة علي حماية الثورة صفق جنودهم وهم يرددون ” جدع يا باشا ” .. كل ذلك لم يفت في عضد الثوار .. اكتشف حكامنا الجدد أن حساباتهم تعوزها الدقة والخبرة بهذا الشعب الذي يتغنون بعظمته في بياناتهم علي الفيس بوك .. الشعب الذي قرر دون سابق تنظيم ولا دراسة أن يخترع في دقائق لجانا شعبية تحميه من انفلات حبيب العادلي ها هو ينصح بعضه بعضا علي مواقع التواصل الاجتماعي بألا يتخلص من أدوات المطبخ القديمة .. لماذا .. لأن شابا عبقريا شرب من ماء النيل ولم يتلوث عقله بفيروسات حسني مبارك ورجاله ابتكر حلا لمواجهة الرصاص المطاطي .. نظارة مصنوعة من (كبشة المطبخ) يستطيع أن يري من خلالها وتحمي عينيه الطاهرتين من غدر ضباط الداخلية الذين يستهدفونها .. نعم هو شعب عظيم بغض النظر عن البيانات العسكرية التي تصفه بالعظمة ولا تتورع عن قتله بالغاز أو دهسه بالمدرعات .. اكتشف السادة أعضاء المجلس العسكري اذن أن حلفاء الداخل لا يملكون وحدهم مفاتيح الشارع .. وأن أصحاب اللحي لم يقدموا بعد مستندات امتلاكهم لميادين التحرير في مصر .. وكان الأفضل في هذه الحالة أن يعيد المجلس حساباته وأن يتخلي عن تحالفاته ويقف بالفعل علي مسافة واحدة من كل التيارات .. كان هذا هو الحل الأكثر توفيقا .. لكن لأن طريقة التفكير واحدة والمنهج المباركي هو المسيطر .. دعا المجلس العسكري الي اجتماع هام وعاجل لبحث الأزمة – أو هكذا أسماها – واختار لحضور هذا الاجتماع ممثلين عن القوي السياسية التي لم يشارك أغلبها في الثورة الجديدة التي يطلق عليها المجلس (الأزمة) .. رغم أن الأولي بالتحاور هم من في الميدان إلا إذا كان المجلس يعتبرهم (شوية عيال) فيستدعي أولياء أمورهم !! وعلي طريقة الرئيس المخلوع تم الإعلان عن بيان هام يلقيه المشير طنطاوي .. وبعد طول انتظار جاء البيان خاليا من أي شيء يمكن أن يسكب الماء علي النار .. لم يستوقفني في البيان الطويل العريض سوي شيء واحد هو ما أعلنه المشير عن استعداد مجلسه للتخلي عن السلطة اذا قرر الشعب ذلك عبر استفتاء شعبي .. سألت نفسي : هل يتحدث المشير جادا ؟ وهل يمكن أن يعلن بالفعل عن استفتاء علي وجوده أو رحيله في وقت نغرق فيه حتي آذاننا في أزمة الانتخابات البرلمانية التي لا نعرف كيف سنجريها ؟ .. وتوصلت الي إجابة تتسق مع طريقة ادارة المجلس العسكري لأزماته .. المجلس يعرف أنه لا يملك شرعية اجراء استفتاء علي وجوده لأنه مكلف بإدارة البلاد من الرئيس المخلوع .. ورغم أن مبارك لم يكن يملك في الأصل أي شرعية إلا أنه كان من المقبول – تجاوزا- أن يحتكم الي استفتاء شعبي علي وجوده .. وللأسف لا يملك المجلس العسكري شرعية مبارك المشكوك فيها لسبب بسيط .. أن الشعب لم يسند مهام ادارة البلاد اليه وانما من اختاره لهذه المهمة هو الرئيس الذي خلعته الثورة .. من هنا فقد حيد المجلس حلفاء الداخل من الإسلاميين الذين جلسوا في بيوتهم حقنا للدماء ! وقرر الاستعانة بصديق جديد .. والصديق هذه المرة هو الأغلبية الصامتة التي تجلس في بيوتها خائفة من انفلات أمني مصنوع واقتصاد ينهار بفعل فاعل .. نعم هي محاولة لقسمة الشعب المصري بين مؤيد ومعارض .. بين صفوة تري أن المجلس فشل في ادارة المرحلة الانتقالية وتلوثت ايديه بدماء المصريين وعليه أن يعود لمهمته الأساسية ويترك ادارة السياسة للمدنيين .. وأغلبية خائفة ومذعورة تتصور أن معني ذلك انسحاب المؤسسة الوحيدة الباقية علي قيد الحياة من ادارة البلاد .. الفريق الأول خائف علي وطنه وعلي حلمه باكتمال الثورة .. والفريق الثاني خائف علي وطنه من انهيار قد لا يحتمله .. إنه فن صناعة الفتنة ! أخيرا .. وبعد شهور من تحالفات داخلية عقدها المجلس مع أطراف داخلية .. ومباحثات لابد أنه أجراها مع أطراف اقليمية ودولية .. اسألوا انفسكم عن الطرف الوحيد الذي لم يفكر المجلس ولم يحاول أن يتحالف معه .. بل تعمد أن يغتاله مره بالرصاص علي اختلاف أنواعه .. ومرة بالشائعات وحرب التخوين واتهامات التمويل من الخارج .. هذا الطرف المستبعد تماما من حسابات المجلس العسكري هم الثوار .. نعم الثوار !!!