تجاوز"محمود درويش" بإبداعه وريادته خرائط العبث السياسي وجدران العزلة الأيديولوجية، وانتصر بإنسانيته لإنسانيتنا جميعاً، وأعاد صياغة فلسطين لتكون فلسطين أم البدايات والنهايات، وحلق متفردا في سماء العظمة، ليصل إلى مكانة لم يسبقه إليها شاعرا آخر، وعقرت أرحام نساء العرب أن تلدن مثل "درويش". فيتصادف في هذه الأيام الذكرى الخامسة لوفاة سيد الكلمة وفارسها، وحارس إنسانيتنا وصانع فضائنا وخارطة المكان، فإننا نتطلعُ إلى تلك اللحظة التي ينهض فيها محمودُنا من نومه الأبدي ليُنشدَ فينا "أنت منذ الآن أنت وليس غيرك"، ويعمِّد جسدَ الأمة وروحَها وكيانَها بفلسطين الموحدة، وهم أحد أهم الشعراء العرب فقد أدخل الرمزية في القصيدة، ليمزج بين حب الوطن وبين التغني بالحبيبة الأنثى، ويتألق في "حضرة الغياب" و"مديح الظل العالي". ولد "درويش "عام 1941 في قرية البروة وهي قرية فلسطينية تقع في الجليل قرب ساحل عكا، حيث كانت أسرته تملك أرضا هناك، وخرجت الأسرة برفقة اللاجئين الفلسطينيين في عام 1947 إلى لبنان، ثم عادت متسللة عام 1949 بعيد توقيع اتفاقيات السلام المؤقتة، لتجد القرية مهدمة وأقيم على أراضيها موشاف "قرية زراعية إسرائيلية"، فعاش مع عائلته في قرية جديدة، وأصبح لاجئا فلسطينيا على أرض فلسطين. أنهى دراسته في ثانوية كفر ياسيف، وانضم إلى الحزب الشيوعي في إسرائيل، وبعد إنهائه تعليمه الثانوي، كانت حياته عبارة عن كتابة للشعر والمقالات في الجرائد مثل "الاتحاد" والمجلات مثل "الجديد"، وأصبح فيما بعد مشرفا على تحريرها، وكلاهما تابعتان للحزب الشيوعي، كما اشترك في تحرير جريدة الفجر، وبدأ نجمه يسطع حينما كشف عن موهبته الفاذة في مجال الشعر. لم يسلم "درويش" من مضايقات الاحتلال، فاعتقل أكثر من مرّة منذ عام 1961 بتهم تتعلق بأقواله ونشاطاته السياسية، حتى عام 1972 حيث نزح إلى مصر، والتحق بمنظمة التحرير الفلسطينية، وانتقل بعدها إلى لبنان ليعمل في مؤسسات النشر والدراسات التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية، علماً بأنه من اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير احتجاجا على اتفاق أوسلو. وظل في باريس قبل عودته إلى وطنه، ودخل إلى إسرائيل بتصريح لزيارة أمه، وفي فترة وجوده هناك قدم بعض أعضاء الكنيست الإسرائيلي العرب واليهود اقتراحا بالسماح له بالبقاء في وطنه، وسمح له بذلك. في الفترة الممتدة من سنة 1973 إلى سنة 1982 عاش في بيروت وعمل رئيساً لتحرير مجلة "شؤون فلسطينية"، وأصبح مديراً لمركز أبحاث منظمة التحرير الفلسطينية قبل أن يؤسس مجلة "الكرمل" سنة 1981، وبحلول سنة 1977 بيع من دواوينه العربية أكثر من مليون نسخة لكن الحرب الأهلية اللبنانية كانت مندلعة بين سنة 1975 وسنة 1991، فترك بيروت سنة 1982 بعد أن غزا الجيش الإسرائيلي بقيادة ارئيل شارون لبنان وحاصر العاصمة بيروت لشهرين وطرد منظمة التحرير الفلسطينية منها. أصبح درويش "منفيا تائها"، منتقلا من سوريا وقبرص والقاهرة وتونس إلى باريس، وكتب وثيقة الاستقلال الفلسطيني التي تم إعلانها في الجزائر وألقاها المرحوم ياسر عرفات، وشغل منصب رئيس رابطة الكتاب والصحفيين الفلسطينين وحرر مجلة الكرمل، كما ساهم في انطلاقه واكتشافه الشاعر والفيلسوف اللبناني روبير غانم، عندما بدأ هذا الأخير ينشر قصائد لمحمود درويش على صفحات الملحق الثقافي لجريدة الأنوار والتي كان يترأس تحريرها. توفي الشاعر الفلسطيني محمود درويش مساء السبت 9 أغسطس عام 2008، عن عمر يناهز 67 عاما في مدينة هيوستن بولاية تكساس، بعد إجراء عملية قلب مفتوح، وكان يخضع للتنفس الاصطناعي. وكتب درويش مطولته "جدارية"، التي يقول فيها: "هزمتك يا موت، الفنون الجميلة جميعها هزمتك، يا موت الأغاني في بلاد الرافدين، مسلة المصري، مقبرة الفراعنة، النقوش على حجارة معبد.. هزمتك.. وأنت انتصرت، لم أُولَدْ لأَعرفَ أَنني سأموتُ، بل لأحب محتويات ظل الله".