قيل للمنفلوطي: «إن فلانًا حفظ كتابك عن ظهر قلب» فأجاب: «إذن.. ازدادت النسخ المطبوعة نسخة، ولو أنه فهم الكتاب، لكان أجدى».. فالحفظ اقتفاء وتقليد، والتلقين يجرف القدرة على البحث، ويعطل النهم إلى المعرفة، وحال توقف توق النفس البشرية إلى البحث والمعرفة، تتعطل من فورها، مسيرة التحضر والرقي، وتتخثر دماء الإبداع، في شرايين المجتمع. وعودًا إلى ما قلته بمقال الأمس، حول جمود الإخوان، أفرادًا وجماعة، وتعطل خلايا الإبداع في أدمغتهم، ونزوعهم إلى الخمول والثبات، لا الابتكار والديناميكية، وتأصيلاً لما ارتأيته من أن مصر، تُحكم الآن من قبل، تنظيم متليف إبداعيًا، أفراده فاقدو القدرة على التأثر أو التأثير، يحسبون أن شأنهم، ينصلح بالتعاويذ والأحجبة، وببركة المرشد العام! عودًا وتأصيلاً.. يبدو السؤال «الاستنكاري»: هل أنجب تنظيم الإخوان لنا مبدعين مفكرين؟.. واحدًا من أهم الأسئلة التي تكشف إلى أي حد، يتم مسخ البشر أبناء الجماعة، وتحويلهم إلى ما يشبه عساكر شطرنج.. مجرد قطع يُضحى بها، في لعبة سياسية ميكافيلية بامتياز، أبرز شروطها، أن يتخلى اللاعبون أو بمصطلح أدق، الملعوب بهم، عن ذواتهم الفردية. أليست مفارقة أن تنظيمًا يبلغ من العمر خمسة وثمانين عامًا، لم يقدم لنا مخترعًا واحدًا، ولا شاعرًا واحدًا، ولا فيلسوفًا واحدًا، ولا أديبًا واحدًا، ولا كاتبًا صحفيًا مهمًا، ولا رجل صناعة، أو اقتصاد يشار له بالبنان؟ صحيح أن منهم بضعة علماء دين أجلاء، لكن الحكم على تنظيم، يزعم أن عدد أعضائه يبلغ بضعة ملايين، لا يكون بالاستثناء، وإنما بالقاعدة العامة، والقاعدة إجمالا فقيرة إبداعيًا، ذلك أن البيئة الاجتماعية للجماعة، ليست حاضنة للابتكار، تمقت فكرة التمايز والفردية، فالكل متشابهون، والكل تقليديون، لا فرق بين إخواني وآخر، فكلهم خلف المرشد، فإن سار يمينًا هم وراءه، وإن انتحى ناحية اليسار، كلهم أيضًا وراءه. ثمة خطل واضطراب يتعلق بمفهوم الخلاف في حد ذاته، فالخلاف عندهم معناه الشقاق، والخروج عن السرب، معناه العقوق، والفردية شق صف مذموم، والإخواني الصالح، هو الذي يتقمص الراحل أحمد زكي، في دور «أحمد سبع الليل» عسكري الأمن المركزي، في رائعة عاطف الطيب: البرئ. الخلاف بمعنى تلاقح الرأي، وتقليب الأفكار على مختلف الأوجه، لتخير أصلحها، سؤال من خارج المنهج، فإنما هي أن يقضي المرشد، فيرد الرعية: سمعنا وأطعنا.. ثم يتراجع المرشد، ويسوق لتفسير التراجع مبررات، لا تدخل دماغ طفل صغير، فيؤيده أبناء الجماعة مجددًا، بنفس المستوى من الحرارة، فالذين تأخونوا، لا يسألون عن أشياء إن تبدو لهم تسوءهم، وهذا مكر سياسي، والله أكبر ولله الحمد! يقول المثل الصيني: الحرية هي الاندفاع لإسقاط الجدار.. ويقول ألبير كامي: الحرية فرصة التغيير الوحيدة، فيما يقرر الرئيس الأمريكي الأسبق لينكولن أن الحرية هي أول درجة على سلم الحضارة.. لكن هذه القيم عندهم محض خزعبلات شيطانية، فإسقاط الجدار وفق المثل الصيني، يعني انهيار الحصن الذي يتمترس خلفه دهاقنة مكتب الإرشاد، أما التغيير الذي ينشده كامي، فيؤدي إلى اضطرابات غير مرغوبة.. وأحسب أن لامجالًا للحديث عن الحضارة التي ينشدها لينكولن، فهذه مفردة لم تأتِ في «مشروع النهضة»! الحضارة حرية، والحرية تبدأ بفكرة، والتفكير أساسه الفردية، ومنهج السمع والطاعة، يناصب الفردية العداء.. ثمة من يفكر عنك، ويقرر عنك، ويتخذ القرار عنك، وما عليك إلا أن تكبر، وتهلل، وتسبح، وتحوقل، وتحسبن، وتبسمل، وتتغنى بحكمة القرار، وبصاحب القرار، وهكذا تضمن المن والسلوى، وتحظى بالقربى، وربما تصبح محافظًا أو وزيرًا، فتصبح أخًا كريما، أو «إخوانيًا كريمًا» وابن أخ كريم! أما إذا ضبط مكتب الإرشاد إخوانيًا متلبسًا «بجريمة التفكير»، أو الشروع في استخدام هذا العضو «المهمل»، الذي يقع من جسمه، تحت عظام الجمجمة، فجزاؤه الطرد من جماعة، تكفر الفكر، وتقصي الرأي الآخر، درءًا لانتقال العدوى إلى آخرين، وبعد الطرد تبدأ حملات التشويه ونهش السمعة، حتى يصبح منبوذًا كالمطلي به القارُ أجربُ، على حد تعبير طرفة بن العبد في معلقته. حرق الذي فكروا معنويًا، حلال زلال.. كما تحرق القبائل البدائية في مجاهل القارة السمراء، المارقين عن سلطة السحرة، ومثلما أحرقت أوربا في عصور الظلام، الذين نشدوا الحق لذاته، وابتغوا العقلانية والمنهج العلمي لذاتهما. كيف إذن نتوقع من تنظيم على هذا النحو من الجمود أن يبتكر؟ كيف يستساغ أن جماعة تعادي التفكير تستطيع أن تحتضن مبدعين؟ خروج الإخوان من السراديب وظلمات السجون، ومن ثم سلوكياتهم بعد تصدرهم المشهد السياسي والإعلامي الراهن، تؤكد أن لا خيرًا يرتجى منهم، فتصريحاتهم تكشف عن هشاشة وخواء عقولهم.. وبالإضافة إلى عدم قدرتهم على طرح أنفسهم باعتبارهم «نهضويين» أو ثوريين، وفشلهم الممتاز في كل شأن، هم أيضًا عاجزون، حتى على ممارسة التآمر، وتنفيذ خطط الاستحواذ، أو «الأخونة» سمها ما شئت، إلا بأساليب فجة، تستحث الرغبة الجمعية للناس، في التصدي، وتجعل الجماعة تنزف شعبيتها كل ثانية. الفشل الذريع، والحماقة المريعة معًا، والتشبث بوسائل الفشل، كلها أمور تحفر مقبرة الإخوان، وتؤدي بالضرورة إلى سقوط الجدار، وتجعل تجربتهم في الحكم أمرًا طارئًا، وقصتهم قصة قصيرة.. طالت قليلًا. صحيح.. لكل داء دواء يستطب به، إلا الحماقة -أو الجماعة- أعيت من يداويها. [email protected]