الحيرة تسود من عدم تسمية الأشياء بأسمائها واللف والدوران حول طبيعة ما حدث ويحدث منذ 28 يناير مع نزول القوات المسلحة في ميادين مصر. فكأننا لا نريد أن نقول الكلمة صراحة ونظل متمسكين بالكلمات اللطيفة التي لا تجرح لا الجيش ولا الشعب. لا نريد أن نعترف بأن الثورة الشعبية تخللها انقلابا عسكريا تمسح بالثورة . فكلمة انقلاب مقيتة سياسيا وفي الوقت نفسه لا يستطيع الجيش القول بأنه قام بثورة . ثورتان في وقت واحد لا يكمن بلعهما .. بجانب تسمية الانقلاب بثورة جيش معناه معاداة لثورة قائمة بالفعل أو بدقة لحالة ثورية. فلم يكن هناك من مناص من ارتداء عباءة الثورة الشعبية لإخفاء الانقلاب ضد حكم مبارك. إن وضع المعادلة الصحيحة للأمر تفسر كل ما قام به المجلس العسكري من حينها إلى الآن . فكل ما قام به هو لوضع أسس دولة بدء من معطيات داخلية وخارجية واضحة سواء في علاقته بالإخوان المسلمين أو بدول عربية لا تريد أن تتجاوز الثورة “المسمى” ويتم تفريغها من المحتوى . إذ ثورة تعني التهديد للمنطقة. ونجاح الثورة كثورة هو تغيير أكيد لكل بلاد المنطقة مهما كانت الضريبة المدفوعة بشريا من قهر النظم الحاكمة . فنجاح الثورة المصرية قنبلة حقيقية يجب سحب الفتيل منها لتصبح مجرد فرقعة صوتية لا أكثر. بجانب أن ثورة فعلية هي تهديد لكل الاستراتيجيات المتواجدة منذ “كامب دافيد” وخروج لمصر من حلف الدول المعتدلة ومن هنا نري مليارات الدولارات سوف تمنح لمصر بسلاسة تتعارض مع منطق الدول الغربية إلا في حالة احتواء الدول . ويتواكب معها تصريحات لينة حول القضية الفلسطينية من سياسة دولية كانت دائما محابية لإسرائيل ولكن اليوم عليها أن تعيد التفكير لضمان مصالحها ولتأمين إسرائيل من خلال منظور جديد غير واضح كلية بعد ولكنه آت لا ريب برغم للقيام بتوازنات جديدة. يمكن الادعاء أن المجلس العسكري وقع على شهادة الانفصال عن الثورة أو بدقة اعتبار حركته مستقلة عنها منذ الاستفتاء على بعض مواد الدستور وما تبعه من إعلان دستوري لم يتم استشارة الشعب على محتواه. وما تلا ذلك من قوانين لإعاقة حياة سياسية حزبية سليمة وحرية اعتراض شرعية وعدم تطهير كل المؤسسات الفاسدة وكذلك البعض من الممارسات ضد بعض الاعتصامات والمحاكمات العسكرية للمناضلين . فكل ذلك يدخل في ذات الخط الذي يفصل بالتدريج المجلس العسكري عن الثورة الشعبية. ثم كانت جمعة 27 مايو هي نقطة النهاية برفع يده كلية عن حماية الثورة والإقرار بأن هناك سلطة مستقلة للمجلس عن الثورة وأن هذه السلطة تستمد شرعيتها من الذين وافقوا على بعض بنود الدستور في الاستفتاء. وهنا يحدث العديد من الشروخ أكثرها خطورة ليس التوافق بين المجلس والإخوان على ذات المبدأ ولكن محاولة تجزئة الشعب إلى أغلبية يقال أنها أقرت سلطة المجلس الأعلى وهو ما لم يحدث وأقلية مازالت تتوجه للميادين للمطالبة بأشياء هي في حكم المنتهية في نظر المجلس ولا جدال ممكن حولها. فالمجلس العسكري يتصرف حيال المواطنين وكأنهم جنود يتعامل معهم بمنطق “أطع الأمر الأخير ولو خطأ”. وعلى ضوء تلك الخطة يسعى المجلس والإخوان إلى زرع انقسام في المجتمع بين قلة تتمرد في الميادين وأغلبية راضية. ومخاطر هذا الانقسام سنرى أثارها السلبية في بث الفرقة داخل القوى الوطنية الثائرة من ناحية لكي تتشتت بدورها. ومن ناحية أخرى الانقسام بين هذه القوى والأغلبية الراضية ومن داخلها سوف تتواجد كل القوى المضادة للثورة بكل أطيافها. فالدولة التي تتشكل هي دولة قواعدها هي ذات القواعد القديمة وقد ثبت ذلك بوضوح في حركة تعيين المحافظين وكبار المسئولين وعدم محاكمة من تسببوا في موت مئات الشباب وجرح الآلاف بجانب تلك المحاكمات لرموز النظام “السابق” التي تلوح وكأنها لذر الرمال في العيون وإمكانية تمتع اكبر المجرمين بالبراءة لعدم ثبوت الأدلة أو عدم كفايتها أو لعدم وجود قوانين تحاسب على الفساد السياسي. ولقول ذلك بطريقة أخرى نقول إن الدليل الملموس على أن ما حدث ليس ثورة كاملة وإنما ثورة تخللها انقلاب يحاول السيطرة عليها يتمثل في أننا مازلنا نطالب بتحقيق مطالب الثورة. وهو ما يعني أن هناك سلطة أعلى يتوجه الثوريون إليها للتوسل أن تستمع إلى النداء. وذلك يعني أن “الوصي على الثورة” أو “ولي الأمر” لا ينفذ المطالب التي صرح مسبقا بشرعيتها وهو ما له معنى سياسي محدد أي أنه صاحب السلطة الفعلية وذلك ليس وليد اليوم ولكن منذ لحظة نزوله بين الثوريين في مدن مصر في 28 يناير. ذلك أمر لابد من الوعي به برغم ما قد يحمل من أحاسيس بالمرارة. إذ أن ثورة تكون فعلية إذا استولت على السلطة وحينها لا تبلور مطالبا وإنما تضعها موضع التنفيذ. ذلك ليس هو الوضع لأن ما حدث ويحدث هو كما سبق وقلت في مقالين سابقين :”حالة ثورية” أو “لحظة تاريخية ثورية” سلم فيها الثوار أمر الثورة إلى “وصي” أعلن أنه يتبنى مطالب الثورة ويحميها. وجاء هذا التسليم منطقيا إذ لم يكن للثورة قيادة ولكن قيادات وهذه القيادات لم تتمكن في 18 يوما توحيد نفسها في قيادة موحدة وتبلور برنامجا وتواصل احتلال الميادين حتى تتحقق كل مطالبها بما في ذلك مشاركتها في السلطة في أعلى مستوى ثم القيام تدريجيا بتطوير شكل جديد للدولة وعودة الجيش فورا إلى عمله. وضع المعادلة بهذا الوضوح يحدد القضية وطبيعة المشكلات والكيفية التي يتم التعامل معها. وسوف تنكشف كل أوراق اللعبة السياسية في الأسابيع والشهور القادمة حينما يواصل الانفجار الشعبي طريقه إلى الميادين برغم وصول حاكم جديد لكرسي الحكم غير ذلك الذي كانت تحلم به الثورة الشعبية. حينها ستكون المخاطر قد بلغت ذروتها ولا يعلم من أحد كيف ستكون طبيعة المواجهة. هذا الوضع الشديد الحساسية بحاجة إلى مراجعة فكرية من قبل المجلس العسكري من ناحية ومراجعة فكرية وتنظيمية من قبل قوى الثورة من أجل عمل جبهة موحدة من كل القوي وبلورة مطالبها المرحلية بحيث تكون هي مطالب الثورة وبعيدا عن أي أيديولوجية وأن تكون تلك المطالب هي سلاح إنقاذ الثورة.