لم أستطع يوماً أن أفصل بين الأستاذ وتلميذه ، بين محمد حسنين هيكل وفهمي هويدى ، بدايةً من الصورة التي تعتلى مقالات الاثنين ، والتي يتشابهان فيها في هيئة الوجه ، ولمعة العينين ، وهدوء الابتسامة ، وانتهاءً بالدور الذي اختاره الاثنان في الحياة المصرية .. بدأ الأستاذ حياته صحفياً واعداً ، وتحول بذكائه وألمعيته إلى عرّاب النظام المصري ، أو بمعنى آخر إلى السنيد الفكري والروحي للنظام ، طوال فترة جمال عبد الناصر ( 1954- 1970 ) ، والجزء الأول من فترة سلفه محمد أنور السادات ( 1970- 1974 ) .. ولم يتخل هيكل أبداً عن دوره كعرّاب تاريخي للدولة المصرية ، حتى بعد أن فقد دوره كشريك أصيل في صنع الحدث ، إلى شريك مخالف للرئيسين السادات ومبارك .. ولم يكن هيكل مجرد صحفي أو جورنالجى كما يحب أن يلقبه الناس ، بل كان حالة صحفية وفكرية ، تسربت إلى داخل كل تلاميذه بدرجات متفاوتة ، وأخذ منها فهمي هويدى جرعته كاملة ، لأنه قضى ثمانية عشرة عاماً بين جنبات الأهرام وتحت مظلته ( 1958 – 1976 ) ، وهى فترة ( هيكلية ) بإمتياز ، إن جاز لنا التعبير ، سواء في لمعان هيكل داخل المشهد المصري ، أو في انحساره عنه .. وبالطبع اقترب هويدى من هيكل بحكم العمل بمؤسسة صحفية واحدة ، وبحكم أن هيكل كان المثال والرمز لكل من عمل بمهنة الصحافة ، وعرف بلاطها ، واقترب من عوالمها .. وعلى المستوى المهني ، هويدى مثل أستاذه تدرج في مدارج العمل الصحفي حتى صار سكرتيراً لتحرير جريدة الأهرام العريقة ، قبل أن يغادر المحروسة إلى بلاد النفط ، وتحديداً إلى الكويت عام 1976 ، ويصير مديراً لتحرير مجلة العربي الشهيرة ، في فترة من أزهى فتراتها ، إبان رئاسة تحرير الصحفي الرائع والراحل ، أحمد بهاء الدين لصفحاتها .. وفى إنتقالات هويدى العديدة لم تغب صورة هيكل عن مخيلته ، واختار أن يكون – عرّاباً – مثل أستاذه .. لكن الزمن غير الزمن ، والأحداث غير الأحداث ، ومراكز الثقل السياسي والاقتصادي غير ما كانت عليه في فترة مجد الأستاذ ، فمن ثورات التحرر الوطني في الخمسينات والستينات ، التي كانت مصر بقعة من بقاعها الأساسية ، إلى زمن النفط العربي وتصاعد مد الجماعات الإسلامية ، وتراجع المد القومي والعروبي والاشتراكي ، ومن زمن ثنائي القطبية ، إلى زمن القطب الأوحد ، ومن زمن – العرّاب – الواحد، إلى زمن متعدد – العرّابين – .. واختار هويدى عن وعى أن يكون عرّابا للجماعات المتأسلمة ، ومن خلفها مراكز ثقلها في الجزيرة العربية ، وإيران ، وأخيراً تركيا ، مدعياً مثل أستاذه أنه صحفي في الأساس ، وله مساحة من الإستقلال الفكري ، تجعله ينظر للأمور بموضوعية المفكر ، لا بإنحيازات المنتمى ... وكما كان أستاذه منحازاً للفترة التي شهدت مجده ، إنحاز هو الآخر لمراكز الثقل الجديدة ، ودافع عنها بوعي وحنكة ودراية العرًاب ، لا بعقيدة وإخلاص المنتمى .. والعرّاب لا يعنيه سوى الدفاع عن فصيلته وعشيرته ، لأنه أصبح جزءاً منها ، وصارت جزءاً منه ، ينال مجده من سطوعها ، وتنال مصداقيتها من دفاعه المستميت عنها .. ويختلف هويدى عن أي عرّاب لجماعات الإسلام السياسي ، لأنه يمتلك بلاغة الحجة وسحر البيان ، ولديه نفس أدوات خصومه الفكريين في التحليل وإستخلاص النتائج ، وتفنيد الأحداث بما يؤكد وجهة نظره ، حتى وإن كانت دلائل الأمور أبعد ما تكون عنها .. وكل تلك المقومات انتقلت إليه من أستاذه هيكل ، الذي فاق مجايليه وأقرانه ، سواء في لغته المضيئة الناصعة ، التي تتلامس في مواضع عدة مع لغة الأدب وشفافيته ، أو في تحليلاته الناعمة التي تعرف طريقها جيداً إلى هدفها وقارئها ، وكأنها ( القوى الناعمة ) التي ينفذ منها هيكل إلى العقول .. هويدى صورة أخرى من هيكل ، الفارق الوحيد بينهما فارقاً زمنياً ، وليس فارقاً فكرياً ، فالأستاذ لم يدافع إلا عن الفترة التي شهدت مجده ، متغافلاً عن ما شابها من ديكتاتورية ، ولم يتخل عن دوره إلا بعد أن أبعدوه قسراً عن مقود سيارته المفضلة ، سيارة الأب الروحي ، بعد أن ساءت العلاقة بينه وبين السادات ، ولم يكن غريباً على تلميذه أن يفضل نفس السيارة ، ويقوم بنفس الدور ، لكن على طريق آخر وبوسائل أخرى .. ورغم غرامي بمقالات الاثنين : الأستاذ والتلميذ ، ومتابعتي الحميمة لهما ، إلا أنني سأظل منحازا لمدرسة الراحل المرموق ، أحمد بهاء الدين ( 1927 – 1996 ) ، الذي حافظ على مسافة بينه وبين السلطة المصرية ، أهلته أن يرى الواقع المصري بتجرد وواقعية ، ولم يكن منتمى إلا لأرضه وبني وطنه ، وهو نفس الدور والطريق الذي يسير عليه الآن الكاتب الرائع سلامة أحمد سلامة