9 يناير 2013 .. لم ينقِض عليه سوى بضعة أيام .. هو تاريخ يوافي الناس مع مطلع كل عام ميلادي. ولكنه يستحق اهتماماً خاصاً ربما يصل – في تصورنا – إلى حد إشادة التمجيد والاحتفال .. الخاص أيضا. هو بكل اعتزاز تاريخ وضع حجر الأساس لتشييد مشروع القرن بامتياز موضوعي وهو مشروع السد العالي في أسوان. * في 9 يناير/كانون الثاني من عام 1960 ارتدت أسوان "هدوم العيد" كما قد نقول. كم عاشت الحاضرة الجنوبية الأصيلة السمراء عقوداً وأياماً حافلة بمرارة العتاب: كانوا يعدونها منفى لمن يحق عليهم غضبات السلطة الحاكمة .. ربما منذ أيام محمد علي الكبير .. وربما منذ عصور سطوة المماليك المجلوبين إلى مصر من وسط آسيا أو من أيام احتلال مصر على يد الأتراك العثمانيين.. هنالك لم يشفع لأسوان أن أنجبت للثقافة العربية المعاصرة ابنها الفارع الفالح عباس محمود العقاد عليه ألف رحمة ونور. والعقاد هو الذي وصَفَ أسوان في قصيدة أبدعها وقال في مطلعها: ** بلدة الشمس والجمال كيف لا تنجب الرجال؟ وكان في ذلك بداية إنصاف .. شعري على الأقل لأسوان التي يحفّها النيل شاسعا .. عفيا وشامخا. أما الإنصاف .. الموضوعي .. والتنموي .. العمراني هذه المرة. فكان على يد فتى صعيدي اسمه جمال عبد الناصر. وقتها كان أمامه ستة أيام ليس إلا حتى يكمل الثانية والأربعين .. يومها امتدت أنامله ليضغط على آلية تفجير الصخور الجرانيتية السرمدية إيذانا ببدء العمل – نعم العمل في مشروع السد العالي. تشابكت يده مع أيادي زعيم من المشرق العربي هو الرئيس السوري الأسبق شكري القوتلي، وزعيم آخر من أقصى المغرب العربي هو الملك محمد الخامس عاهل المغرب في ذلك الزمان. ولن نطيل عليك التوقف مليا عند هذه اللمحات المضيئات من تاريخ شعبنا وأمتنا. حسبنا أن نقول أن "القوتلي" كان يحمل يومها لقب "المواطن العربي الأول" باعتبار أنه تنازل بطواعية أخلاقية ومناقبية سياسية عن موقع رئيس الجمهورية السورية لصالح قيام أول وأهم – وربما آخر تجربة وحدوية حقيقية على مستوى العالم العربي، حملت يومها اسم "الجمهورية العربية المتحدة" بإقليمها الشمالي (سورية) والجنوبي (مصر) فيما عقدت ألوية زعامتها إلى جمال عبد الناصر. الملك محمد الخامس كان رمزا لكفاح بلاده – في المغرب الأقصى من أجل التحرر والاستقلال عن هيمنة الاستعمار الفرنسي.. وليس صدفة أن تكون قضية إعادة "محمد الخامس" من حيث نفاه المستعمر الفرنسي مع مطالع عقد الخمسينات إلى جزيرة مدغشقر – هي أولى المعارك السياسية – الإعلامية التي خاضتها إذاعة صوت العرب بكل شقاوتها ومشاغبتها وعنفوانها منذ أن سمع العالم "صوت العرب" وللمرة الأولى في يوم الرابع من يوليه عام 1953. ولا كان صدفة أيضا أن تأتي لحظة الإشارة الأولى لبناء السد العالي .. بمثابة "تتويج"، نعم تتويج لسنوات من كفاح الشعب المصري مسنودا بطلائع النضال القومي العربي .. وفي مواجهة الاستعمار البريطاني والتواطؤ الإسرائيلي الصهيوني والتآمر الفرنسي. وقد بلغ هذا كله ذروته المسلحة في عدوان 1956 فضلا عن التعّنت الأمريكي الذي حال بين مصر – عبد الناصر وبين الحصول على قرض دولي كان لازما لتمويل المشروع الهيدروليكي الجامع بين عنصري الطموح الهندسي والحلم الوطني. كانت تلك – وبحق موضوعي – ضفيرة متشابكة أو حزمة متكاملة من أشواق الحرية وطموحات التقدم واندفاعات التنمية .. وبحيث يعمل النضال الوطني على ترجمتها إلى فعل حقيقي وجسور على أرض الواقع. * وكانت أسوان هي بحق أرض الواقع. وربما لم تكن أسوان لتعلم أن السد العالي الذي ما برحت تحتضنه بحنان تاريخي واعتزاز حقيقي كان فكره، مجرد فكرة أو كان على نحو ما عبر عنه الشاعر الراحل عزيز أباظة: ** كان حلماً .. فخاطراً .. فاحتمالاً ثم أضحى حقيقة لا خيالاً هذا الحلم ظل يراود وجدان مهندس يوناني عاش في مصر .. فاطمأن إليها .. واطمأنت إليه .. وظل خلال سنوات حياته في الإسكندرية الجميلة .. يحلم بإقامة "سد" على نهر النيل الأسواني، ويحجز مياه الفيضان ويحافظ على تخزينها لأوقات الشحة، أو فلنقل لمواجهة السنوات العجاف كما يصلح لإنارة أصقاع الصعيد وما يجاوزها بأضواء الكهرباء. قال الراوي: * ولقد حفيت قدما المهندس الإغريقي المتمصر دانينوس في لقاءات مع العديد من وزراء مصر ومسئوليها قبل ثورة 52، إلى أن قيض له أن يطرح مخططا مبدئيا لمشروعه الطموح أمام المسئولين في "مجلس الإنتاج" الذي تم إنشاؤه بعد 23 يوليه 1952. قال الراوي: * وكان من حظ كاتب هذه السطور إن كان يعمل مذيعا – شابا بالطبع – في صوت العرب – عند منتصف الستينات .. ولأمر ما كان المذيع الفتى شغوفا بحكاية السد العالي وما اقتضاه من تحويل مجرى النيل وإنشاء الأنفاق العملاقة التي ما برحت الذاكرة تتمثلها وكأنها خلية عمل سوبر بشرية ومنتفضة بكل ما تعنيه هذه الذاكرة من صور الجهد الإنساني الذي لم يقصر في بذله إتقانا وشرفا أفواج وطلائع من أبناء المحروسة .. صعايدة وبحاروة .. شماليون وجنوبيون .. مسيحيون ومسلمون .. مهندسون وصنايعية .. ومعهم أيضا ضيوف أصدقاء من المهندسين والخبراء ممن جاءوا وقتها من روسيا السوفيتية ليشاركوا في إنجاز الصرح الإنمائي العظيم. من هنا استطاع المذيع الشاب أن يسجل حوارا إذاعيا – تاريخيا بكل تواضع – مع المهندس دانينوس، وكأنما كان يسجل بدايات ملحمة السد العالي. وكان على رأس هذه الملحمة من الجهد الإنساني الحافل منظومة "المقاولون العرب" وقد اصطنع العاملون بها لافتة كانت تتغير كل صباح لترصد الإنجاز اليومي للعاملين في السد العالي .. وتخصم من روزنامة الأيام المفروض أن يستغرقها إنجاز هذا المشروع الشامخ، يوما واحدا انقضى على هذا الإنجاز .. كي تسجل ما ترصده من أيام السنوات الباقيات. وكانت اللافتة المتغيرة تقول باستمرار ما يلي: - يا بناة السد: باق من الزمن "..." يوما. ويومها أيضا لم يكن بوسع أحد أن يميز خلال ملحمة العمل بين مهندس وعامل .. ولا بين مدير أو غفير .. بل كان يقود هذه الملحمة رجال من أنبل الخبرات الهندسية في مصر، وهم لا يزالون يستحقون كل تكريم، يستوي من بينهم مَنْ لا يزالون يعيشون بين ظهرانينا ولهم طول العمر، أو من سبقوا بأمر الله سبحانه إلى عالم الخلود. كان على رأسهم رجل يستحق اسمه من الوطن كل تكريم وتشريف: * صدقي سليمان .. وما أدراك. ضابط مهندس .. كان رئيسا للوزراء – وأسندت إليه مهمة وزير السد العالي .. مزودا بكل سلطات رئيس الجمهورية .. وما أدراك أيضا. أقام في أسوان .. في درجة حرارة تفوق الخمسين لا تكاد تلمحه إلا وقد اعتمر خوذة العمل وسط الآلاف من أكرم أبناء هذا الوطن العظيم. ولقد تجلت كل هذه المآثر العلمية .. الوطنية والأخلاقية في يوم من أيام يوليه عام 1970 يوم أن تلا جمال عبد الناصر على أعضاء البرلمان رسالة بسيطة العبارات .. شامخة الدلالات يقول فيها وزير السد العالي .. إنه ليسره، ويشرفه أن يُبلغ الشعب وزعيمه بأن سد أسوان العالي قد تم بحمد الله تشييده، وبمعنى أن السد الذي ضحّى الشعب من أجله، شظفا وتضحية وتقشفا ومعاناة، قد أصبح جاهزا للمشاركة في خوض معركة التنمية واستكمال صرح العدالة الاجتماعية التي كان بسطاء مصر وفقراؤها وعموم مواطنيها قد تذوقوا ما جادت به من بواكير الثمرات. 9 يناير 1959 انطلاقة الشرارة الأولى في السد العالي.. قد لا يعلم شباب الجيل الجسور من قيادات ثورة 25 يناير كم ضحت أجيال سبقت من الآباء وربما الأجداد كي يحقق شعبنا هذا الإنجاز - قلنا هنبني .. وادي احنا بنينا السد العالي. هذا ما أنجزه جيل الستينات. وما أدراك على نحو ما باتت تتشدق به مقولات العجز عن أي إنجاز. ربما لأن أصحاب هذه المقولات لا يزالون يطوون صدورهم على حقد عاجز وبغض دفين على الرجل الذي ارتبط اسمه بهذا الإنجاز التاريخي. نقصد بالطبع جمال عبد الناصر. كم من فقراء الوطن العربي مشرقا ومغربا يحتفلون بالذكرى الخامسة والتسعين لمولده، في 15 يناير. رحل الرجل إلى جوار مولاه منذ 42 عاماً يحاول المرجفون النْيل من سيرته وإنجازاته وقد كان قبل كل شيء عبدا من عباد الرحمن: إنسانا يصيب ويخطئ في كل حال. ومن أهل البغضاء مَنْ يتصور أن الأراجيف الإعلامية الحمقاء يمكن أن تنال من سيرة الرجل .. تشويها أو نسيانا على الأقل. لكن ما قول سيادتك في أن نقرأ ونحن في تغريبتنا الحالية خارج الوطن سطورا من أحدث كتاب علمي صادر باسم مثقف ومؤرخ جهير في قامة البروفيسور "توني جوديت" أستاذ علم السياسة والتاريخ بجامعات أكسفورد وكامبردج وهارفارد ونيويورك. وعلى صفحات عديدة من الفصل. من هذا الكتاب الصادر بعنوان "تاريخ أوروبا منذ عام 1945" يقول "توني جوديت": - كان جمال عبد الناصر (منذ عام 1954) قد أصبح يضطلع بدور رئيسي في حركة استقلال دول آسيا وأفريقيا الحديثة الإنشاء .. وكان زعيماً كارزمياً وكان يشكّل منارة يستهدي بها التقدميون العرب عبر المنطقة العربية بأسرها..." ** فلا نامت أعين رحيبة السياسة من صغار الحاقدين. Comment *