فى 5 مارس الحالى تمر خمسون عاما على رحيل أحمد لطفى السيد، والذى ملأ الدنيا وشغل الناس كثيرا، أثناء حياته وبعد انقضاء هذه الحياة التى بدأت فى 15 يناير عام 1872، وانتهت فى 5 مارس 1963، ونعاه كتاب ومفكرون وساسة من طراز الدكتور طه حسين وعباس العقاد وعبدالرحمن بدوى وأحمد فؤاد الأهوانى ومحمد زكى عبدالقادر وغيرهم، وكتب فيه الشعراء أحمد رامى وعزيز أباظة وروحية القلينى وغيرهم، ولم تقتصر حياة لطفى السيد على مناصبه المرموقة والمتعاقبة من مدير لدار الكتب إلى مدير للجامعة إلى وزير فى وزارتين فى العهد الملكى، بل تجاوز ذلك إلى جهوده فى الصحافة والكتابة الفكرية والترجمة، وكانت حياته ومواقفه وكتاباته وترجماته محل جدل دائم بين محبيه الذين نعتوه بصفات كبيرة مثل «أستاذ الجيل» و«أبوالجامعة»، وكتب بهى الدين بركات باشا مقالا فى يناير 1951 من مجلة الهلال عنوانه «أبو الجامعة» جاء فيه: «لقد كان من حسن حظ الجامعة أن كان مديرها الأول رجلا أشبع روح الحرية بكل ما يحمل هذا اللفظ من معنى، فهو على سعة اطلاعه بل لسعة اطلاعه، يأخذ كل رأى، مهما كان مخالفا لرأيه أو عقيدته ليبحثه ويرد عليه من ناحية العقل والمصلحة، وهو يؤمن أبدا بوجوب الدراسة والتعمق فى كل بحث»، وبين من انتقدوه وهاجموه واختلفوا معه مثل فتحى رضوان رئيس الحزب الوطنى الجديد «القديم»، والذى كتب فصلا طويلا عنه فى كتابه «عصر ورجال» جرده من معظم الصفات الإيجابية التى منحها لها محبوه، وكذلك كتب رجاء النقاش عنه فصلا هاجمه بشدة، لكن فتحى رضوان تتبع حياة لطفى السيد وترصد لكل كلمة كتبها ولكل موقف إيجابى اتخذه ونعته بالسلبية، حتى موقف استقالته من الجامعة عام 1937 عند استبعاد الدكتور طه حسين منها، وصفه رضوان بأن لطفى السيد اضطر اضطرار لاتخاذ هذا الموقف تحت إلحاح الطلاب الذين اقتحموا مكتبه وأجبروه على الاستقالة، وكذلك ترجمته لأرسطو لم تنل تقديرا عند فتحى رضوان، وللحق أعترف بأننى كنت من الذين شايعوا فتحى رضوان وبعض رفاقه فيما ذهب إليه، لكن مع استرجاع ودراسة تاريخ وجهود لطفى السيد سنجد أن هناك ظلما واضحا لسيرة الرجل، وهذا الظلم جاء من الخلافات السياسية الحادة والتى ظلت ترافق هؤلاء المتخاصمين حتى نهاية العمر. ولكن لطفى السيد الذى نشأفى أسرة ميسورة جدا، وتربى فى مناخ يميل إلى الاعتدال، انحاز بحكم موقعه الطبقى والاجتماعى إلى معاداة الخلافة العثمانية فى ذلك الوقت، وأنشأ جريدة «الجريدة» التى صدر عددها الأول فى 9 مارس 1907 وكتب فى هذا العدد أنها «صحيفة مصرية شعارها الاعتدال الصريح»، وزاد الأمر تعقيدا ووضوحا أن هذه الجريدة لم تنشأ لكى تعادى السلطة بأى شكل من الأشكال، وهو الوحيد الذى شارك فى توديع اللورد كرومر عام 1907، لكننا كذلك لن ننسى أنه وجه لوما شديد وانتقادا حادا له فى كثير من مقاصده السياسية والاجتماعية، وربما تكون عداوة لطفى السيد لمشروع الخلافة، جعله ينحاز للإنجليز بشكل مستفزّ، وتجلى ذلك عندما هاجمت الإمبراطورية الإيطالية طرابلس ليبيا، وكانت مستعمرة تركية، فخالف الجميع وناصر الإنجليز ضد الأتراك، مما جر عليه وابلا من الهجوم الضارى، كذلك اشتراكه فى وزارة محمد محمود باشا عام 1928، هذه الوزارة التى عطلت دستور 1923 قبل أن يلغيه إسماعيل صدقى فى وزارة عام 1930، ثم اشتراكه فى وزارة محمد محمود مرة أخرى عام 1937، كل هذه المواقف كانت سببا مباشرا ليكون لطفى السيد هدفا سمينا لسهام حزب الوفد الحادة ولسيوف الحزب الوطنى الموجعة.
ولكن سيبقى للطفى السيد بعيدا عن كل هذه المواقف السياسية دوره العظيم فى دعوته الرائدة والتى نادى فيها لكى تكون «مصر للمصريين»، وكتب فى ذلك كثيرا، وكان حزب الأمة الذى أنشأه بعد صدور جريدته إحدى ركائز هذه الدعوة بقوة، وكانت مقالات لطفى السيد ادعو لذلك، وكذلك إلحاحه على إنشاء الجامعة المصرية قبل أن تسمى بجامعة فؤاد، وأصبح أول مدير لها، وتصديه لترجمة أرسطو وأفلاطون لم تكن عبثية، رغم عدم دراسته للفلسفة، لكنه آل على نفسه الدراسة والترجمة الوسيطة، أى أنه نقل كتب أرسطو عن اللغة الفرنسية، وكان يحسد طه حسين الذى يعرف اللاتينية ونقل «نظام الاثينيين»، وهنا نجد الدكتور عبدالرحمن بدوى يثنى بشكل ملحوظ على هذه الترجمة الكاملة الشاملة، إذ إن دقة لطفى السيد أنقذته من الاستطراد الذى وقع فيه المترجم الفرنسى بارتلمى، والذى تشبه حياته حياة لطفى السيد، والجدير بالذكر أن لطفى السيد كان شديد الاهتمام باللغة ودقتها، وكان يكره التزيد والاستطرادات والكلام الإنشائى، وفى تقريظ كتبه عن كتاب «النظرات» للمنفلوطى يقول: «من أشياخ البيان عندنا السيد لطفى المنفلوطى، أكاد لا أجد له فى طريقته مثيلا بين كتابنا، فإنه يمتاز بالمساواة، وقل من يعرف المساواة، يمتاز باستعمال ألفاظ الخصوص فلا يلبس معنى الألفاظ الذى لا يكاد يشاركه فيها معنى آخر»، وكانت خلافاته عندما ترأس «مجمع اللغة العربية» حادة وشديدة، لكنها فى إطار أخلاقى وعادل، وحواراته مع رفيق عمره عبدالعزيز فهمى مشهورة، ووصلت ذروتها عندما كان فهمى يدعو إلى كتابة العربية بالحروف اللاتينية، وكانت دقة لطفى السيد فى اللغة تشمل المعانى والألفاظ والأفكار، ومن الطريف فى حياته، عندما تكون حزب الأحرار الدستوريين، اعترض على التسمية، وقال: «من المفترض أن نسميه الحريين الدستوريين» لذلك كان أصدقاؤه وزملاؤه يداعبونه فى الذهاب وفى الإياب بقولهم: «أهلا بالحرى، سلاما على الحرى، ذهب الحرى، جاء الحرى»، ولم تكن هذه الدعابة مرتبطة بدقته اللغوية فقط، بل كانت مرتبطة بدعوته الشاملة للحريات السياسية والاجتماعية والفكرية، مع اعتبار الأبعاد القومية والدينية والإنسانية عموما، ولأعدائه الذين طعنوا فى نزوعه الدينى عليهم أن يقرأوا ما كتبه الشيخ الدكتور أحمد الشرباصى عنه، وكذلك ما كتبه صديقه مصطفى صادق الرافعى.
وكان أحمد لطفى السيد أول من دعى ليكون للمرأة مكان فى الجامعة، وكان رفيقا لقاسم أمين، وكذلك لا يتصور البعض أن هذا الرجل الذى يدير جامعة، ويترجم أرسطو، ويقف وزيرا للمعارف مرة وللدولة مرة أخرى، أن يكون عاشقا، ولكن صداقته وعلاقته وولعه بالآنسة مى، ورسائله إليها تدل على رقته الشديدة وعذوبته المطلقة، وهو الذى نصحها بقراءة القرآن لكى تتعلم اللغة العربية جيدا، وأهدى لها نسخة منه، ويكتب لها قائلا: «أذكرك فى كل وقت، ولا أجرأ أن أكتب إليك إلا فى ميعاد الزيارة، لكى لا أضطرك مكرهة بتقاليد الأدب أن تردى على بالكتابة كلما كتبت إليك».
لطفى السيد الذى خاض فى كثير من شئون الفكر والحياة السياسية يحتاج منا أن نحتفل به كقيمة عظمى أثارت جدلا كبيرا على مدى تاريخه المديد، هذا التاريخ الذى تداخل وتعاظم، ونحتاج إلى كتابة هذا التاريخ وتأمله بعيدا عمن شوهوا سيرته، وهم يظنون أنهم منصفون له، وعلى رأسهم طاهر الطناحى ناشر سيرته فى دار الهلال عام 1962، وحذف منها ما اعتقد أنه يلحق به أذى ما، فاضطر إلى التشويه الذى أخلّ بصدق السيرة.
وأخيرا.. أحمد لطفى السيد.. ما أحوجنا إلى تأمل سيرتك واستعادة إشراقها فى هذه الأيام الحالكة.