تمر اليوم الثلاثاء، الذكرى الخمسون على رحيل "أبو الجامعة" وأستاذ الجيل "أحمد لطفي السيد، وهو رجل من أعرف الناس بخصائص الأساليب سواء في ضروب السياسة أو مناحي الثقافة، يلحظها من يعني بفحصه أو دراسة شئونه، فقد حلق في آفاق الفكر تحليق الجوارح، متقلدًا العديد من المناصب رفيعة المستوى ليكون رجلًا مرموق المكانة لآمادٍ طوال. أحمد لطفي السيد مفكر وفيلسوف، أقدم على شرح آراء "أرسططاليس" ويعد أصدق تمثيل لما تسامى إليه، الرجل الهيوب من التفرد بين رجال عصره، إذ كان قوي الحس عميقه، وصف بأنه رائد من رواد حركة النهضة والتنوير في مصر، فهو أول كاتب عربي تحدث عن الديمقراطية والديماجوجية، ووصفه عباس العقاد "بأنه بحق أفلاطون الأدب العربي"، فقد بدأ جهاده الأدبي في عصر كانت تغلب عليه فورة الأقاويل والأراجيف، التي كانت تشل عزائم الرجل، وكان من يكتب إبانها كمن يمشي على الشوك، ناهيك عنه أنه صار بعد ذلك آية من آيات الحذر والاحتراس، وهو ما أثار جدلًا صخَّابًا حول مواقفه، فقد نُعت بمناصرة التغريب، ومهادنة للاستعمار على حساب الخلافة العثمانية. ولذلك وجب استعراض حياة الرجل وتأمل مواقفه وآرائه . ولد أحمد لطفي السيد بقرية برقين، مركز السنبلاوين التابع لمحافظة الدقهلية، وذلك في 15 يناير 1872 ، وبعد حصوله على ليسانس الحقوق سنة 1894 عمل بالنيابة، وتدرج في مناصبها حتى عُين نائبًا للأحكام بالفيوم سنة 1904، وفي أثناء هذه الفترة اشترك مع صديقه القديم عبد العزيز فهمي الذي التقى به في المدرسة الثانوية بالقاهرة، في تأسيس جمعية سرية باسم جمعية تحرير مصر؛ فلما نمى خبرها إلى الخديوي عباس حلمي سعى إليها عن طريق مصطفى كامل زميل أحمد لطفي السيد في مدرسة الحقوق، وكان الخديوي يسعى للتحرر من قبضة الاحتلال البريطاني وممارسة سلطانه دون قيد منه؛ فتقرب إلى الأمة، عن طريق الاستعانة بشبابها الناهض لتحقيق أهدافه تعرف. وكان من أمر هذا الاتصال أن تم الاتفاق على تأليف حزب وطني بزعامة الخديوي، وعلى سفر أحمد لطفي السيد إلى سويسرا والإقامة بها سنة لاكتساب الجنسية، والعودة إلى مصر لإصدار جريدة تقاوم الاحتلال البريطاني، محتميًا بجنسيته المكتسبة، وقد عقد أول اجتماع للحزب السري الجديد بمنزل محمد فريد برئاسة الخديوي عباس حلمي، وعضوية مصطفى كامل، وأحمد لطفي السيد. وأثناء وجوده في جنيف لدراسة الآداب والفلسفة، زامل في الدراسة الشيخ محمد عبده الذي كان يزور سويسرا في ذلك الوقت،وتآثر بأفكاره . وعاد أحمد لطفي السيد إلى القاهرة دون أن ينجح في الحصول على الجنسية، لرفض الباب العالي العثماني تجنسه بها، وفي الوقت نفسه قدم تقريرًا إلى الخديوي جاء فيه: "إن مصر لا يمكن أن تستقل إلا بجهود أبنائها، وإن المصلحة الوطنية تقضي بأن يرأس سمو الخديوي حركة شاملة للتعليم العام"، وكان هذا هو رأي الشيخ محمد عبده أيضاً.. اشترك أحمد لطفي السيد مع جماعة من أعيان مصر في تأسيس حزب الأمة سنة 1907، وتولى هو سكرتارية الحزب، ورأس صحيفته المعروفة باسم الجريدة، وقد استمرت رئاسته للجريدة سبع سنوات وبضعة أشهر توقفت بعدها تمامًا، حيث كانت سياسة الجريدة هي دعوة إلى أن مصر للمصريين، ومهاجمة الجامعة الإسلامية التي كان يدعو إليها السلطان عبد الحميد الثاني، ويعبر أحمد لطفي السيد عن هذا الاتجاه بقوله: "نريد الوطن المصري والاحتفاظ به، والغيرة عليه كغيرة التركي على وطنه، والإنجليزي على قوميته، لا أن نجعل أنفسنا وبلادنا على المشاع، وسط ما يسمى بالجامعة الإسلامية...". أحمد لطفي كان موقفه من الخلافة العثمانية واضح وصريح وهو رفضها ما جعله ينحاز قليلاً الى الإنجليز حتى أنه ذهب في جريدته" الجريدة" لعمل ملحقًا عن حياة اللورد كرومر المعتمد البريطاني وأعماله في مصر، فأشادت بأعماله المالية والاقتصادية ، وقبل أن يرحل كرومر إلى بلاده أقيم له حفل وداع بالأوبرا ، كان أحمد لطفي السيد في مقدمة المحتفلين به . بعد إغلاق الجريدة عُين أحمد لطفي السيد مديرًا لدار الكتب خلفًا للدكتور "شاده" المدير الألماني، وفيهذه الأثناء، قام لطفي بترجمة بعض أعمال أرسطو منها كتبه : الأخلاق، الكون والفساد، الطبيعة السياسية، أما أسلوبه في الترجمة فكان يتميز بالدقة والسلاسة والوضوح دون التواء في المعني أو ملابسة في الفكرة، فضلاً عن أنه دعا إلى ترجمة الكتب الأخرى، وندب من وثق بهم للاضطلاع بنقل الثقافة الغربية إلى العربية، موقنًا أن النهضات الحقيقية تحتاج إلى أن تقوم على الترجمة التي هي بمثابة التمهيد، بالاحتذاء ثم الخلق والأصالة. . عاد بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى سنة 1918 إلى السياسة مرة أخرى فاستقال من دار الكتب، واشترك مع سعد زغلول وعبد العزيز فهمي وعلي شعراوي وغيرهم في تأليف وفد للمطالبة بالاستقلال، فاشتعلت البلاد بثورة 1919م العارمة التي أضجت مضاجع الاحتلال، وسافر بعدها مع الوفد المصري إلى باريس، لعرض مطالب مصر على مؤتمر السلام المنعقد في فرساي .. عين أحمد لطفي مديرًا للجامعة المصرية بعد أن أصبحت حكومية، وفي عهده اتسعت الجامعة؛ فضمت إليها كلية الهندسة والحقوق والتجارة والزراعة، والطب البيطري وغيرها، كما قبلت الجامعة سنة 1929 أول مجموعة من الفتيات للالتحاق بها دون ضجة أو دعاية لهذا الأمر في الصحف. وكان حريصًا على كرامة الجامعة؛ وحين أُقصي طه حسين عن الجامعة عام 1932 إلى وزارة المعارف، قدم لطفي السيد استقالته احتجاجًا على هذا التدخل، ولم يعد إلى الجامعة إلا بعد أن اشترط أن يعدل قانونها بما لا يدع لوزارة المعارف الحق في نقل أستاذ من الجامعة إلا بعد موافقة مجلسها، وقدم استقالته مرة ثانية عام 1937 احتجاجًا على اقتحام الشرطة للحرم الجامعة. ظل أحمد لطفي السيد مديرًا للجامعة حتى استقال منها في العام 1941 بعد أن اطمأن إلى أوضاعها ورسوخ أقدامها، ثم دعاه أحمد ماهر باشا سنة ، ليكون عضوًا في الهيئة التي كونها لدراسة مقترحات الحلفاء لإنشاء منظمة دولية جديدة تحل محل عصبة الأمم، كما اشترك في وزارة إسماعيل صدقي ، وزيرًا للخارجية وعضوًا في هيئة المفاوضات بين مصر وبريطانيا التي عُرفت بمفاوضات "صدقي-بيفن"، غير أنها فشلت، وخرج لطفي السيد من الوزارة التي كانت قد شكلت برئاسة صدقي لمواجهة المد الشعبي المطالب بالتحرر والاستقلال، ولم يشترك بعد ذلك في أعمال سياسية أخرى.. لم يترك أحمد لطفي السيد مؤلفات كثيرة غير ترجماته ونذكر منها "المنتخبات" في جزأين، و"تأملات"، و"صفحات مطوية من تاريخ الحركة الاستقلالية" بالإضافة إلى مذكراته التي بعنوان "قصة حياتي" لكن كتاباته الصحفية ومواقفة السياسية كانت جميعاً داعية إلى حرية الفكر وحرية الإنسان وحرية الوطن، من خلال توجيه الرأي العام إلى قضايا الاستقلال والدستور، وسلطة الأمة، والحياة النيابية السليمة، والتعليم الجامعي. توفي أحمد لطفي السيد عن عمر تجاوز التسعين، ظل خلالها موفور النشاط متوقد الذهن حتى لقي ربه في 1963 ، بعد حياة أهلته أن يدخل التاريخ من باب التأثير على مسيرة أجيال زاملته بأفكاره الإصلاحية، وإن كان بعضها محل تحفظ ومراجعة عند بعض معاصرة وما تلتها من أجيال Comment *