ابتسمت "بسمة"، ربما لمجاملة مُحدّثَتِها على الهاتف.. لكنني لم أبتسم! ابتسمت "بسمة" ابنة صديقي أحمد سيد حسن نائب رئيس تحرير "الأهالي"، في برنامج "بتوقيت القاهرة"، عندما قالت لها الدكتورة عزة كمال منسقة حملة فؤادة ووتش، تشجعها وتؤازرها: "إحنا كلنا معاكي يا بسمة". ابتسمت "بسمة"، لكنني لم أبتسم، لأن التحرش الذي تعرضت له بسمة، أكثر من مرة، والذي يتكرر يوميا مع آلاف الفتيات والسيدات، في أكثر شوارع مصر، لا تعالجه كلمة طيبة، مهما حسنت النوايا، وهو لن ينتهي، ولن يختفي، بل لن يتقلص ما دامت دائرة العنف تتسع، ومادام انتهاك كرامة "المواطن" المصري ذكرا أو أنثى وانتقاص آدميته، والاستهانة بحقوقه وحرياته الأساسية، عنوانا للمجتمع المصري، في أعقاب ثورة أسقطت نظاما من أعتى أنظمة الفساد والاستبداد في المنطقة. كانت بسمة تعلق على "واقعة" التحرش التي تعرضت لها، في ميدان طلعت حرب، مساء الخميس 23 أغسطس، لكنَّ التحرش ليس جديدا، فالمصريات فتيات وسيدات وصبياتٍ وأطفالا أيضا يتعرضن له بشكل يومي، وربما كان عنوانا "ثابتا" في دفتر أحوال المجتمع المصري، منذ حادثة اغتصاب فتاة المعادي في أوائل الثمانينيات، ثم انتهاك كرامة "فتاة العتبة" أمام عيون الناس في مطلع التسعينيات من القرن الماضي، وظل التحرشَ عنوانا "طارئا" يروح ويجئ، مع اختلاف في الشكل، والحدة، وليس في الانتشار، على نحو واسع كما حدث في الأعوام القليلة الماضية. ترى تقارير صحفية "عالمية" أن مصر من أسوأ دول العالم في نسبة التحرش الجنسي بالنساء، في الشوارع والاماكن العامة. وذكرت صحيفة "واشنطن بوست" ان مصر تأتي في المرتبة الثانية بعد أفغانستان، فيما يتعلق بانتشار التحرش الجنسي، فيما تؤكد أرقام وإحصائيات صدرت عن المركز المصري لحقوق المرأة أن 98% من النساء الأجنبيات و83% من المصريات تعرضن للتحرش الجنسي في 2008، فيما تؤكد التقارير أن الولاياتالمتحدة وبريطانيا لا تتوقفان باستمرار عن تحذير النساء المسافرات إلى مصر من احتمال تعرضهن لاعتداءات جنسية ونظرات غير مرغوب فيها. وفيما يحاول البعض أن يرجع "الظاهرة" إلى ملابس النساء، فإن الأرقام تشير إلى أن المحجبات يمثلن 72% من الفتيات والسيدات اللاتي يتعرضن للتحرش بكافة أشكاله وصوره. الغريب أن التقرير الذي صدر عن استطلاع المركز المصري لحقوق المرأة، حول التحرش، تضمن اعترافا لنحو 62% من الرجال المصريين بأنهم يتحرشون بالنساء، إلا أن الخطير فيما يتضمنه الكثير من التحقيقات الصحفية، والبرامج التلفزيونية هو ما تفاجئنا به أعداد كبيرة من الرجال والشباب أيضا عندما يلقون باللوم علي الفتاة أو المرأة التي تتعرض للتحرش الجنسي، إذ يرجعون ذلك إلى "ملابس المرأة"، ويقولون: إنها طريقة لبسها! أما أكثر التقارير والاستطلاعات بما فيها تقارير صادرة عن مراكز بحثية وعلمية فتؤكد أن المتحرشين لا يفرقون بين "المحجبات" و"غيرهن"، بل إن الأرقام المتواترة في هذا الإطار تشير إلى تزايد أعداد المحجبات اللاتي يتعرضن للتحرش على عدد السافرات، أو اللاتي يرتدين الملابس الغربية، كالجينز على سبيل المثال، الأمر الذي ينفي ارتباط التحرش بنوع الملابس التي ترتديها الفتاة أو المرأة، كما ينفي ارتباطه بطريقة اللبس. تطرح مسألة علاقة الملابس بانتشار الظاهرة مقارنة ضرورية بما كان عليه المجتمع المصري من "احترام" للمرأة في ستينيات القرن الماضي، حيث كانت تتمتع بمكانة اجتماعية أرفع، وبقيمة اجتماعية أهم، وعلى الرغم من انتشار أزياء وملابس كالميني جيب والميكرو جيب، بل وشاهدنا زميلاتنا في كلية آداب القاهرة في مطلع السبعينيات يرتدين ما يسمّىَ ب "الشورت الساخن"، من دون أن يفكر أحد الطلاب في زميلته على نحو مسيء، أو ترد على خاطره فكرة "مريضة"، ولم نشاهد أو نسمع أو نقرأ عن حالة تحرش "واحدة" في تلك الفترة! الآن، يشير العديد من التقارير الصادرة عن جهات رسمية وحكومية ومنظمات أهلية إلى اتساع وتزايد حالات التحرش ليس بالفتيات أو النساء فحسب، بل ب "تلميذات" المدارس الإعدادية على نحو ملحوظ خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة الماضية، الأمر الذي ينفي ارتباط الظاهرة بعمر الفتاة أو المرأة، ونستطيع أن نتبين ذلك، بل وأن نتفهمه على نحو أفضل، من خلال صفحات "الحوادث" التي تتضمن الكثير من حالات التحرش ببنات في سن الطفولة، سواء من محارمهن أو من جيرانهن. ليس من شك في أن هناك عوامل رئيسية تسهم في تنامي الظاهرة، منها: تدهور الأوضاع الاقتصادية لغالبية المصريين، والتزايد المستمر في نسبة البطالة خصوصا بين الشباب والمتعلمين، وارتفاع مستويات التضخم، وتفاقم أزمة الإسكان مع تزايد أسعار الشقق، إضافة إلى فقدان أعداد كبيرة من الشباب لأي أمل في المستقبل الذي بدا ذات صباح من فبراير 2011، وكأنهم يمسكون خيوط فجره بين أيديهم، فإذا بكثيرين منهم يرونه حلما يتبدد، مع استئثار فصيل واحد بالسلطة. إن تزايد موجات التحرش الجنسي، وتصاعدها حِدّةً، واتساعها أفقيا في مختلف أنحاء مصر، لن يتوقف، خصوصا مع انتشار العنف السياسي، و"البلطجة" التي أصبح واضحا أنها صارت نهجا للفصيل الظاهر "سياسيا" حتى الآن، منذ اعتداء "بلطجية" الإخوان على حمدي الفخراني، قبل شهرين، إلى ظهور ميليشيات الإخوان "بحجة الدفاع عن مقارهم"، وظهور البلطجية يوم الجمعة 24 أغسطس 2012 بالسنج والمقاريط والمطاوي، بأعداد أكثر من أعداد المتظاهرين فيما سُمّيَ "جمعة إسقاط الإخوان" خاصة في الإسكندريةوالقاهرة. لا ينبغي أن ننظر إلى التحرش بمعزل عن رؤيتنا للعنف السياسي الذي ستشتد حدته في الأيام والشهور القادمة، ذلك أن التحرش والبلطجة وجهان لعملة واحدة، الأول يهدف إلى "إخضاع" المرأة وأعداؤها يعرفون تأثيرها، والثاني يهدف إلى "تخويف" مختلف الفصائل السياسية، وإرهابها، وهما التحرش والعنف يصبان في فرض ديكتاتورية الرأي الواحد والوحيد على المصريين! Comment *