يجلس على ضفة النيل تمثالاً من ضوء، لا يتوقف عن الضحك إلا لينكسر، يوزع نفسه في نفوس كثيرة، وينتشر في كل فن؛ ليعثر على الشعر في اللا شعر، وهو خيط رفيع من ضوء القمر في حقل مفتوح يعج بالقطن والذرة والبؤساء. صلاح جاهين يأكل نفسه وينمو في كل ظاهرة، ينمو لينفجر حبًّا وحياة. هكذا كتب شاعر فلسطين الراحل محمود درويش عن الشاعر والزجال والرسام العبقري المدهش وفارس البسطاء صلاح جاهين الذي نحتفل بذكرى رحيله. بين 25 ديسمبر 1930 و 21 إبريل 1986 عاش جاهين دنياه متنقلاً بين الشوارع والأزقة والحارات، يأخذ منها الكلمات ويحولها إلى سيمفونية رائعة يعزف بها على قلوب البسطاء، كما أنه كان شاعر ثورة يوليو 52، عاش مستعدًّا للمعارك حالمًا بالانتصار، يرسم ملامح مجتمع يعانق حلم الحرية. وبقدر ما تغنى بالحرية، بقدر ما حزن واكتأب بعد نكسة 67؛ لأنه شعر أنه خان الشعب وشارك في الهزيمة. وفي تلك الفترة كتب جاهين "الرباعيات" التي اعتبرها النقاد أروع ما أنجزه فنان معاصر. تحدثنا مع الكاتب الكبير لويس جريس؛ ليرسم لنا بورتريها عن شاعر "القمر والطين" صلاح جاهين.. بدأ حديثه قائلاً "صلاح جاهين من الأوائل الذين أسسوا مجلة صباح الخير، فإذا كان الكاتب الراحل أحمد بهاء الدين قد وضع عنوان القلوب الشابة والعقول المتحررة للمجلة، فإن جاهين كان صاحب الابتسامات بها، حيث كان يضع في كل صفحة ابتسامة برسمة كاريكاتورية مدهشة، بل كان يسعى إلى تحويلها إلى مجلة ساخرة، وعندما كنت مدير تحرير صباح الخير، كان جاهين رئيس تحريرها، بدأت صداقتي معه حين قمت بأروع مغامرة في حياتي وهي زواجي من الفنانة الراحلة سناء جميل، وفي تلك الفترة كنت صحفيًّا مغمورًا، أو بمعني أصح لم أكن شيئًا يذكر بجانبها، والكثير من الناس كانوا يعتقدون أنها متزوجة من لويس عوض؛ لأنه كان في تلك الفترة قامة ثقافية موازية لها، وهنا بدأت أعيش حياة قلقة، وفقدت كثيرًا من وزني ولم أركز في عملي، فأدرك جاهين بحسه الصادق ما أعاني منه وفي صالة التحرير وقف وحضنني بقوة، وقال لي "أنت متزوج أعظم إنسانة في الدنيا". ما قاله جاهين جعلني أزداد ثقة بالخطوة التي أقدمت عليها، وظل مساندًا لي لفترات طويلة حتي استقرت حياتي الأسرية، هكذا كان جاهين شفافًا وحساسًا، وكان مخلصًا لوطنه أحبَّه ودافع عنه وتغنى به في كل أشعاره، بل إنه عاش الحياة اليومية للوطن". وعن علاقة جاهين بالرئيس الراحل جمال عبد الناصر يقول جريس "جاهين كان لديه ارتباط روحي بعبد الناصر؛ لأنه كان يرى أن ناصر سيحقق الانتصار والحرية، وأذكر عندما أعلن تأميم قناة السويس كنا في روز اليوسف ننظر إلى الجماهير المحتشدة عند مجلس الوزراء، فقال لي جاهين "ما تيجي ننزل نهتف مع الناس"، وقفنا وسط الجماهير الفرحة بالتأميم، وبعدها صعد جاهين إلى روزا، وكتب أغنيته "إحنا الشعب إحنا الشعب.. اخترناك من بين الشعب"، ولكن مشاعر الفرحة والتفاؤل التي عاشها جاهين في تلك الفترة تبدلت بعد نكسة 67، وكأن هذه النكسة قد انقضت على روحه، فلم يعد جاهين المرح المتفائل، النابض بالمحبة والحرية، خفيف الدم، بل ظل لفترة طويلة مكتئبًا حزينًا، وفي فترة اكتئابه أبدع الرباعيات التي تطرح الكثير من الأسئلة الوجودية الهامة رغم بساطتها، بل إن كل رباعية يمكن اعتبارها أطروحة فلسفية عميقة، نجد فيها أصداء لفلسفة سارتر الوجودية ولجرأة نيتشه الذي لم تكن فلسفته سوى شعر مكثف". ويختتم جريس حديثه برباعية من رباعيات جاهين: بحر الحياة مليان بغرقى الحياة صرخت خش الموج في حلقي ملاه قارب نجاة.. صرخت قالوا مافيش غير بس هو الحب قارب نجاة وعجبي