داخليا: الثورة النفسية والديمقراطية شرطا النهضة خارجيا: العروبة هي الهوية.. و"الآسيوية والأفريقية والمتوسطية" دوائر علاقات مصر إيرانتركيا.. مثلث القوة الإقليمي المأمول تحالف "عربي أوسطي" لحصار الكيان الصهيوني منذ أن ارتهنت النخب العربية نفسها، وأدارت فكرها عن دوره التاريخي، خوفا من الموت فرادى، بفعل صقيع التجاهل؛ لتستدفئ بلهيب السلطة الوهاج، وتحترق به نهاية كأن لم تكن- منذ ذلك الحين الذي لا نعرف مقداره، اختلت البوصلة فانحرف على إثر الاختلال السبيل، وكان التيه لكن بين الفينة والأخرى يفلت أحدهم بفكره من تلك العادة الجاهلية "الوأد" التي استحالت إلى ثقافة، بعد أن يأبى الارتهان، ليلوك المرارة في حلقه معنى يستحيل إبداعا يهدينا الصراط المستقيم. وهو جمال حمدان أسمى هؤلاء مرتبة، وأعلاهم مكانة، لم يخرق الأرض بفكره، لكنه جاوز الجبال طولا، ولتدرك عظمة حمدان اقرأ أولا ل "هالفورد ماكيندر" و"فرانك دبنام" و"بول فيدال دو لابلاش" و"أندريه زيجفريد" و"دلي ستامب"، ولتثبِّت بعدها هذه القراءة على قاعدة خبرناها منذ الصغر، كونناعالة على بقية هذه الأسرة الأعجمية في كل المجالات، لكن في هذا العلم: الجغرافيا، وفي الاستراتيجية، كان لدينا حمدان، ذلك المفكر الذي أبدع إلى حد الاحتراق! من لم يقرأ حمدان لم يعرف الوطن، فوصله به ادعاء كاذب. الوطن ليس سوى قشعريرة تسري في وجدانك من كلمات نظمها حمدان بعقله وعاطفته معا.. سبر حمدان غور الشخصية المصرية، فككها حتى التفتت، ثم أرسل قلمه في تشخيص وعلاج أدوائها، فأوجز وأعجز، ومن الشخصية المصرية إلى شخصية مصر، مسافة قطعها متمهلا، واستقطر موهبته في سبك الخرائط، ليرسم خريطة لمصر كما ينبغي أن تكون، مصر الثورة، وهو موضوعنا الذي نستهدف بسطه أمام ناظري قرائنا. التغيير المطلوب داخليا كان أن بشر جمال حمدان بالثورة منذ ما يزيد عن ربع قرن، مشيرا إلى أن مصر ليس أمامها: "سوى إحدى اثنتين: إما أن تموت بالتسمم البطيء الذي سرى واستشرى من قبل في جسدها، وإما أن تعيش بفصد الدم الفاسد المسمم. إما أن تنحدر مصر بهدوء وبطء، بهوان وهوينى، إلى ما لا نهاية وإلى ما دون الحضيض، وإما أن تنفجر على نفسها داخليا وخارجيا في نوبة عظمى تجدد شبابها وتستعيد كرامتها وتحل أزمتها التاريخية.. أمام مصر، باختصار، خياران لا ثالث لهما: الانحدار التاريخي أو الثورة التاريخية. فإما أن تغير حياتها ونظامها وتثور على نفسها ثورة نفسية وعملية، وإلا فإن أمامها مئة سنة أخرى على الأقل من الانحدار التاريخي المتسارع تتخبط فيها وتترنح ما بين الانقلاب والانقلاب المضاد"، وأن عليها بعد ذلك أن تعالج "نقطة الضعف الكبرى" في شخصيتها، وهي الديمقراطية، ف"لا السكان ولا الفقر، ولا حتى الاستعمار في الماضي أو إسرائيل أو البترول العربي في الحاضر، هي المشكلة الأم في كيان مصر، وإنما مشكلة المشاكل وقضية القضايا هي قضية الديموقراطية الديكتاتورية أو نظام الحكم المطلق". ويستمر حمدان في إصرار مفزع، وصرامة بالغة مؤكدا على أنها "هي أصل مشكلة مصر كلها، شخصية مصر، مصير مصر، رخاء مصر، بل وبقاء مصر، شخصية المصري، كرامة المواطن المصري، نفسية الإنسان المصري، إعادة بناء الإنسان المصري والشخصية القومية…إلخ: في هذا كله "فتش عن الديموقراطية أو غيابها.. فإلى أن تتحقق الديمقراطية الحقيقية في مصر، وبدايتها الحكم المدني ونهايتها أن تقول للحاكم كلا بل تول، فلن تتغير الشخصية المصرية المطحونة المغلوبة على أمرها، المسحوقة المنسحقة، ولن تتخلص وتتطهر من سلبياتها ومثالبها المكتسبة أو الموروثة..". هذا الإلحاح من جانبه يمتد إلى مساحات واسعة من كتاباته، لكنه لم يكرر هذا المعنى عبثا، ولعل لحظتنا الراهنة تبرهن على صدق ما نقول، فهاهم أولاء من ينادون رغم وصاياه، ورغم دروس الماضي القريب، ببقر بطن الديمقراطية، من أجل دحر من يتصورونه عدوا خطرا، كان ذلك في الحقيقة أو لم يكن!. ويستعين حمدان بعد ذلك بالتاريخ ليؤكد حقيقة واقعة، فلإصلاح عطب الوطن"هناك عامل آخر، وهو التفوق التكنولوجي. فقديما لم يتغلب الهكسوس إلا بالحصان والعربة، بينما تغلب الأتراك في العصور الوسطى لتخلف فروسية المماليك وقصورها أمام بارود البندقية، في حين عجز الأتراك والمماليك فيما بعد ببنادقهم أمام مدفعية نابليون. والواقع أن التخلف التكنولوجي يرقى عمليا في بعض الحالات إلى أن الاستعمار سلم مصر لبعضه البعض، حتى لكأنما هو تداعي أو توارث الاستعمار، وذلك كما فعل المماليك للأتراك، وربما كذلك الأتراك للإنجليز، ومثلما فعل اليونان قديما للرومان. ومهما يكن، فالدرس الواضح هو أن مصر أكثر من أي بلد آخر ربما لا تملك أن تتخلف عن العصر تكنولوجيا أو تدفع الثمن باهظا". السياسة الخارجية لمصر ينطلق بنا بعدها رب الجغرافيا وإمام الاستراتيجية، ليحدد لنا الأبعاد الأربعة في توجيه مصر خارجيا، وهذا التعدد، كما ارتأه حمدان، "نتيجة منطقية، منتظرة ومتوقعة، للموقع البؤري في قلب مثلث القارات"، أما الأبعاد فهي: "الآسيوي والإفريقي على مستوى القارات، والنيلي والمتوسطي على المستوى الإقليمي"، موضحا أن "هذه الأبعاد تتداخل في بعضها البعض غالبا كما يفعل النيلي والإفريقي، هذا فضلا عن أن الكل يتداخل مع الإطار العربي الكبير"، ويستدرك حمدان ليلفت الانتباه إلى أن "الإطار العربي ليس مجرد بعد توجيهي أو إشعاعي وإنما هو خامة الجسم وكيان جوهر في ذاته. هو الجسم حيث الأبعاد هي الأطراف. هو الوجه وهي الوجهة. هو الهوية وهي"هوائيات" الإرسال والاستقبال. بوضوح أكثر، العروبة وجود، ولكن الأبعاد توجيه، إن تلك الأبعاد هي اتجاهات البوصلة فإن الأساس العربي هو جسم البوصلة ذاته..العروبة وحدها هي دائرة الانتماء، وكل ما عداها فدوائرعلاقات". لكن مفكرنا العروبي لم يسمح لذبذبة بوصلته أن تنحرف بفعل عباراته البلاغية المشعلة للعاطفة القومية، ليقر بأنه "رغم كل شيء، رغم الماضي التعس مرارا ومرارة الذكريات أحيانا، فإن الذي يربطنا بأوروبا أقوى بكثير جدا. وعلى الأقل، فإن اوروبا أقرب إلينا من إفريقيا ليس فقط بمقياس المسافة الجغرافية البحتة ولكن بكل المقاييس. فتاريخيا وحضاريا وسياسيا بل وجنسيا، فإن أوروبا هي الأقرب بلا مناقشة. طبيعي جدا، لهذا كله أن نكثف علاقاتنا مع المتوسط وأوروبا..من الناحية الأخرى، فليس المطلوب، ولم يكن مطلوبا قط، أن تصبح مصر "قطعة من أوروبا". ولا قطاعا ولا قطيعا. ولكن من ناحية ثانية، ليس المطلوب قطيعة مع أوروبا، المطلوب فقط أن تصبح مصر"دولة شمالية"، بمعنى الدولة العصرية الحديثة المتقدمة. وفي هذا فلا مفر، بل من المفيد جدا، أن نعمق أبعادنا المتوسطية وما وراء المتوسطية أي الأوروبية"، ويتابع جمال حمدان سرد أسبابه: ليس هذا فحسب، بل أيضا لأن قيام "إسرائيل" في حوض المتوسط، وهو نصف عربي، أصبح يستدعي رسم استراتيجية عربية متوسطية أوروبية عظمى لحصارها بحريا وسياسيا وماديا وعزلها عن دوله ودولها". ويستكمل حمدان عرض فكرته التي ابتعدت عن تخصصه "الجغرافيا"، وتجاوزت مجال تفرده "الاسترتيجية"، لتندرج تحت ما يمكن أن نسميه بفلسفة الهوية، فيقول: "إن مصر تظل في النهاية وأساسا هي مصر وتظل بوصلتها هي المصرية، فمصر، أرضا وشعبا وحضارة وسكانا ورغم كل الخيوط والخطوط المشتركة التي تربطها بأبعادها القارية، لا هي إفريقية تماما وإن وقعت فيها، ولا آسيوية تماما وإن لاصقتها، ولا أوروبية تماما وإن واجهتها. إنما تنتمي إلى كل هذه الآفاق دون أن تكون هناك تماما، بل تظل في النهاية مصرية تأصيلا وتطويرا وانتماء". ثم يضع حمدان بعد ذلك اللبنة الأخيرة في بنائه المحكم، بطرح فكرة قيام تحالف استراتيجي بين تركياوإيران ومصر، فيما أسماه بمثلث القوة الإقليمي، وهذا المثلث من المفترض أن يكون من أهم مراكز القوة الطبيعية في العالم العربي والشرق الأوسط، ليغير كما يرى حمدان موازين القوى في الصراع العربي الإسرائيلي، وهو ما أعاده على مسامعنا بعد قرابة ربع قرن المفكر الاستراتيجي ووزير الخارجية التركي أحمد داوود أوغلو مؤكدا على أهمية هذا المثلث، وكيف أن القوى الدولية كانت ومازالت حريصة على ألا تلتقي الأضلع الثلاثة لهذا المثلث الإقليمي، حيث أن "تحالف دولتين فقط من الدول الثلاث خارج إطار المنظومة، سيؤسس مصدر تهديد خطير"، وهو ما لم ولن تسمح به "المنظومة" أو الإمبريالية الغربية، ففي خمسينات القرن العشرين قام تحالف إيراني تركي ضد مصر الناصرية، التي جابهت القوى الغربية ومشروعاتها بالمنطقة، و"في أعقاب الثورة الإيرانية بدأ التقارب في العلاقات بين مصر وتركيا"، لتخرج إيران من "المنظومة"، وهو ما رصده أوغلو، وكان جمال حمدان سباقا للفت الانتباه إلى خطورة هذا المثلث الإقليمي. ولا يغادر حمدان هذا الموضع (سياسة مصر الخارجية) إلى آخر يعمره بفكره قبل أن يستوثق من صلابة فكرته، وتموضعها في عقول قرائه، لينشئ مقياسا لقوة مصر وضعفها، فيقرر أن: "مقياس قوة مصر السياسية الحساس هو العزلة و/ أو الانطلاق. إنه ترمومتر حرارة القوة المصرية الذاتية وبارومتر ضغطها السياسي الدولي. كقاعدة عامة أساسية، تتناسب قوة مصر تناسبا عكسيا مع درجة عزلتها وانغلاقها داخل حدودها، وطرديا مع مدى انطلاقها خارج حدودها، فكلما كانت مصر ضعيفة عاجزة وتضاءل حجمها السياسي وخف وزنها، كلما انطوت وتقوقعت على نفسها داخل حدودها وتقلص ظلها الخارجي وعلى العكس كلما كانت قوية فوارة وزاد ثقلها، كلما فاضت قوتها خارج حدودها وامتد نفوذها وتمدد وجودها عبرها..فبدون العالم العربي مرة أخرى لا تعد سياسة مصر الخارجية عالمية مهما انطلقت دوليا في أبعد العلاقات الخارجية مع الغرب أو الشرق..فإذا ما تخطت السياسة الخارجية المصرية العالم العربي وتجاوزته إلى علاقات خارج عربية أيا كانت، فإنها تظل في عزلة حقيقية مع ذلك…". إن جمال حمدان يهبنا عبر ما عرضناه، وما لا يتسع المقام لعرضه من أفكاره ورؤاه، بعد سياحته "في كل العلوم، يربط الأرض بالناس، والحاضر بالماضي، والمادي باللامادي، والعضوي بغير العضوي، ويكاد يتعامل مع كل ما تحت الشمس وفوق الأرض"؛ بعد هذه الرحلة يمنحنا حمدان: "فهما كاملا معمقا لوجهنا ووجهتنا، لكياننا ومكاننا، لامكانياتنا وملكاتنا.."، ولا نغرق في تمجيد حمدان عندما نقول بأن قراءة سفره الأعظم شخصية مصر: دراسة في عبقرية المكان" فرض عين وطني لا ديني، على كل مصري رغب في وطن لا مرعى، رغب في غد لا يؤجله حاضر يزدريه الوعي، وعليه بعدها أن يعد نفسه لدوره الذي قلده إياه التاريخ، وكلفته به الجغرافيا، فهو "عبء الرجل المصري" أن ينهض بوطنه أولا "فليس مقبولا مثلا، حتى وإن تكن مصر كبرى الدول العربية في السكان وفي مجموع الدخل القومي العام أن تكون من أقلها في متوسط الدخل القومي بحسب الفرد.."، ليتقدم بعدها إلى دار العرب، ف"مصير مصر ومكانتها في العالم سيحدده مصيرها ومكانها في العالم العربي، ومصيرها ومكانتها في العالم العربي سيحدده مصير فلسطين". المراجع: جمال حمدان، شخصية مصر.. دراسة في عبقرية المكان (ج2،3،4) جمال حمدان، نحن وأبعادنا الأربعة أحمد داود أوغلو، العمق الاستراتيجي "موقع تركيا ودورها في الساحة الدولية" محمد السيد الطناوي [email protected]