هو يعرف حجم الكراهية المقترنة باسمه وسيرته، فيأتي إلينا في الخفاء مُضطراً، متسللاً في سكون، متحصناً بقوي أعظم، لينقض على فريسته في غفلة، فيُجهز عليها في لحظات، وينتهي كل شيء بلا ضجيج، ثم سرعان ما يرحل بشكل مؤقت تاركاً بصماته علي المشهد، وقد أغرق الجميع في حالة نحيب وخوف وحيرة من ذلك المصير المجهول. في وجوده، تصبح الدنيا في أعين الجميع كأنها ذنبا يستغفرونه، رغم أنها كانت قبل لحظات من نبأ الموت، مُقدسة يشتهون كل تفاصيلها، ويتمسكون بها لآخر فرصة، حتى لو جاءت الفرصة بالقتال والدم. رغم قسوته ومرارته، ليس كل الموت ألما كما نظن، فالبعض منه يكون سارا لصاحبه، يأتي إليه حاملاً رسالة الخلود، وليس كل الموت فزعا، فالبعض منه ودودا يأتي لأصحابه بالطريقة التي يحبونها، وبالشكل الذي يليق بما تركوه من حضور. ما تختاره طيلة حياتك، وما تفعله، وما تسلكه من طرق، وما تحرص عليه كمبدأ، يظل باقياً لا يرحل معك، وكل شيء كان يخصك في حياتك لم يعد ملكك بعد موتك، وإنما ملكا لآخرين قد تعرفهم أو لا تعرفهم، فالموت يسلبك روحك وأنفاسك وأحلامك، لكنه لا يستطيع انتزاع سيرتك التي تدوم من بعدك، فتتواتر وتتنقل من عهد إلي عهد، حتي تصير صوتا يتحدث في غيابك، ويرد غيبتك بعد الرحيل. كل شيء قابل لأن يبدو زائفا بعض الوقت، وقابل لأن يتغير أو يتلون مثل باقي الأشياء، باستثناء حقيقة واحدة مستقرة عليها اتفاق من الجميع، فلا مجاملة بعد الموت، ولا حاجة بعد لارتداء الأقنعة، فكل شيء ثمين يسقط تحت الأقدام، وما عاد هناك نفعا للجاه والسلطان والمهابة والقوة، فأي موت هذا الذي سيتلعثم أو يرتعش خوفاً من جاهك وسلطانك؟. بعد موتك، لا أحد سيخشاك أو ينافقك أو يضطر لمسايرتك كُرها أو تزلفا، فلا شيء سيبقى منك إلا ذكرى ونفحات، لذا احرص حين تصنع حياتك أن تُحسن اختيار الطريق الممتد بك إلى ما بعد النهايات، فربما لا تستطيع اختيار لحظة الموت وتحديد موعدها، لكن بإمكانك أن تختار البقاء حياً بعد الممات، أو تُفنى بلا أثر. يقول الشاعر صلاح عبدالصبور: "لا يخشى الموت سوى الموتى"، فالأحياء ممن اختاروا أن يعيشوا لأنفسهم فقط، عارضين عن حياة التسامح والمشاركة والعمل والعلم والإخلاص، هم وحدهم الموتى رغم كونهم على قيد الحياة، وهم من ينتابهم الذعر خشية الفناء بعد الغياب، فما تركوه من رصيد أنانية وجهل وكذب كاف لانقطاع دابر وجودهم بعد الموت. وهناك آخرون لا يغيبون أبداً، فهم موجودون بما أعطوه من أمل وبهجة، وباقون بما تركوه من ميراث محبة واُلفة وصدق، فليس كل الموت فناء، القليل منهم يظل مُخلداً لا يتأثر حضوره بموت الجسد، حتي وإن طالت سنوات الغياب، أما هؤلاء الذين يتنازعون الظلم طمعا في البقاء، فتسقط اسماءهم من الذاكرة في ذات وقت الرحيل، وقبل أن يغادر "ملاك الموت" مكان عمله. في هذا الموت عبرة، وفي هذا الموت انتقام، وفي هذا الموت رحمة أو شرف، وفي هذا الموت حكمة مخفية.. هو جزء مما نسوقه لتفسير النهايات، فالبعض منا يظل مشغولاً بوضع تصنيفات للموت، والبحث له عن تبريرات، حتى يبدو كأنهم يفهمونه أكثر من أي شيء، ويعرفون متي سيجييء، ومن سيختار، ولماذا يأتي في هذا الموعد بالذات؟.. لكنهم لا يدركون أن الموتي أيضا، يجوز تصنيفهم، فهناك من رحلوا للأبد، بأجسادهم وأرواحهم ونفحاتهم وسيرتهم، وهناك موتى باقون للأبد، ستظل نسائمهم كالعطر رغم الرحيل، فالموت واحد لكن تفسيراتنا له تختلف بقدر اختلافنا في إدراكه، وهو ما يلخصه الأديب الروسي "ليو تولستوي" في مقولته البليغة: "الشخص الذي لديه فكرة خاطئة عن الحياة، ستكون لديه دوماً فكرة خاطئة عن الموت". في النهاية، لا يجب أن ننشغل بطرح تلك الأسئلة الساذجة عن شكل الرحيل أو متى حدث وفي أي سن؟.. الأهم أن نُدرك أن الحياة الخالية إلا من الأنانية، هي حياة من أجل اللاشيء، سرعان ما يُدركها النسيان، أما من عاش حياته بصدق وعطاء، ووهبها لنفسه وغيره علي السواء، فهو حتماً من سيفوز بالبقاء بعد الممات، فالموت واحد ولكن الموتى ألوان. ما بعد النهاية.. "أهدي تلك الكلمات إلي روح الكاتب أحمد خالد توفيق، الذي أعاد رحيله الصاخب بالكثير من المحبة، الطمأنينة والثقة لمن ظنوا أن الصدق أصبح بلا ثمن حقيقي، فكان هو المُلهم للبعض في حياته، وصاحب إلهام أكبر لآخرين رغم الغياب".