«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نحو صياغة إسلامية لنظرية العلم والتقنية.. «محاولة لمواجهة التخلف الحضاري»
نشر في البديل يوم 10 - 10 - 2013


مقدمة:
في الواقع، فإن هذه المساهمة قد جاءت انطلاقا من عدة حقائق، الأولى: أن القرآن شريعة المجتمع، والتي تستدعى ضرورة معالجة أية قضية تواجهنا وفق هدي الإسلام، أي وفق التصور الإسلامي الصحيح المستمد من القرآن الكريم والسنة المطهرة. الثانية: أن الدور المحوري للجامعة وغيرها من المؤسسات البحثية، يكمن في اهتمامها بقضايا المجتمع، ومساهمتها في حل مشكلاته المختلفة، ومساعدتها في تطويره وتنميته. الثالثة: أن المهمة الأساسية لأستاذ الجامعة تكمن دوره الريادي في الأخذ بيد المجتمع نحو التطور والنهوض، باعتبار أن "العلماء ورثة الأنبياء"، وأن الأنبياء لم يورثوا درهما ولا دينارا ولكنهم ورثوا العلم. وإذا كان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لم يكلوا ولم يفتروا أبدا عن إصلاح مجتمعاتهم المختلفة، والتي اقتضت منهم دعوة أقوامهم ليلا ونهارا، سرا وجهارا، وتحملوا في سبيل ذلك العنت الكثير، فليس أقل من قيام ثلة من العلماء بذلك الدور، والذين "لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله".
معالم الأزمة:
في الحقيقة، فإن أمتنا العربية الإسلامية تواجه، وهي على أعتاب القرن الواحد والعشرون، حالة من التخلف والتبعية تتمثل في تخلفها عن الركب العلمي، وعجزها عن اللحاق به، وندرة إسهاماتها في صنع الحضارة الإنسانية، مؤثرة للدعة، والركون، والنقل عن الآخرين مجترة تجاربهم وخبراتهم. هذا على الرغم من حقيقة أن الحضارة العربية الإسلامية قد غمرت بنورها مشارق الأرض ومغاربها ردحا طويلا من الزمان، رابطة السماء بالأرض، وعمارة الدنيا بعمارة الآخرة، ورضا الله بخدمة الخلق؛ وما إسهامات أبو بكر الرازي، وابن النفيس، وابن سينا، وابن الهيثم، وابن البيطار، والبيروني، والخوارزمي، وغيرهم عنا ببعيد.
لذلك فإن التحدي الأساسي الذي ينبغي علينا مواجهته يتمثل في كيفية التحاقنا بمسيرة الحضارة الإنسانية، وإبداعنا فيها، بل وريادتنا لها، وكيف يمكن لنا إعادة مجدنا الغابر وحضارتنا التليدة وماضينا المشرق. إن البشرية اليوم تئن تحت وطأة النموذج الغربي الإمبريالي الاستعماري الذي لم يسهم إلا في إفقارها وتجهليها وإمراضها، "فهل إلي خروج من سبيل"؛ إنها أحوج ما تكون- اليوم وأكثر من أي وقت مضى- لهذه الريادة، ولهذا البعث الحضاري الجديد.
على أية حال، فإنه وعلى الرغم من حقيقة أن هناك أسبابا عديدة مختلفة لمثل هذا التخلف عن الركب العالمي يمكن أن يدلي بها المتخصصون في علم الحضارات، فإنني أعتقد أن هناك سببا جوهريا يكمن في غياب رؤية عامة أو "نظرية" إسلامية للعلم والتقنية. لذلك فإن التحدي الأساسي الذي يواجهنا يكمن في استكشاف "نظرية" إسلامية للعلم والتقنية يتم بموجبها إعادة تفسير محتوي العلم برمته وفق أطر مفاهيمية جديدة، أعني وفق القيم والمثل والتصورات التي تنبعث من الدين الإسلامي الحنيف.
وفي الواقع، فإن محاولة استكشاف "نظرية" إسلامية للعلم والتقنية، تعني وبالضرورة إعادة دمج محتوى العلم برمته في السياق الثقافي الاجتماعي للأمة العربية الإسلامية. فمما لاشك فيه أن المحتوي النظري للعلم الكائن في مجتمعاتنا الآن يكاد ينفصل تماما عن السياق الاجتماعي الثقافي السائد في مجتمعاتنا العربية الإسلامية. وعلى الرغم من ذيوع الفكرة القائلة بأن العلم قد اكتسب منزلته وعموميته من ارتكازه على أرضية صلبة من المعطيات والأدلة والوقائع التجريبية؛ ومن استقلاله عن السياقات الثقافية والاجتماعية، فإن نظرة تاريخية فاحصة لكيفية نشأة العلم "الغربي" يدحض بشكل قاطع هذه الأطروحة.
الروح العامة "للعلم الغربي":
لقد ارتبط العلم "الغربي"- منذ عصر النهضة الأوربية وحتى بداية القرن العشرين- أشد الارتباط بالسياق الاجتماعي الثقافي السائد في المجتمع؛ إنه كان تعبيرا عن الروح العامة للمجتمع ضد الظلم والاستبداد والقهر، إنه كان تعبيرا عن اليأس المفضي للقنوط من الدين ومؤسساته البائسة. فلقد نشأ العلم "الغربي" أساسا كرد فعل ضد التجاوزات الرهيبة التي لعب فيها رجال الكنيسة دوراً بارزاً بإحكام قبضتهم على العقول والأفكار، واحتكارهم حق تفسير نصوص الكتاب المقدس، وإنشائهم لمحاكم التفتيش Inquisitions Court السيئة الصيت في العام 1233، بهدف محاربة أي انحراف ولو بسيط عن العقائد الكاثوليكية الرسمية.
لقد كان من نتيجة ذلك أن قام عدد من المفكرين والفلاسفة بالدعوة إلي مجموعة من التصورات الاجتماعية والسياسية الجديدة بمنأي عن سلطان اللاهوت فيما تعرف بالحركة الإنسانية Humanism. ومن أبرز من حمل لواءها بيترو بومبانزي Peietro Pomponazzi (1462- 1525)، ونيقولو مَكيافيلى Niccolo Machiavelli (1469- 1527)، وميشيل دي مونتاني Michel de montaigne (1532- 1592)؛ كما قام عدد من المصلحين اللاهوتيين كمارتن لوثر Martin Luther (1483- 1546)، وجون كلفان John Calvin (1509– 1564)، وأولرخ زفنجلي Ulrich Zwingli (1484-1531) بالدعوة إلي مجموعة من القيم الأخلاقية والروحية "البروتستانتية" الجديدة التي ما لبثت أن انتشرت في جميع أرجاء أوربا مقوضة من سلطان الكنيسة الكاثوليكية وهيبتها.
وفي غضون ذلك، فإن تطوراً مفاجئاً في العلوم الطبيعية قد انبثق على يد نيقولاس كوبرنيكوس Nicholas Copernicus ( 1473 – 1543)، وتيكو براهي Tycho Brahe (1546–1606)، وجاليليو جاليلي (1564- 1642)، وجوهانز كبلر Johannes Kepler(1571 –1630)؛ كما ظهر العديد من الاكتشافات العلمية والجغرافية متمثلة في أعمال ليوناردو دافينشيLeonardo Da Vinci (1452– 1519)، وأعمال باراسلس Paracelsus ( 1493 –1541) الطبية، واكتشاف كريستوفر كولومبس Christopher Columbus (1451- 1506) للدنيا الجديدة، والتي كان لها بالغ الأثر في تكريس ثنائية حادة بين العلم والدين، حيث أنها أدت على وجه العموم إلي زيادة سيطرة الإنسان على الطبيعة، وتعزيز شعوره بفرديته وتحرره من سلطان الكنيسة.
بيد أن تطوراً نوعياً في العلاقة بين العلم والدين قد حدث في أوربا منذ بداية القرن الثامن عشر، فيما يعرف بعصر التنوير Age of Enlightenment، إثر النجاح المنقطع النظير لبرنامج الميكانيكا النيوتينية الذي شكل رافدا مغذيا للنزعة اللادينية، حيث أنه شكَّل المثال والنموذج للكثير من الاتجاهات الميكانيكية المتطرفة، وللنظرة الآلية للطبيعة لمعالجته مالا يحصى من الظواهر الميكانيكية والفلكية والحرارية، ونجاحه في استيعاب جميع مستويات الوجود المادي تقريبا.
ونتيجة لذلك قام عدد من المفكرين والفلاسفة ذوي النزعة التجريبية كجون لوك John Locke (1632-1716)، وديفيد هيوم David Hume (1711-1776) بالدعوة إلي نبذ التقاليد الدينية والثقافية القديمة والعقيمة والأفكار اللاعقلانية، والدعوة إلي تقويض الدين وهدم مؤسساته. وما لبثت تلك الدعوة أن انتشرت في ربوع العالم الغربي بأسره، وشكلت الروح العامة للقرن التاسع عشر برمته. فظهرت اتجاهات مختلفة تتبني تلك الرؤية، كالفلسفة الوضعية Positivism في فرنسا على يد "أوجست كونت" Auguste Comte (1798-1857) و"إميل دوركايم" Emile Durkheim (1858-1917)؛ و"الوضعية المنطقية" Logical Positivism في النمسا على يد كل من "شيلك" Schlick و"هانز هان" Hans Hahn، و"كارل مانجر" Karl Manger و"كيرت جودل" Kurt Gödel، و"أوتو نيوراث" Otto Neurath، و"هربرت فايجل" Herbert Feigl، و"فايزمان" Waisman؛ و"المادية الجدلية" Dialectical Materialism في روسيا على يد كل من "فويرباخ" Feuerbach (1804-1872)، و"ماركس" Marx (1818-1883)، و"إنجلز" Engels (1820-1895)، وإلي حد ما "لينين" Lenin (1870-1924)؛ والواقعية الجديدة Neorealism في بريطانيا على يد "برتراند راسل" Bertrand Russell (1873-1970) وما لبثت تلك الاتجاهات أن انتشرت في العالم بأسره.
وفي الحقيقة، فإنه على الرغم من تباين تلك الاتجاهات وتنوعها، فإنها تجتمع على تبنيها للنزعة العلمية Scientism، والتي مفادها: أن العلم قد قام بحل جميع المشكلات التي عجز كل من الدين والميتافيزيقا عن حلها طوال ألفي عام، وذلك باعتماده على المنهج العلمي التجريبي حيث الموضوعية والدقة والصرامة والتحقق التجريبي، والذي أفرز ثلة من القوانين التي تكفي بنفسها في تفسير وفهم العالم كما هو، وكما كان، وكما سيكون. ومن ثم فإنها قد سعت إلي إقامة تصورات عن الكون والإنسان بواسطة "النتائج العلمية"، واضعة في اعتبارها حقيقة أن المعرفة العلمية هي المعرفة الحقة، معتقدة أن العلم سوف يقوم بحل جميع المشكلات التي كانت من اختصاص الميتافيزيقا. لقد عبر "وندت" Wundt عن روح هذه النزعة بقوله: "في القرن الثالث عشر كان الله هو الذي يضع قوانين الطبيعة، وفي القرن السابع عشر كانت هذه القوانين من صنع الطبيعة ذاتها، أما في القرن التاسع عشر فإن قوانين الطبيعة يضعها العلماء أنفسهم". ولذلك فإنهم قد أقصوا كل من الدين والميتافيزيقا عن الحياة الإنسانية برمتها، باعتبارهما يمثلان مرحلتين غابرتين من مراحل طفولة العقل البشري التي اختلط فيها الحق بالباطل، والصحيح بالزائف، والواقع بالأوهام والأساطير.
بناء على ذلك يمكننا القول، إن التحدي الأساسي الذي ينبغي علينا مواجهته إنما يكمن بشكل جوهري في تأكيد عرى العلاقة بين العلم والسياق الاجتماعي الثقافي للمجتمع، أي أن يعبر العلم عن روح المجتمع، ويهتم بمشكلاته الاجتماعية والثقافية والسيكولوجية والسياسية والاقتصادية والعسكرية. وبكلمات أخرى، فإن المهمة الرئيسية والواجب الأساسي الملقى على عاتق العلماء المسلمين في القرن الواحد والعشرون يكمن في استكشاف نظرية "إسلامية" للعلم تعبر عن ثقافة وعقائد وقيم مجتمعاتهم، يعيدون بها تفسير المحتوى المعرفي للعلم برمته في مخطط تنظيمي يتضمن حدودا بنائية ومفاهيم جديدة، ومن ثم تأسيس نسق نظري يتصف بالعموم والشمولية.
معالم نظرية العلم الإسلامية:
الآن، دعونا نتحدث عن المقصود بنظرية العلم بصفة عامة. في الحقيقة فإن نظرية العلم المعاصرة ترتكز على ستة أركان هي:
1- أنطولوجية العلم: وتعنى بالبحث في كشف طبيعة الوجود اللامادي في القضايا الميتافيزيقية المترتبة على التصورات أو المفاهيم والقوانين العلمية مثل المادة والطاقة والزمان والمكان والعلة والقانون والاحتمال وغيرها، حيث أن مثل هذه المفاهيم تشكل وحدات أساسية في نسيج المعرفة العلمية. إنها تعني على سبيل المثال بالبحث فيما إذا كانت طبيعة الأشياء غير محددة بالفعل، (وبذلك يكون مفهوم الاحتمال مفهوما أنطولوجيا، وليس مجرد مفهوم أبستمولوجي فحسب، كما اقترحه مبدأ عدم التيقن لهيزنبرج Heisenberg's Uncertainty Principle طبقا لتأويل مدرسة كوبنهاجن Copenhagen School Interpretation )، أو ما إذا كان البحث سوف يفصح، ولو من حيث المبدأ عن بنية ميكروسكوبية محددة كامنة تحت السطح الإحصائي كما يعتبره كذلك آينشتاين Einstein وبوم Bohm.
2- أبستمولوجيا العلم: وتعنى بالبحث في نظرية العلم من حيث إمكان المعرفة العلمية ومصادرها وطبيعتها. إنها تعني على سبيل المثال بالبحث في الوظيفة الملائمة للنظريات العلمية، أي ما إذا كانت النظرية العلمية تمدنا بوصف موضوعي للعالم أو مجرد تلخيصات وتعميمات أمبريقية، أو كونها مجموعة اصطلاحية من القضايا، أو أنها مجرد أداة للتنبؤ.
3- إكسيولوجيا العلم: وهى ما يعرض للبحث في القيم والمثل العليا، ومدى ارتباطها بالعلم وخصائص التفكير العلمي، باعتبار أن المعرفة العلمية واحدة من أهم فعاليات النشاط الإنساني وأرقاها. إنها تعني كذلك بالبحث في النواحي الجمالية والجوانب الإنسانية المتعلقة بقيم الحق والخير والجمال.
4- سيكولوجيا العلم: وتعنى بالبحث في العمليات النفسية والعقلية التي تتعلق بالكشف العلمي، وما يقترن بها من القدرات الإبداعية والخيالية الموجهة لحل المشكلات العلمية. كما أنها تعني بالبحث في أصل ونشأة الفروض والقوانين والنظريات العلمية.
5- سوسيولوجيا العلم: وتعنى بالبحث في التفسير الاجتماعي لتطور النظريات العلمية ومدى تقبل المجتمع لها، بالإشارة إلى أسلوب التنظير العلمي ونمطه الذي يعكس الصبغة السائدة في مجتمع ما.
6- تاريخ العلم: ويعنى بوصف وتقويم حركة العلم عبر مراحله التاريخية المتعاقبة للوقوف على عوامل تقدمه أو تعثره من وجهات نظر متعددة. ويتميز تاريخ العلوم عن تاريخ الأحداث الماضية للأشخاص والحضارات بأنه يتكون دائما من حقائق قابلة للتحقق والاختبار والاستنتاج، إذا ما توفرت لها نفس الظروف، أو اتبع في استنتاجها نفس الأسلوب. إن سرد هذه الحقائق كثيرا ما يحكمه نظرة انتقائية منظمة، ومن ثم فإن إعادة فحص هذه الحقائق مرة أخرى يمكن أن يؤدي إلي تغيير صورة العلم التي نعيش أسرى لها الآن.
الآن إذا كانت هذه هي معالم وأسس نظرية العلم بصفة عامة، فإن نظرية العلم الإسلامية إنما تعني صياغة معالم النظرية السابقة في إطار من التصور الإسلامي السليم، المستمد من القرآن الكريم والسنة الشريفة، والجامع لأصول التراث وروح المعاصرة. بالإضافة إلي ذلك، فإن الصياغة الإسلامية لنظرية في العلم والتقنية لا تقتصر خصائصها على ضمان مواصلة التقدم القائم على المنهج العلمي السليم، لكنها تمنح الباحث من الأسباب والمقومات ما يساعده على تنمية طاقاته الإبداعية في الكشف والابتكار. وفي مقدمة هذه الأسباب والمقومات التي يقضى بها المنهج الإسلامي في البحث والتفكير يأتي الإيمان الخالص الذي يجعل العقل أقدر على كشف الحقيقة العلمية، وأكثر تهيؤا لاستقبالها وقبولها، ويمد أمامه آفاقا جديدة لم تكن في الحسبان، فيميط اللثام بإذن الله تعالى عن الأسباب الخفية والأسرار الكامنة من العلم الإلهي الشامل وراء مظاهر الكون والحياة، مسترشدين في ذلك بالنجوم الباهرة التي أضاءت سماء حاضرتنا الإسلامية من العلماء والفلاسفة المسلمين. (فإذا كان البعض يزهو بعلم الإغريق فيما أسموه بالمعجزة "اليونانية"(جورج سارتون، على سبيل المثال)، أو "بالعلم العبري" والعصر الذهبي "للعبقرية السامية"، وكذلك "بالعلم المسيحي" (رينيه تاتون، على سبيل المثال)، فإنه يحق لنا أن نزهو ونفخر بحضارتنا الإسلامية وبعلمائنا وفلاسفتنا المسلمين).
من هنا يمكننا القول، أن الصياغة الإسلامية لنظرية العلم والتقنية يجب أن تخضع لدراسات متأنية تتعلق بطبيعة التطور التاريخي لمفهوم العلم والتقنية، مثل:
1- تصنيف العلوم وتأصيل منهجية الفكر الإسلامي؛ ونعني بتصنيف العلوم تقسيمها حسب موضوعاتها، وتجميع ما يشترك منها في الموضوع والمنهج، وربطها في إطار كلي.
2- تنقية التاريخ العلمي للحضارة الإسلامية من مزاعم المستشرقين والمؤرخين، وتنقية العلوم جميعها من المفاهيم المعارضة لروح الدين الإسلامي الحنيف.
3- معالجة مختلف جوانب نظرية العلم التي سبقت الإشارة إليها معالجة إسلامية معاصرة.
4- الانطلاق في جميع عمليات التفكير العلمي من مسلمتي التوحيد الإسلامي والنظام الكوني، وربطهما باطراد الظواهر الطبيعية واحتمالية صدق الكشوف العلمية.
5- صياغة أدوات وعناصر كل من المنهج الاستقرائي والمنهج الاستنباطي والمنهج الفرضي الاستنباطي المعاصر في إطار إسلامي، مع بيان شمولية هذا المنهج الإسلامي وعدم مقدرة المحدثين على استيعاب كل جوانبه.
6- تأكيد إسلامية المعرفة، وبيان ضرورة ذلك لتقدم المجتمع الإسلامي، وتمكين العقلية الإسلامية من المشاركة في الإبداع الحضاري بنصيب يتناسب مع مجد أمتنا ومكانتها في تاريخ العلم والحضارة.
وفي الحقيقة، فإن استكشاف نظرية "إسلامية" للعلم نعيد بها تفسير محتواه المعرفي ربما يكون سبيلا للخروج من دائرة التخلف والتبعية، محققين بذلك الريادة المنشودة، حيث إن إعادة التنظيم المفاهيمي للعلم وفق الرؤية الإسلامية يمكن أن يؤدي إلي تغيير جذري في صورة العلم التي نعيش أسرى لها الآن؛ كما يمكن لتغيير الأطر المفاهيمية التي نرى من خلالها مختلف المنجزات للعلم "الغربي"، أن يكون مساعدا في عملية فهم أعمق للكون والحياة، ترتبط فيها الروح بالمادة، والدين بالدنيا بالآخرة في وحدة واحدة.
التوصيات والمقترحات:
إنه لمن الضروري، ومن أجل النهضة العلمية المستقبلية، وأن تقوم الدول العربية والإسلامية بتبني إستراتيجية عامة تهدف إلي إعادة بعث جديد للحضارة العربية الإسلامية من خلال:
1. إبراز قيمة وأهمية العلم في الإسلام كما نصت عليه الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، باعتباره فريضة على كل مسلم ومسلمة.
2. الإعلاء من شأن العلم وأهله، وحث العلماء وتشجيعهم على القيام ببحوث رائدة- كل في مجال اختصاصه- تعالج موضوعاتهم معالجة إسلامية، وفي ضوء وهدي الإسلام.
3. ضرورة إدراج مقررات دراسية في مختلف أقسام العلوم الأساسية والإنسانية بالجامعات العربية وفي مختلف السنوات الدراسية، تهدف إلي إبراز دور الحضارة العربية الإسلامية في نهضة الغرب، وإبراز فضل العلماء المسلمين وأسبقيتهم على الكثير من أقرانهم الأوربيين.
4. ضرورة الاستعانة بالأساتذة والعلماء الأكفاء الذين يؤتمنون على قيامهم بهذه المهمة على خير وجه، ممن يكون لهم باع طويل في ذلك، بما يستتبع ذلك من ضرورة تبادل الخبرات والتجارب المختلفة بين الدول الأعضاء.
5. ضرورة القيام بحركة ترجمة مكثفة وواسعة لمختلف الكتب والمراجع العلمية المعاصرة في مختلف التخصصات تصاحبها حركة واسعة لتحقيق وتنقيح المخطوطات التي بذل فيها الرواد المسلمون الأوائل جل جهدهم والتي كان لها بالغ الأثر في قيام الحضارة الأوربية.
6. ضرورة إدراج مقرر دراسي حول "تاريخ وفلسفة العلوم الإسلامية" لأقسام العلوم الأساسية، والذي يمكن أن يتضمن طرق ومناهج البحث العلمي عند مفكري الإسلام، مستعرضين فيه أوليتهم وأسبقيتهم على غيرهم من العلماء الأوربيين في ابتكار المنهج الاستقرائي والمنهج الاستنباطي من واقع ممارستهم الفعلية للعلم، والتي كانت موطئ القدم الذي شيد عليه الغرب حضارته، عن طريق الترجمات الحثيثة التي قاموا بها.
المراجع:
2. بوخنسكي: تاريخ الفلسفة المعاصرة في أوربا، ترجمة د. محمد عبد الكريم الوافي، منشورات جامعة قاريونس، بنغازي.
3. ج. د. برنال: العلم فى التاريخ، ترجمة: د. شكرى إبراهيم سعد، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى 1982.
5. د.محمد عابد الجابري: مدخل إلي فلسفة العلوم، العقلانية المعاصرة وتطور الفكر العلمي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الرابعة، 1998.
6. هاينريش هاينى: في تاريخ الدين والفلسفة، ترجمة: صلاح حاتم، دار الحوار للنشر، سوريا، الطبعة الأولى 1998.
7. Caw, Peter; "Philosophy of Physics", in: Encyclopedia of Physics, (ed. by) Rita G. Lener and George L. Trigg, Second Edition, 2nd ed; VCH Publishers, INC; 1991.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.