تنظر الفلسفة إلى الموت على أنه جزء من الهوية الإنسانية الملازمة لوجودها منذ الميلاد . فالموت و الحياة نقيضان يمثلان الوجود و العدم ، وقد وُجِدا جنباً إلى جنب في دورة متواصلة ووجود غير منفصل، و يأتي الموت عندما يفارق الوجود (حالة الإمكان إلى حالة الاستحالة ، فيحل الموت (العدم) محل الوجود العيني (الدازاين) كما تسميه الوجودية ). و ليس الموت في الفلسفة تتويجاً لاعتزال اللاعبين ملاعب الحياة ؛ لأن الموت لا يختص فقط بكبار السن أو المرضى ، بل إنه لا يميز بين كبير و صغير أو بين صحيح وعليل ، فهو الحاضر الحي في كل وقت. و هو تجربة ذاتية لا يعانيها إلا صاحبها ، و لن يفهمها غيره ، وإن مات العالم كله أمامه. أما التصور الإسلامي للموت سواء في التمثلات الروحانية الصوفية أو الأصوليات السلفية على حد سواء فإنه ليس النهاية للوجود الإنساني ، و إنما اختتام مرحلة وجودية فحسب و بداية لمرحلة وجود أخرى لا متناهية الزمن ، و هي الحياة المُثْلى التي ينعدم فيها الموت عَدَماً حقيقياً ليحقق الوجود الحقيقي و الكينونة المتعينة اللانهائية للإنسان. فالإنسان لم يخلق للفناء أو العدم بل للبقاء و الخلود ، فالموت في الإسلام ليس عدماً بل وجود خلقه الله إلى جانب الحياة ليؤدي مهمة فاعلة وظيفية : ( هو الذي خلق الموت و الحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً). و هذا الموت تجربة ذاتية لكن يعايشها الإنسان في الإسلام معايشة دائمة و مستمرة يومياً : (الله يتوفى الأنفس حين موتها و التي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت و يرسل الأخرى إلى أجل مسمى) الزمر/42. و تتعدد صور الموت في الإسلام ما بين موتٍ وظيفيّ متجدد متكرر ، و ما بين موت وظيفي محدد. فالموت الوظيفي المتكرر هو ما أشارت إليه سورة الزمر ممثلاً في الوفاة بالنوم. أما الوظيفي المحدد فهو موتتان محددتان تعقبهما حياتان إحداهما محدودة قصيرة و الأخرى غير محدودة : (أمتَّنا اثنتين و أحييتنا اثنتين) غافر/11. هي الحياة الدنيا التي ينجح الإنسان فيها إن عاشها (كأنك غريب أو عابر سبيل) لأنها ممر . أما الثانية فهي الحياة الحقيقية الدائمة : ( وما هذه الحياة إلا لهْو ولعب وإنّ الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون ) العنكبوت / 64. ويأتي التأكيد الإسلامي على تجاور الموت والحياة وتحايثهما كموجودين منذ بدء خَلْق الوجود ، ولذلك ليس بغريب أن الوجود والحياة قد بدأت بالموت والعدم :( كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يُحْييكم ثم إليه تُرجعون ) البقرة /28. ولذلك يفتقد الموت لدى الصوفية أية صيغٍ من المرارات أو التخوفات من المجهول ؛ لأنه بمثابة إذن الولوج إلى لقاء المحبوب الأعظم : ( مَن أَحبَّ اللهَ أحبَّ لقاءه ، ومَن كرِه لقاء الله كره لقاءه ) رواه الشيخان في باب من أحب لقاء الله. كاتب المقال : عميد كلية دار العلوم بجامعة القاهرة سابقاً