ارتفاع الدولار الأمريكي اليوم الاثنين 15-9-2035.. وتأرجح بقية العملات الأجنبية عالميًا    شهادات البنك الأهلي ذات العائد الشهري.. أعلى شهادة في البنوك حاليًا    أسعار الأسماك والخضروات واللحوم اليوم 15 سبتمبر    الاستعلام عن الأسماء الجدد في تكافل وكرامة 2025    كوريا الشمالية ترفض مطالب الولايات المتحدة بنزع أسلحتها النووية    عمرو أديب: الأهلي في مرحلة صعبة ويحتاج تغييرات شاملة    «بيفكر في بيزيرا».. رضا عبدالعال يهاجم زيزو    مقابل 120 مليون دولار.. المبعوث الأمريكي الخاص يبيع حصته في شركته العقارية    تفاصيل جديدة عن حياة المتهم بقتل الناشط تشارلي كيرك.. ما هي؟    استشهاد شخص وإصابة آخرين إثر غارة إسرائيلية على سيارة في جنوب لبنان    "هناك أمر غير مفهوم".. تعليق قوي من نجم الأهلي السابق على تعادل الفريق أمام إنبي    25 صورة للفائزين في حفل توزيع جوائز إيمي 2025    نتيجة تنسيق الدبلومات الفنية 2025 دبلوم تجارة نظام 3 سنوات،97.67% للتجارة و96.9% للسياحة والفنادق    قضي الأمر.. وزير العمل: لا يوجد فصل تعسفي بعد تطبيق القانون الجديد (فيديو)    خلال ساعات.. نتيجة تنسيق رياض الأطفال المرحلة الثانية في القاهرة 20262025 (رابط الاستعلام الرسمي)    بيان هام من جامعة الأزهر حول البرامج المميزة.. مؤشرات تنسيق 2025 علمي وأدبي بنين وبنات (رابط)    حمزة نمرة: أغنية «شمس وهوا» دمها خفيف وحققت نجاحًا كبيرًا    فلكيًا بعد 157 يومًا.. موعد بداية شهر رمضان 2026 في مصر    «زي النهارده».. توصل ألكسندر فلمنج لعقار البنسلين في 15 سبتمبر 1928    طريقة عصير الرمان.. الرحلة من اختيار الثمرة لمشروب منعش    ترامب يعتزم حضور مراسم تشييع تشارلي كيرك    ساعر يهاجم رئيس الوزراء الإسباني بسبب دعمه للتظاهرات المؤيدة لفلسطين    آمال ماهر: تشبيهي بأم كلثوم حمل ثقيل لكنه جميل    فايا يونان تتألق في أحدث ظهور لها من إيطاليا    قائد منتخب مصر لكرة القدم للساق الواحدة يكشف كيف حول الابتلاء إلى قصة نجاح    النيابة الإدارية تحيل مراقب وزارة المالية بأحد مستشفيات القليوبية وآخرين للتأديبية    العراق والسعودية يطيحان باثنين من كبار تجار المخدرات الدوليين    استئناف محاكمة عنصر إخواني بتهمة التجمهر في عين شمس| اليوم    توقعات الأبراج اليوم الاثنين 15-9-2025.. حظك اليوم برج السرطان: أمامك فرص لتحسين وضعك المالي    مواقيت الصلاة اليوم الإثنين 15 سبتمبر 2025 في القاهرة والمحافظات    حركة القطارات| 45 دقيقة تأخير بين قليوب والزقازيق والمنصورة.. الاثنين 15 سبتمبر    أسعار مواد البناء اليوم الإثنين 15 سبتمبر 2025    القانون يضع شروط لترقية الموظف في قانون التعليم.. تعرف عليها    ترامب: فنزويلا تُرسل لنا مخدرات وعصابات وهذا غير مقبول    ميج ستالتر تظهر ببنطال جينز على السجادة الحمراء لحفل إيمي (فيديو)    "عم عموم الناس".. عصام الحضري يرد على إشادة محمد أبو تريكة به    أشخاص يحق لهم إدخال المريض النفسي المصحة إلزاميًا.. تعرف عليهم    عاجل- أنصار الله تعلن تنفيذ هجوم نوعي ب4 مسيرات استهدفت مطار رامون    السيطرة على حريق داخل دار رعاية لذوي الاحتياجات الخاصة بأكتوبر دون إصابات    الشاشة وقوة البطارية والإمكانات.. مقارنة بين «آيفون 17 برو ماكس» و«سامسونج جالاكسي S25 ألترا»    برشلونة يدهس فالنسيا بسداسية تاريخية في الدورى الإسباني    كأس الإنتركونتيننتال.. موعد مباراة بيراميدز وأهلي جدة السعودي    5 مصريين يتأهلون لربع نهائى بطولة مصر المفتوحة للاسكواش    عمرو أديب: حرام أن يعمل إنسان بأقل من الحد الأدنى للأجور.. عندنا في مصر كارثة حقيقية    الجيزة تُعلن إعادة تشغيل مدينة الطلبة بإمبابة لاستقبالهم للعام الجامعي المقبل    حصيلة متصاعدة.. 53 شهيدًا في غزة خلال يوم من القصف الإسرائيلي المكثف    ريهام عبدالغفور في أحضان والدها بمساعدة الذكاء الاصطناعي    قائد منتخب مصر لكرة القدم للساق الواحدة: حولت الابتلاء إلى قصة نجاح وأمل    عمرو أديب: الإصلاحات الاقتصادية تعبير دمه خفيف وظريف جدًا لزيادة الأسعار    فلكيًا.. موعد شهر رمضان 2026 في مصر وأول أيامه وعيد الفطر المبارك    بالأسماء.. إصابة 4 من أسرة واحدة في البحيرة بعد تناول وجبة مسمومة    «شغلوا الكشافات».. بيان مهم بشأن حالة الطقس اليوم: «توخوا الحذر»    لا تقترب من السكر والكربوهيدرات المكررة.. 5 أطعمة تساعدك على التخلص من ترهل الذراعين    إليك هم النصائح لنوم منتظم يساعد الأطفال على الاستيقاظ بنشاط وحيوية    ما حكم عمل المقالب في الناس؟.. أمين الفتوى يجيب    تقديم الخدمات الطبية لأكثر من 284 ألف مواطن ضمن "100 يوم صحة" بالمنيا    «الإفتاء» تواصل عقد مجالسها الإفتائية في المحافظات حول «صلاة الجماعة.. فضائل وأحكام»    د.حماد عبدالله يكتب: حينما نصف شخص بأنه "شيطان" !!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جمال حمدان فى ذكراه العشرين: السلطة فى مصر تكره المتميزين وتحتضن الفاشلين

الأفكار لا تموت أبداً، وكلما وجدت متنفساً من هواء حلقت فى السماء، أما صانعو الأفكار فنحن نستدعيهم من العالم الآخر ونستعيد أرواحهم، ونجرى معهم حوارات حية.. هنا فقط
ضيفى فى حلقة اليوم من «عودة الروح»،حدوتة مصرية،هو قامة وقيمة علمية وأخلاقية رفيعة،هو محطة من محطات الشرف العربي، التي تلتقي فيها كل نوازع الحرية والكبرياء مع أساسيات العلم والمعرفة، التي تحفظ الحق وتصون الأمانة، عاش حياته زاهدًا في الدنيا، مبتعدًا عن أضوائها ومباهجها، واهبًا حياته للعلم، ثم فارقَ الدنيا تاركًا وراءَه لغزًا لم يستطِع أحد التوصل إلى حله حتَّى اليوم.
عاني من تجاهل ونسيان لأكثر من ثلاثين عاما قضاها منزويا في شقته الضيقة جدا بضاحية الدقى بالجيزة ، ينقب ويحلل ويعيد تركيب الوقائع والبديهيات ، وعندما مات بشكل مأساوي ، خرج من يتحدث عن قدرته الخارقة على التفرغ للبحث والتأليف بعيدا عن مغريات الحياة ، كما لو كان هذا الانزواء قرارا اختياريا وليس عزلة فرضت عليه لمواقفه الوطنية الصلبة ، وعدم قدرة المؤسسات الفكرية والمثقفين العرب على التعاطي مع أفكاره التي كانت سابقة لزمانها بسنوات.
إنه الدكتور «جمال حمدان»،صاحب كتاب «شخصية مصر»،الذى يستضيفنى اليوم مشكورا،فى عالمه الذى رحل إليه قبل 20 عاما،وكان أن انقطع قبلها عن الحياة والناس،سنين عددا.
حدث أمر ما غيّر مسار الحوار ،إذ وجدتُ مُضيفى الكريم فى أكمل صورة،رغم أن النار التهمت نصف جسده يوم رحيله،ما دفعنى إلى أن أستهل الحوار بالحديث عن واقعة قتله الغامضة،غير أن إجاباته زادت الأمور غموضا وتعقيدا وكأنه أصر على أن يظل الأمر طى الغموض .
فعندما سألتُ «حمدان»:هل مت محروقا؟ أخرج من بين أوراق كثيرة،كانت أمامه،تقرير مفتش الصحة بالجيزة الدكتور يوسف الجندى،الذى أكد أنه لم يمت مختنقاً بالغاز, كما أن الحروق لم تكن سبباً في وفاته, لأنها لم تصل لدرجة إحداث الوفاة.
قلت:فهل مت إذن بسبب صدمة عصبية,فقاطعنى ساخرا: وهل يموت الشخص الذي يمارس اليوجا يومياً وعلمياً بصدمة عصبية؟!
قلت:وما صحة أن أنبوبة الغاز انفجرت فيك بعد أن أذابت النيران خرطومها؟فقاطعنى ساخرا للمرة الثانية قائلا:ولكن أنبوبة الغاز عُثر عليها في حالة سليمة, بل وخرطومها أيضاً في حالة سليمة للغاية!
قلت:قالوا إن النيران أمسكت بك أثناء قيامك بإعداد الطعام لنفسك،فأردف قائلا: لكن التحقيقات أثبتت أننى أرسلتُ بواب العمارة قبيل الحادث بساعة ليحضر لى بعض الأطعمة ليقوم هو بتجهيزها!
قلت:لعلك تقصد أن شخصا ما تسلل إلى شقتك أثناء غياب البواب وقتلك؟ حينئذ التزم «حمدان» الصمت وسكت عن الكلام المباح، ولكنى فاجأتُه بما كتبه صديقه الأديب «يوسف القعيد» منذ أيام فى إحدى الصحف اليومية عنه،ومطالبته بفتح تحقيق فى حادث وفاته،وعندما سألنى: وماذا كتب «القعيد»؟ أجبته مستعينا بنص المقال:انتقد صديقك حفظ التحقيق فى وفاتك واعتبارها طبيعية وطالب بفتح التحقيق فى الحادث.
وعندما سألنى «حمدان»:وهل أورد القعيد أسبابا وجيهة تؤكد كلامه؟ أجبتُ: نعم،فقد كتب نصا:»لدىَّ أسبابى؛ فقد شب حريق فى 17 أبريل 1993، وكان يوافق يوم سبت فى منزل جمال حمدان، وكان عبارة عن حجرة وصالة فى شارع الرافعى المتفرع من شارع ربيع الجيزى، قيل إن الرجل كان يعد كوب شاى فامتدت النيران لمحتويات الشقة واحترقت ومات هو،وما أعرفه أن جمال حمدان كان يتناول الشاى مرتين فى اليوم.. صباحاً وفى الساعة الخامسة بعد الظهر على طريقة الإنجليز الذين قضى عندهم سنوات من عمره يعد رسالته للدكتوراه فى الجغرافيا السياسية. ومنذ عودته وهو يحافظ على هذا التقليد، عندما كنت أذهب إليه كان يرسل بواب العمارة لكى يحضر لى وله عصير قصب من محل قريب من بيته، ولم يغير هذه العادة..طعامه كان يعده له طباخ، يحضر مرة فى الأسبوع، يأكل منه كل يوم، وكان يتناول الغداء قرب الرابعة بعد الظهر، وفى معظم الأحيان كان يفضل أكله بارداً على عملية التسخين، ويبدو أنها من آثار فترته الإنجليزية»..
قاطعنى مجددا،وما الادلة التى استند إليها «القعيد»؟ ففلت:كتب صديقك:»من أدلة اتهامى لمن اغتالوا جمال حمدان أنه حدثنى فى أيامه الأخيرة أكثر من مرة عن ثلاثة كتب يريد أن ينتهى منها بأسرع ما يمكن، كأن الرجل كان يشعر باقتراب أجله، كتاب جديد وكتابان قديمان قرر أن يعيد كتابتهما على ضوء التطورات التى أعقبت صدور طبعاتهما الأولى،الكتاب الجديد كان عنوانه: «سيكولوجية الحشاش»، وكان كتاباً عن الرئيس أنور السادات، الذى كان يراقب جمال حمدان هبوط طائرته وصعودها من شرفة شقته فى الدور الأرضى بالعمارة التى كان يسكن فيها، الكتابان القديمان الجديدان كانا: «اليهود أنثروبولوجياً»، و«العالم الإسلامى المعاصر».
حينئذ..تذكر «حمدان» هذا الحوار،فقاطعنى:»بالفعل هذا حدث،وأنا قلت للقعيد حينئذ:إن التطورات الجديدة التى وقعت للعالم الإسلامى تتطلب منى ليس إعادة كتابه القديم، ولكن كتابة كتاب يطور الكتاب القديم، لدرجة أن يصبح كتاباً جديداً، أما «اليهود أنثروبولوجياً» فقد رأيتُ أنه لا بد من تناول الأساس الأنثروبولوجى الذى يغذى العدوانية الصهيونية التى نراها».
قلت: القعيد أشار إلى ذلك بقوله:«كانت إسرائيل تصفك بأنك أعدى أعداء إسرائيل فى مصر»،فقاطعنى مبتسما: وكنتُ أعتبر أن هذا الوصف أكبر وسام حصلت عليه فى حياتى كلها»،فقلت ولكن هذه الكتب الثلاث لم يتم العثور لها على أى أثر بعد رحيلك،بحسب القعيد الذى يرى أن تلك الواقعة فى حد ذاتها تتطلب فتح تحقيق فى الحادث..غير أن الرجل التزم الصمت..ولم يعقب.
حينئذ..طويتُ هذه الصفحة وانتقلت إلى محاور أخرى فى الحوار،فقلتُ له:يُنسب إليك أنك صاحب السبق في فضح أكذوبة ان اليهود الحاليين هم أحفاد بني إسرائيل الذين خرجوا من فلسطين خلال حقب ما قبل الميلاد..أريد تفاصيل أكثر،فأوضح «حمدان»:»أثبتُّ في كتابى «اليهود أنثروبولوجيًا» الصادر في عام 1967 ، بالأدلة العملية أن اليهود المعاصرين الذين يدعون أنهم ينتمون إلى فلسطين ليسوا هم أحفاد اليهود الذين خرجوا من فلسطين قبل الميلاد، وإنما ينتمي هؤلاء إلى إمبراطورية «الخزر التترية» التي قامت بين «بحر قزوين» و«البحر الأسود»، واعتنقت اليهودية في القرن الثامن الميلادي.. وهو ما أكده بعدى «آرثر كويستلر» مؤلف كتاب «القبيلة الثالثة عشرة» الذي صدر عام 1976...كما أثبتُّ أن إسرائيل - كدولة - ظاهرة استعمارية صرفة، قامت على اغتصاب غزاة أجانب لأرض لا علاقة لهم بها دينياً أو تاريخياً أو جنسياً، كما أن هناك «يهوديين» في التاريخ، قدامى ومحدثين، ليس بينهما أي صلة أنثروبولوجية، ذلك أن يهود «فلسطين التوراة» تعرضوا بعد الخروج لظاهرتين أساسيتين طوال 20 قرناً من الشتات في المهجر: خروج أعداد ضخمة منهم بالتحول إلى غير اليهودية، ودخول أفواج لا تقل ضخامة في اليهودية من كل أجناس المهجر، واقترن هذا بتزاوج واختلاط دموي بعيد المدى، انتهى بالجسم الأساسي من اليهود المحدثين إلى أن يكونوا شيئاً مختلفاً كلية عن اليهود القدامى».
قلتُ:ولكن الصهاينة يروجون لأنفسهم كأصحاب مشروع حضاري ديمقراطي وسط محيط عربي إسلامي متخلف؟ حينئذ..انفعل «حمدان»،ثم ما لبث أن استعاد هدوءه،ليقول: «اليهودية ليست ولا يمكن أن تكون قومية بأي مفهوم سياسي سليم كما يعرف كل عالم سياسي، ورغم أن اليهود ليسوا عنصراً جنسياً في أي معنى ، بل «متحف» حي لكل أخلاط الأجناس في العالم كما يدرك كل أنثروبولوجي ، فإن فرضهم لأنفسهم كأمة مزعومة مدعية في دولة مصطنعة مقتطعة يجعل منهم ومن الصهيونية حركة عنصرية أساساً..ولو قرأت كتابى «إستراتيجية الاستعمار والتحرير» إسرائيل،لأيقنت أن إسرائيل دولة دينية صرفة ، تقوم على تجميع اليهود فقط، في جيتو سياسي واحد، ومن ثم فإن أساسها التعصب الديني ابتداء، وهي بذلك تمثل شذوذاً رجعياً في الفلسفة السياسية ..، وتعيد إلى الحياة حفريات العصور الوسطى بل القديمة «.
سألتُه:ولماذا إذن أوجد الاستعمار العالمي هذا الكيان اللقيط،كما تصفه، بالاشتراك مع الصهيونية العالمية؟ فأجابنى فى ثبات:» حتى يُصبح قاعدة متكاملة آمنة عسكرياً، ورأس جسر ثابتا استراتيجياً، ووكيلا عاما اقتصادياً، أو عميلا خاصا احتكارياً، وإسرائيل.. في كل أولئك تمثل فاصلاً أرضياً، يمزق اتصال المنطقة العربية ويخرب تجانسها ويمنع وحدتها وإسفنجة غير قابلة للتشبع تمتص كل طاقاتها ونزيفاً مزمناً في مواردها «.
قلت:ذكرت فى بعض كتاباتك أن الإسلام سوف يعود قائدا من جديد،فعلى أى أساس بنيت استشرافك هذا؟ فأردف «حمدان» قائلا:
»بالفعل..يبدو لي أن عودة الإسلام أصبحت حقيقة واقعة في أكثر من مكان ، عودة الإسلام حقيقة ودالة جدًا تحت ناظرينا.. في الوقت نفسه يبدو أن ديناميات الإسلام تختلف تمامًا ، فقديمًا كان الإسلام يتقلص في تراجع نحو الجنوب في جبهته الأوروبية وجنوب جبهته الإفريقية، الآن هناك عودة الإسلام في أوروبا خاصة في طرفيها أسبانيا وآسيا الوسطى ، إضافة إلى هجرة المسلمين إلى قلب أوروبا».
قلتُ:دعنا نتوقف قليلا عند «سيناء» التى يهملها النظام الحالى إهمالا لا يناسب جغرافيتها ولا تاريخها،فأردف «حمدان» قائلا:» سيناء .. ليست مجرد صندوق من الرمال كما قد يتوهم البعض إنما هى صندوق من الذهب مجازا كما هى حقيقية..فحيث كان ماء النيل هو الذى يروى الوادى كان الدم المصرى هو الذى يروى رمال سيناء.. ولن تجد ذلك أمرا غريبا إذا أدركت أهمية الموقع الإستراتيجى لسيناء بالنسبة لباقى مصر بل وللقارة الأفريقية، فالمستطيل الشمالى منها، بتضاريسه المعتدلة وبموارده المائية كان طريقا للحرب وللتجارة على مر التاريخ، أو مركز الثقل الإستراتيجى لسيناء ، ومع تطور تقنيات الحروب الحديثة أصبح المثلث الجنوبى لسيناء نقطة ارتكاز للوثوب على ساحل البحر الأحمر بالسلاح البحرى أو الطيران، وكذلك لتهديد عمق الصعيد المصرى بالطيران، وتعد شرم الشيخ بمثابة المفتاح لهذا المثلث الجنوبى ..فهى وحدها التى تتحكم تماما فى كل خليج العقبة دخولا وخروجا عن طريق مضيق تيران».
قلتُ:وماذا عن دور سيناء فى نظرية الامن القومى المصرية؟ فاستحسن «حمدان» السؤال،وأجاب: «من يسيطر على فلسطين يهدد خط دفاع سيناء الاول، ومن يسيطر على خط دفاع سيناء الأوسط يتحكم فى سيناء، من يسيطر على سيناء يتحكم فى خط دفاع مصر الاخير، وقد قلت من قبل: ينبغى بعد انتصار أكتوبر أن يكون انسحاب يونيو 1967 آخر انسحاب مصرى من سيناء فى التاريخ، كما أن خروج إسرائيل بعد 1973 ينبغى أن يكون آخر خروج من مصر منذ يوسف وموسى».
قلت:ولكن الفراغ العمرانى يجسد أزمة حقيقية فى سيناء،فعقّب الرجل بقوله:»بالطبع يلعب الفراغ العمرانى فى سيناء، التى تمثل ثلاثة أضعاف الدلتا ويعيش فيها نحو نصف مليون مصرى، دورا مهما فى جعلها اراضى جاهزة لمعركة العدوان وملائمة لأغراضه، إلا أن هذا الفراغ يجعل من سيناء نهبا ومطمعا للمستعمرين، لذا كان هناك دائما عدو يشكك بطريقة ما فى مصرية سيناء ويطمع فيها بصورة ما، بالضم، بالسلخ، بالعزل».
قلت:هذا ينقلنا إلى الحديث عن مصرية سيناء التى ظلت مثارا للتشكيك من الأعداء،فأردف «حمدان» قائلا:»بالفعل..حاول الاحتلال البريطانى الترويج إلى أن سكان سيناء آسيويون لأنها جزء من قارة آسيا، وبعد هزيمة يونيو 1967 عادت اسرائيل تثير موضوع مصرية سيناء، وأثناء حرب أكتوبر ظهرت أصوات فى الغرب تدعو إلى تدويل سيناء مرة أو تأجيرها أو حتى شرائها كحل لجذور المشكلة.. إنها قد تكون غالبا أو دائما أرض رعاة ولكنها قط لم تكن أرضا بلا صاحب، فمنذ فجر التاريخ.. وسيناء مصرية..وهى مصر الصغرى، لكونها امتدادا وتصغيرا لصحراء مصر الشرقية..وهى قدس أقداس مصر».
قلتُ فى خبث لم يستسغه «حمدان»:وهل سيناء آسيوية أم أفريقية؟ فأجاب: «ببساطة .. مصر نفسها جميعا كانت دائما فى آسيا بالتاريخ كما هى فى أفريقيا بالجغرافيا».
حاولت هذه المرة تدارك الموقف،فسألته عن تداعيات إهمال سيناء وعدم تعميرها،فشدد على أن الرد العملى على تلك الاطماع يكمن فى كلمة واحدة هى: «التعمير»، فغياب العمران عنها حتى الآن ليس هدرا لإمكانية بقعة من أرض مصر فقط، ولكنه اهمال لقلب مصر النابض، لما تتمتع به من مميزات طبيعية، فلديها أطول ساحل فى البلاد بالنسبة إلى مساحتها فى مصر، وهى اقل صحارينا عزلة لكونها مدخل مصر الشرقى. وفى جيولوجيتها الإقليمية تكاد تختزل جيولوجية مصر كلها تقريبا،وبالرغم من أن سيناء منطقة صحراوية أو شبه صحراوية على أفضل الأحوال.. لكنها أغزر مطرا من الصحراوين الشرقية والغربية.»
سألتُه:وما ملامح حلم التعمير السيناوى؟ فأجاب حمدان:»يجب أن يكون الساحل الشمالى غنيا بالزراعة، والغربى نشيطا فى مجال التعدين والشرقى فى مجال الرعى، وان تكون قناة السويس مزدوجة ويتجمع العمران الكثيف حول ضفتيها، وأن تكون هناك سلسلة من الأنفاق تحت القناة تحمل شرايين المواصلات البرية والحديدية».
سؤال أخير استبقيتُه إلى نهاية الحوار،لحاجة فى نفسى،أدركها الرجل بسهولة،وهو:ٍلماذا تعامل السلطة أمثالك بهذا الأسلوب؟فأجاب حمدان،وقد اكتسى وجهه بثياب من الحزن:»لأن السلطة دائما ما تحارب العناصر الأبية المستعصية التي تتمسك بالعزة والكرامة فتصاد حتى تباد ، وتنقرض بالتدريج فشلا أو انهزاما ، وعلى العكس ، يرتفع ويبقى الفاشلون أخلاقيا ليصبحوا ناجحين اجتماعيا»،فقلتُ له:هون على نفسك،فعند الله تجتمعُ الخصومُ.
C.V
ولد «جمال حمدان» العام 1928،وحصل على التوجيهية العام 1944، ثم التحق بكلية الآداب «قسم الجغرافيا» وتخرَّج فيها العام 1948 ثم عُيِّن معيدًا بها، ثم سافر إلى بريطانيا في بعثةٍ حصلَ خلالها على الدكتوراه العام 1953، كان موضوعها: «سكان الدلتا قديمًا وحديثًا».
بعد عودته من البعثة عمل مدرسًا بجامعة القاهرة، وحصل على جائزة الدولة التشجيعية عام 1959م،وكان عمره 31 سنة.
الحادث الأهم في حياة الدكتور «جمال حمدان»،الذي دفعه إلى الانعزال عن المجتمع في شقته الصغيرة جدا بضاحية «الدقي» بالجيزة، حتى مات محروقًا، حين تقدم لنَيل درجة «أستاذ مساعد»، وأقرت اللجنة العلمية هذا الترشيح مع أستاذ جامعي آخر؛ ورأى «حمدان» أن مساواته بزميله إهانة له ولإنتاجه.
تقدم «حمدان» باستقالته التي لم تقبلها الجامعة إلا بعد عامين،حاول خلالهما مسئولو قسم الجغرافيا إثناءه عن قراره دون جدوى، ومنذ ذلك الحين فرض «حمدان» على نفسه عزلةً اختياريةً عن الناس؛ حيث لم يكن يستقبل أحدًا في منزله، وتفرَّغ لدراساته وأبحاثه.
فى يوم 16 إبريل 1993 احترق «جمال حمدان» داخل شقته،ولم تتوصل التحقيقات إلى نتيجةٍ محددةٍ في أسباب موته.
ترك جمال حمدان 29 كتابا و79 بحثا ومقالة، أشهرها كتاب «شخصية مصر دراسة في عبقرية المكان».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.