"مدد يا أم العواجز مدد، مدد يا بنت سيدنا النبي".. نداءات غلفها الخشوع، تهادت هامسة من القلوب، منسابة في ألق فطري على الألسنة، لتحملك على أن تكررها بنفس الحالة الوجدانية بمجرد أن تقترب من مسجد السيدة زينب.. دون أن يؤثر فيك صخب السيارات وزحام البشر، بل تتعلق القلوب والأنظار بهذه الصوفية المشعة من الأضواء التي يزدان بها ضريح أم هاشم، خاصة ذلك اللون الأخضر الذي يبعث الراحة والصفاء والطمأنينة.. وخصوصية منطقة السيدة زينب التي تتمتع بها على مدار العام، تزداد كثيرًا وتتجلى بأروع صورها خلال شهر رمضان المعظم، وتبدأ مظاهرها برائحة البخور التي تملأ القلوب قبل الأنوف، لتملأ النفس والروح، طاردة نيران الضغينة والحقد والغضب، ومزيلة من القلوب كل صراعات الدنيا، فضلا عن تلك التكبيرات والصلوات والأدعية المطهرة للقلوب التي تحجرت طوال العام بالذنوب والمعاصي. "البديل" تجولت في حضرة الطاهرة، لتعيش يوما رمضانيا عامرا بالخير والكرم، وفي مشهد بانورامي سريع للمسجد وما يحيط به، رصدت عالما مليئا بالانفعالات والأحداث والعلاقات. مجاذيب وشحاذين في أول لقطة تسمع أنينا ينساب من أسفل: "يا جابر المكسورين يا رب"، يصدر عن عجوز تفترش أرض الساحة المجاورة لمسجد السيدة زينب، امرأة سبعينية، تجاعيد وجهها حاملة شقاء وهموم كل فقراء مصر من الوادي إلى الدلتا.. قالت "أم عرابي"، إنها تأتى كل عام في شهر رمضان لتجلس بجوار أم هاشم، حيث تتحصل على مبلغ من المال يمكنها من الإنفاق على أسرتها المكونة من حفيدتين، تركهما ابنها الوحيد بعد أن مات في حادث سيارة، وألقت أمهم مسئولية رعايتهما على جدتهم وذهبت للزواج من آخر. على بعد خطوات من "أم عرابي" يجلس ذلك المجذوب بجلبابه الأخضر الواسع، وتلك المسابح الطويلة التي تلف عنقه ويده، دعواته تتوالى صارخة، موجهة إلى السماء "مدد.. مدد يا طاهرة.. مصلون خاشعون أما تلك السيدة ذات الوجه البشوش والحجاب الأبيض الطويل، والتي تجلس لتقرأ بالمصحف، فهي الحاجة "عفاف صلاح" امرأة في الستين من عمرها، قالت إنها من سكان شبرا، ولا يفوتها يوما من صلاة التراويح في السيدة زينب، تنتظر هذا الشهر الكريم من عام إلى آخر لقضاء أغلب الوقت هنا، حتى ميعاد السحور في رحاب السيدة زينب. للبيع... من الإبرة للصاروخ!! خارج أسوار المسجد، هناك عالم آخر.. زحام وحركة لا تهدأ، بيع وشراء لسلع متباينة، ورغم ذلك فهي حركة لا تخلو من الجو الروحاني، كل شيء يباع بجوار المسجد، "من الإبرة للصاروخ".. يقول حمادة عبد العزيز - بائع أدوات منزلية: رمضان شهر الكرم على العباد، حركة البيع تزيد في الشهر المعظم عن كل أيام السنة، ومن ثم نستطيع أن نحصل على دخل جيد في هذا الشهر الكريم، وفي هذه الرحاب الطاهرة. أما أم مصطفى - بائعة الترمس، فتقول: زوجي مات منذ 3 سنوات، أعيش وأولادي الخمسة في "عشة" بالدويقة، لا أعرف مهنة سوى بيع الترمس يوميا على الكورنيش، وفي أيام رمضان يقل زبائن الكورنيش، لذلك أنتقل إلى جوار مسجد السيدة زينب، فالزائرون يأتون بأطفالهم وهو ما يزيد من رواج بضاعتي هنا. "ويسكي الصالحين" بعد التراويح !! فى أحد الشوارع المحيطة بالمسجد، تطالع طاولة تمتلأ بزجاجات يجذبك لونها البرتقالي الفاقع، ومياهها الحمراء المنذرة بلهب الشطة، وأكياس أخرى بلونها "الفوشية" المبهج، إنه الجزر واللفت الملون والبنجر الوردي، وجميع أنواع المخللات التي يزداد رواجها في الشهر الكريم، لاسيما في هذا الحانوت العتيق.. يقول محمد الحريف - صاحب الحانوت: مهنة صناعة "الطرشي البلدي" ورثتها أبا عن جد، وهذا المحل الصغير له زبائن تأتي خصيصا من مدينة أكتوبر والتجمع الخامس ومدينة نصر ومصر الجديدة، وأهم ما يحرصون على شرائه "ويسكي الصالحين"، وهو منتج يشتهر به المحل عبر أجيال عديدة، وهذا المشروب عبارة عن "مياه المخلل ذات الشطة الحارقة المصنوعة من مياه وتوابل وثوم وخل وملح"، ويتراوح سعر الزجاجة بين 3 إلى 7 جنيهات. وأشار "الحريف" إلى أن حركة البيع تشهد كسادا هذا العام لانعدام الأمن في الأيام الماضية والاعتصامات التي تغلق مناطق كثيرة. فوانيس يدوية تنافس الصيني ورغم مرور عدة أيام من الشهر الكريم، فإن محال بيع الفوانيس، ما زالت مضاءة بسائر أنواع الفوانيس، بألوانها المتعددة، مفترشة أغلب المساحة المحيطة بالمسجد.. وتقول هدى مدحت - ربة منزل، إنها كانت تنتظر نصيبها من الجمعية المشتركة مع جيرانها، لكي تتوجه إلى السيدة زينب وتشتري لأطفالها الثلاثة فوانيس رمضان، مشيرة إلى أنها تفضل تلك الفوانيس القديمة المصنوعة من الحديد والزجاج الملون عن تلك الصيني التي تبتعد عن تراثنا العربي الأصيل، وتتخذ أشكالا كرتونية غريبة، فضلا عن ارتفاع سعرها وقصر عمرها في الاستهلاك، عكس الفوانيس المصنوعة يدويا في ورش تحت الربع وباب الشعرية. ولباعة الملابس نصيب في رحاب السيدة زينب، رغم أن الوقت ما زال مبكرا على شراء ملابس العيد.. يقول سعيد على - بائع بمحل ملابس، هناك عديد من الأسر تفضل شراء ملابس العيد منذ الأيام الأولى من رمضان، حتى تبتعد عن زحام وتكدس المشترين في الأيام الأخيرة، مضيفا أن أسعار الملابس هذا العام متوسطة وفى متناول مختلف الطبقات الاجتماعية. "الجحش" و"نجمة السيدة زينب" على الرصيف وعن اشهر مطاعم الفول والطعمية يكون الاسم من نصيب " الجحش " ومع ومع اقتراب وقت السحور، رصدت "البديل" زحام العديد من العائلات والأصدقاء على طاولة أشهر مطاعم الفول والطعمية بالمنطقة، منتظرين أطباق الفول والمسقعة والطعمية، هو مطعم "الجحش".. يقول رمضان عبد الناصر - مدير تنمية بشرية بإحدى الشركات الخاصة، وأحد زبائن السحور على طاولة "الجحش، أصطحب عائلتي كل رمضان لتناول السحور في هذا المطعم، رغم أننا من سكان مصر الجديدة، ونكرر ذلك أكثر من مرة خلال الشهر الكريم، حيث أصبحت عادة سنوية نحرص عليها، لأننا كعائلة نفضل هذا الجو الشعبي، مضيفا أنه جاب العديد من بلاد العالم إلا أن هذا الزحام و"اللمة" العائلية بالسيدة زينب، لها مذاقها الخاص الذي لم يجده في أي مكان بالعالم. وهناك وسط هذا الزحام، من لا يجد مكانا على طاولة "الجحش"، وهؤلاء يجدون الحل في عربة فول "نجمة السيدة زينب" التي تقف مقابلة لمسجد السيدة زينب. ويقول محمد حماصة - 16 عاما، والذي يعمل على هذه العربة، إنه تولى العمل على عربة الفول نقلا عن والده الذي أصيب بانزلاق غضروفي قبل أيام من حلول رمضان، ويقف والده طول العام بميدان السيدة زينب، ويعتمد على البيع لسائقي الميكروباص وعمال المحلات والباعة الجائلين، مشيرا إلى أن هذه الأيام تعد موسما رائجا، ويكون دخلها جيدا جدا.