ما كتبه الأستاذ الإمام محمد عبده في الجزء الأول من مقاله الهام عن كيفية تكون شخصية المصري بفعل الظروف السياسية والاجتماعية التي أحاطت به على مر قرون كاملة أكسبته اعتمادا على نفسه وشعورا بأهميته وكيف ظهر ذلك بجلاء في مقاومته الشرسة للمحتل الفرنسي الذي لم يستمر حيالها سوى ثلاث سنوات ( 1798-1801). يستعرض الأستاذ الإمام العوامل التي جرفت هذه الشخصية التي تكونت في قرون وما ترتب على هذا التجريف من استكانة وخنوع للمحتل الإنجليزي خاصة في الطور الأول من الاحتلال بعد انكسار الثورة العرابية . يحمل الأستاذ الإمام الوالي محمد على باشا المسئولية الأكبر في قتل عناصر القوة في الشخصية المصرية والعصف بما تشكل من أهمية للعنصر المصري في إدارة البلاد وأخذ القرار. . أراد محمد على أن يستبد بكل مقاليد الأمور بعد ما رأى من قوة الزعامات المحلية المصرية التي أجبرت الإمبراطور العثماني على سحب رجله الذي عينه كوالي مصر بعد انسحاب الفرنسيين ، والإبقاء على محمد على كوالي لمصر اختارته تلك الزعامات. . استخدم محمد على في القضاء على هذه الزعامات دهائه الفطري، كان يستعين بأحدهم ضد الآخر حتى يقضى عليه ثم يقضى على من استعان به في البداية وهكذا مستغلا الضعف الإنساني ، استطاع بكل من الحيلة والقوة القضاء على الزعامات المصرية يقول الأستاذ الإمام ( ما الذي صنع محمد على ؟ لم يستطع أن يحيى ولكن استطاع أن يميت . كان معظم قوة الجيش معه ، وكان صاحب حيله بمقتضى الفطرة ،فأخذ يستعين بالجيش، وبمن يستمليه من الأحزاب على إعدام كل رأس من خصومه ، ثم يعود بقوة الجيش وبحزب آخر على من كان معه أولا وأعانه على الخصم الزائل فيمحقه ، وهكذا حتى سحقت الأحزاب القوية ) لاحظ أن الأستاذ الإمام يقصد ب(الجيش) من جاء مع محمد على وكان جيشا أجنبيا تابعا للإمبراطورية العثمانية لم يكن قد تكون الجيش المصري بعد في هذه الفترة. وبعد أن عصف بالقيادات المصرية التفت للعائلات المصرية الكبرى يقول الأستاذ الإمام ( وجه - أي محمد على- عنايته إلى رؤساء البيوت الرفيعة فلم يدع فيها رأسا يستتر فيه ضمير )أنا ( علم محمد على أن قوة العائلات وما تحمله من سلاح كانت السبب الرئيسي في القضاء على أحلام نابليون و أن المصريين قوة لا يستهان بها بعد أن دحروا حملة فريزر الإنجليزية 1807 وقت غيابه وغياب جيشه، فأخذ بدواعي الحفاظ على الأمن نزع السلاح من أيدي المصريين ، يقول الأستاذ الإمام:"واتخذ من المحافظة على الأمن سبيلا لجمع السلاح من الأهلين، وتكرر ذلك منه مرارا، حتى فسد الأهالي ، وزالت ملكة الشجاعة منهم ، وأجهز على ما بقى في البلاد من حياة في أنفس بعض أفرادها ، فلم يُبْقِِِِِ في البلاد رأساً يعرف نفسه حتى خلعه من بدنه ، أو نفاه مع بقية بلده إلى السودان فهلك فيه". وبعد أن قضى على الزعامات والعائلات أخذ في تكوين طبقه طفيلية فاقدة لكل عناصر القوة يكون ولائها الأول والأخير له هو وحده ،مكوناً بذلك أرستقراطية دخيلة غريبة عن المجتمع المصري، رؤوسها في الغالب من الأتراك والأرناؤط وسفلة الأجانب تلك الطبقة التي سيطرت على الحياة الاقتصادية والسياسية بعد سقوط مشروع محمد على والتي قضت عليها ثورة يوليو 1952. يقول الأستاذ الإمام أخذ يرفع الأسافل ويعليهم في البلاد والقرى ، كأنه كان يحن لشبه فيه ورثه عن أصله، الكريم: "حتى انحط الكرام ، وساد اللئام ، ولم يبق له في البلاد إلا آلات له يستعملها في جباية الأموال، فمحق بذلك جميع عناصر الحياة الطيبة ، من رأى وعزيمة واستقلال نفس، ليصير البلاد المصرية جميعها إقطاعا واحدا له ولأولاده" تملكت محمد على رغبة قوية في الاستقلال عن الإمبراطورية العثمانية فأخذ في استمالة الدول الأوربية له في صراعه مع الإمبراطور العثماني فأوسع للطوائف الأوربية نطاق الامتيازات على حساب المصري يقول الإمام ) حتى صار كل صعلوك منهم لا يملك قوت يومه ملكا من ملوك الدنيا في بلادنا ،يفعل ما يشاء ولا يُسأل عما يفعل .( بذلك تدمرت الشخصية المصرية القوية التي شعرت بأهميتها يوما،يقرر الإمام ذلك فيقول: ( صغرت نفوس الأهالي بين أيدي الأجانب بقوة الحاكم وانقلب الوطني غريبا في داره غير مطمئن إلى قراره ، فاجتمع على سكان مصر ذلان : ذل ضربته الحكومة الاستبدادية المطلقة ، وذل سامهم الأجنبي إياه ليصل إلى ما يريد منهم ..) نعم يقر الإمام بأن محمد على خلق طبقة متعلمة ساهمت في إحداث نهضة مؤقتة في البلاد عن طريق إرساله بعثات لأوربا ، ولكنه يشكك في نواياه لم يفعل محمد على ذلك إلا لخدمة مشروعه الفردي الذي زال بزواله ويدلل على ذلك بأن أولئك الطلاب لم يستفد بهم المصريون في الارتقاء بحياتهم وإنما استخدمهم محمد على في بناء قوته ومجده فقط ، تعلم أولئك في أوربا ولكنهم لم يعطوا الحرية في بث هذا العلم في مصر ،يقول الأستاذ الإمام : أرسل جماعة من طلاب العلم إلى أوربا ليتعلموا فيها ، فهل أطلق لهم الحرية أن يبثوا في البلاد ما استفادوا ؟! كلا ..ولكنه استعملهم آلات تصنع له ما يريد ( يقر الأستاذ الإمام بحركة الترجمة والتأليف ولكن كما فعل في الطلاب المبعوثين فعل في تلك الكتب بأن جمعت في المخازن ولم يستفد الوطن منها في شئ فيقول(وُجِدَ كثيرٌ من الكتب من الكتب المترجمة في شتى الفنون ، من التاريخ والفلسفة والأدب ،ولكن هذه الكتب أودعت المخازن من يوم طبعت وأغلقت عليها الأبواب إلى أواخر عهد إسماعيل ) يستنتج الأستاذ الإمام أن هذه الكتب ترجمت تحت ضغط رؤساء الأوربيين لنشر ثقافة بلادهم فوافقهم محمد على ولكنه خاف من أثرها إن هي وقعت في أيدي المصريين فأمر بحبسها في تلك المخازن ولما ناءت هذه المخازن بحملها أفرغت ما فيها من كتب خارجها فوقعت في أيدي المصريين محدثة نهضة ثقافيه ملحوظة. وفى تكوينه للبعثات وللجيش المصري اعتمد محمد على أسلوب العنوة والقوة بل والخطف من الأهالي فكان يأمر جنوده بخطف أطفال الكتاتيب والأزهر ليلحقهم في البعثات أو الجيش مما أورث المصريون كرها للتعليم وللتجنيد ) كانوا يتخطفون تلامذة المدارس من الطرق وأفناء القرى كما يتخطفون عساكر الجيش ،فهل هذا مما يُحَبِّبُ القوم في العلم ويرغبهم في إرسال أولادهم للمدارس؟ لا بل كان يخوفهم من المدرسة، كما كان يخيفهم من الجيش) ويفند الإمام أثر النهضة الزراعية والصناعية والعسكرية على المصريين ، وإنما كان المستفيد الوحيد من ثمار هذه النهضة محمد على وأسرته يقول ) حمل الاهالى على الزراعة ولكن ليأخذ الغلات ، ولذلك كانوا يهربون من ملك الأطيان كما يهرب غيرهم من الهواء الأصفر ) الكوليرا ( والموت الأحمر )الطاعون ،(يقول ( أنشأ المصانع والمعامل ولكن هل حبب إلى المصريين العمل و الصنعة ؟وهل أوجد أساتذة يحفظون علوم الصنعة وينشروها في البلاد ...لا بل بغض إلى المصريين العمل والصنعة بتسخيرهم في العمل، والاستبداد بثمرته، فكانوا يتربصون يوما لا يعاقبون فيه على هجر العمل والمصنع لينصرفوا عنه ساخطين عليه، لاعنين الساعة التي جاءت بهم إليه ) نعم أنشأ جيشا كبيرا وأسطولا ضخما ولكنه لم يشعر المصري بعزة جيشه أو بأس أسطوله لم يحبب المصري في العسكرية أو التجنيد ( فهل علم المصريين حب التجنيد ؟ وأنشأ فيهم الرغبة في الفتح والغلب ؟ وحبب إليهم الخدمة في الجندية والافتخار بها ؟لا ..بل علمهم الهروب منها ، وعلم أباء الشبان وأمهاتهم أن ينوحوا عليهم معتقدين أنهم يساقون إلى الموت ...هل شعر مصري بعظمة أسطوله أو بقوة جيشه ؟ وهل خطر ببال أحد منهم أن يضيف ذلك إليه بأن يقول هذا جيشي أو هذا أسطولي، أو جيش بلدي أو أسطوله ؟ كلا ..لم يكن شئ من ذلك ، فقد كان المصري يعد ذلك الجيش وتلك القوة عونا لظلمه ..) ظهر ذلك حينما تحالفت أوربا ضد محمد على، سرعان ما انكسر مشروعه لأنه لم يجد له نصيرا من المصريين الذين سلب شخصيتهم وأذل أنفسهم ليجد نفسه وحيدا من غير نصير ولينتهي مشروعه الذي بدأه كأن لم يكن. ويظهر أثر تجريف الشخصية المصرية وفقدها لعناصر قوتها في استقبال الاحتلال الإنجليزي بعد كسر عرابي وجيشه ، أين ذهبت تلك الروح المقاومة الشرسة التي هزمت جيوش فرنسا وأجلتها سريعا ، وكسرت حملة فريزر الإنجليزية ، أين اختفت تلك الروح المقاتلة !! يقول الإمام هذه الفقرة التي بدأنا بها الجزء الأول من المقال: "دخل الإنكليز مصر بأسهل ما يدخل به دامر على قوم ،ثم استقروا ولم توجد في البلاد نخوة في رأس تُثبت لهم أن في البلاد من يحامى عن استقلالها ، وهو ضد ما رأيناه عند دخول الفرنساويين مصر ، وبهذا رأينا الفرق بين الحياة الأولى والموت الأخير.." ثم يقرر الأستاذ الإمام: "كان هذا الرجل – يقصد محمد على- تاجرا زارعا جنديا باسلا، ومستبدا ماهرا، ولكنه كان لمصر قاهرا، ولحياتها الحقيقية معدما.." لو عمل محمد على لمصر ما عمله لنفسه ، لو أشعر المصري بقوته وأهميته لتغير الوضع ولكملت المسيرة ، لملك المصري نفسه بل ملك العالم ولم يكن لأحد أن يملكه .