أشار الرئيس الأمريكي باراك أوباما في خطاب له الأسبوع الماضي بحفل تخريج دفعة جديدة بالأكاديمية العسكرية "ويست بوينت" إلى أن الإستراتيجية الحاكمة للعلاقة مع مصر ترتكز على: مصالح الأمن، مكافحة التطرف، معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، سلامة الملاحة في قناة السويس… وهو بذلك يؤكد على الاولويات الاستراتيجية للولايات المتحدة الحاكمة للعلاقة مع مصر، مع إضافة "مكافحة التطرف والإرهاب"، فيما جاء "الضغط من أجل الإصلاح السياسي وحقوق الإنسان" في نهاية أولويات هذه القائمة. تصريحات أوباما بشأن مصر في خطابه الاستراتيجي الذي يُقيم دور الولاياتالمتحدة في العالم عكس نية إدارته إلى العودة بالعلاقات المصرية الأمريكية إلى المربع الآمن، وعزم الإدارة الأمريكية على اتخاذ خطوات من شأنها إنهاء التوتر الذي شَاب العلاقات المصرية الأمريكية منذ 30 يونيو الماضي. السياسة الخارجية لإدارة أوباما..انتقاد وعلامات استفهام العديد من مراكز الأبحاث وصناعة القرار في الولاياتالمتحدة أكدوا على أن الإدارة الأمريكية لم يبقى أمامها سوى التعاطي بمرونة مع مستجدات الأوضاع في مصر، فذكرت دراسة أعدها باحثون في مركز"بيو" الأمريكي للأبحاث عن الانتخابات الرئاسية المصرية، أن الإدارة الأمريكية "ستتقبل الأمر الواقع، فالتغييرات التي سادت الشرق الأوسط خلال العام الماضي لم تمنح إدارة أوباما خيارات عديدة للتعامل مع الوضع الجديد في مصر، ستذهب الاعتراضات الأمريكية بمجرد انتهاء الانتخابات، ستعود العلاقات العسكرية للوجه الأمثل، وتحالف أعمق في مواجهة الإرهاب". الشهور الماضية أيضاً شهدت انتقادات واسعة من جانب دوائر سياسية لمنهج السياسات الخارجية لأوباما، وتحديداً بالنسبة للعلاقة مع مصر التى كانت حسب قول الكاتب الأمريكي المتخصص في قضايا الشرق الأوسط "بول ميرنجوف" حجر الأساس في سياسة إدارة أوباما الخارجية وقت تدشينها عام 2009، فأعتبر "ميرنجوف" أن "خطاب أوباما في جامعة القاهرة 2009 كان تأسيساً لتوجه الإدارة الأمريكية الجديد الذي هدف إلى مخاطبة التيارات الإسلامية المعتدلة، والذي سرعان ما تُرجم إلى تخلي كامل عن نظام مبارك في 2011 ودعم كامل لنظام الإخوان المسلمين". وتابع "ميرنجوف" في مقال له نشر قبل حوالي أسبوع في ملحق "باورلاين" الصادر عن مجلة "تايم" الأمريكية أن "إدارة أوباما لم تستغل العام الماضي بشكل كافي لتصحيح مسار علاقاتها الخارجية مع مصر، وأصرت على وصف ما حدث بالانقلاب العسكري، وهو ما ساهم في إثارة عموم المصريين بالكراهية ضد الولاياتالمتحدة، وهو ما أزعج أيضاً حلفاء الولاياتالمتحدة في دول الخليج". من جانبه يرى "مايكل سينج" المدير التنفيذي لمعهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى أن "توقف المساعدات العسكرية الأمريكية لمصر لم يجعل الولاياتالمتحدة صاحبة نفوذ على مصر، بالعكس فالضغوط على مصر من الممكن أن تؤدي إلى أن تلغي القاهرة المرور التفضيلي للبحرية الأمريكية عبر قناة السويس واللجوء إلى منافسين للولايات المتحدة في حالة قطع الأخيرة مساعدتها العسكرية، وهو ما يعرض المصالح الاستراتيجية التي كانت قائمة على التعاون للخطر، فدعامة الاستقرار الاقليمي الاساسية وهي اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية قد تهتز بسبب تعنت الولاياتالمتحدة، حيث من الممكن تراجع التعاون المصري الإسرائيلي، كذلك الأمر في حرية الملاحة وتأمين واردات الطاقة المارة من قناة السويس ومكافحة الإرهاب". أوباما يتطلع للعمل مع "الرئيس" السيسي! العوامل والمحاذير السابقة جعلت الإدارة الأمريكية تتراجع عن مواقفها المتشددة تجاه مصر خلال العام الماضي، وتمثلت ملامح هذا التراجع في ترحيب وقبول الإدارة الأمريكية بنتيجة الانتخابات الرئاسية، كذلك إعلان البيت الأبيض عزم الرئيس الأمريكي الاتصال بنظيره المصري خلال أيام…حيث ذكر بيان عن البيت الأبيض أن" الرئيس باراك أوباما يعتزم إجراء اتصال هاتفي بالرئيس المصري عبدالفتاح السيسي خلال الأيام القليلة القادمة، وأن الولاياتالمتحدة تتطلع إلى العمل مع السيسي لتعزيز الشراكة الاستراتيجية، والمصالح المشتركة بين أمريكا ومصر"… والاستنتاج الأولي من البيان انه خطوة هامة تمهد لإنهاء التوتر الذي يخيم على أجواء العلاقات بين الدولتين، كذلك مسألة حضور وفد من الكونجرس الأمريكي حفل أداء اليمين الدستورية للرئيس المنتخب عبد الفتاح السيسي تشير إلى أمكانية استئناف العلاقات العسكرية والاقتصادية التي توقفت بناء على قوانين اصدرها الكونجرس خلال الشهور الماضية. ضرورة استئناف الدعم العسكري "غير المشروطّ" دعى السيسي الولاياتالمتحدة بشكل مباشر في منتصف الشهر الماضي لاستئناف المساعدات العسكرية الأمريكية لمصر بدعوى أن الأخيرة تخوض حرباً ضد الإرهاب، وتحذيره للغرب من انتشار الإرهاب في الشرق الأوسط على يد الجماعات المتطرفة، ضاربا المثال بما يحدث في سوريا وليبيا وشبه جزيرة سيناء.. وبعد تصريحات السيسي بحوالي أسبوع، قال رئيس الأركان الأمريكي، الجنرال "مارتن ديمبسي" أن العلاقات العسكرية بين الولاياتالمتحدة ومصر تعتمد على تصرفات الأخيرة، مضيفاً في تصريحاته لوكالة رويترز "أعتقد أنه علينا المحافظة على العلاقة بين الجيش المصري والأمريكي، هذه العلاقة ستتأثر بالطبع (سلباً او إيجاباً) بأفعالهم وكذلك مدى التقدم في عملية الانتقال السياسي..لدينا الكثير من المصالح المشتركة وعلى هذه العلاقة أن تركز على قضايا تهم الجانبين وعلى رأسها مكافحة الإرهاب". عكست هذه التصريحات المتبادلة توفر النية لدى مصر و الولاياتالمتحدة في استئناف التعاون العسكري والأمني، فتصريحات صاحب أعلى منصب عسكري أمريكي سرعان ما ترجمت إلى موافقة الولاياتالمتحدة على صفقة طائرات هيلكوبتر من نوع أباتشي لمصر ستستخدم في مواجهة الجماعات المتطرفة في سيناء. وبالنسبة لاشتراطات الولاياتالمتحدة الواضحة في تصريحات أوباما أو ديمبسي لاستئناف المساعدات يرى"مايكل سينج" أن "ربط المساعدات العسكرية والاقتصادية المزمع استئنافها لمصر بمسألة الاصلاح الاقتصادي والسياسي لن تكون ذات جدوى، فالمساعدات الخليجية الغير مشروطة والغير مهتمة سوى بتهميش جماعة الإخوان المسلمين، ستفوت فرصة ربط المساعدات بأجندة اقتصادية وسياسية معينة". الدعم الخليجي والتخوف من علاقات عسكرية "استراتيجية" بين مصر وروسيا تبدل الموقف الأمريكي الأن أتى كنتيجة مباشرة لنجاح مصر بمساعدة الدول الخليجية في اجتياز المرحلة الماضية، فالدعم الاقتصادي -الموعود- من جانب السعودية والإمارات نجح في تفويت فرصة الضغط اقتصادياً على مصر من جانب الإدارة الأمريكية خلال العام الماضي، كذلك كان تعليق الصفقات العسكرية من جانب الولاياتالمتحدة غير ذي جدوى بسبب ما أثير عن تعاون عسكري (محدود) بين مصر وروسيا قد يكون في حالة تطوره إلى "تعاون إستراتيجي" ضربه قوية لمصالح الولاياتالمتحدة السياسية في المنطقة، فأولاً وأخيراً ليس لدى الإدارة الأمريكية بديل "جيوسياسي" يعوض ما تمثله مصر، على الناحية الأخرى لم يصل التوتر بين البلدين حد القطيعة، فالعلاقات تراجعت لكن ليس للحد الذي يجعل مصر ترفض يد الإدارة الأمريكية الممدودة الأن، فمصر تحتاج مباركة الولاياتالمتحدة للنظام الجديد و ما ينتج عنه من شرعية دولية، كذلك واستئناف التعاون والعلاقات خاصة في الملفات الطارئة كالإرهاب وتطورات الوضع في ليبيا، لكن على أساس الشراكة وليس التبعية. لا تهدئة إقليمية بدون مصر لا يستبعد أيضاً أن تراجع الولاياتالمتحدة عن مواقفها المتشددة تجاه مصر كان بسبب عوامل عديدة على رأسها التغييرات التي تشهدها المنطقة على المستوى السياسي، فتراجع دور قطر المدعومة من قِبل الولاياتالمتحدة ساهم في أن يكون لدى السعودية والأمارات دوراً أكبر على المستوى الإقليمي، فمن سوريا إلى ليبيا لا يغيب عن المتابعين الآثار الواضحة للدور الخليجي في مجريات الأمور، كذلك تدخل المنطقة في طور تهدئة إجباري بعد حوالي ثلاث سنوات من الغليان السياسي والاجتماعي، فإرادة التهدئة والتسوية الأن تتوافر لها ظروف موضوعية غير مسبوقة، فتحسن العلاقات الخليجية الإيرانية وانتهاء سيناريو الإطاحة بنظام الأسد، والمصالحة الفلسطينية وغيرها من الملفات التي لا يمكن إبعاد فاعلية الدور المصري "المعطل" -بسبب توتر العلاقات مع الولاياتالمتحدة- عنها، فدور مصر كركيزة جيوسياسية للولايات المتحدة لتحقيق مصالحها لا يمكن إغفاله في سيناريوهات التهدئة التي تسود المنطقة. خلاصة القول أن الولاياتالمتحدةالأمريكية تراجعت في موقفها تجاه ما حدث في مصر العام الماضي بسبب عدة اعتبارات أهمها: أهمية مصر الاستراتيجية في تحقيق المصالح الأمريكية في المنطقة، وضمان استمرار السلام مع "إسرائيل" وتوفر إرادة سياسية لكثير من دول المنطقة والعالم في مواجهة الإرهاب، كذلك تقف الرؤية الأمريكية للعلاقات مع مصر على مفترق طرق بين استمرارها كعلاقات ثنائية تقف عند المحددات السابقة، أو تطويرها لجعلها شراكة ثلاثية مع دول خليجية وربما إقليمية لتحقيق ما يشبه حِلّف لمواجهة تحديات عدة على رأسها الإرهاب.