ما قيمة بقاء الدولة إذا انعدمت وظيفتها؟ لا جدال أن "الدولة" أهم منجزات الإنسان في العمران البشري، وهي أفضل شكل للتجمع، يحمي حقوق الناس ويوفر لهم الأمان ويسهل تفاصيلهم الحياتية، وبديلها الفوضى واللاأمن وكثير من الكوارث، وهو حال عدد من البلدان المحيطة التي سقطت فيها الدولة. ومصر استطاعت أن تنقذ نفسها من هذا المصير، فبقيت الدولة واستمرت أجهزتها قائمة، لكنه بقاء على مستوى القمة والحدود، أما في العمق لا أثر لوجودها كراعية لمواطنيها أو حامية لحقوقهم، ومحافظة على كرامتهم ومسهلة لشئونهم، بل العكس أصبح واقعا، فهناك دولة سلطوية غاشمة، تبدو منشغلة بإنشاء المباني الفخمة والمشاريع التي تقول أنها كبرى، وعلى الجانب الأخر فإن الفوضى السائدة في الشارع، وغياب القانون والفساد المنتشر في الأجهزة يؤكد غيابها، لنصبح أمام ازدواجية تتمثل في حكم قمعي ودولة رخوة. على منوال التناقض؛ نجدها تفرض ضرائب تنافس أكثر الدول رأسمالية، وفي الوقت نفسه تحول بين الرعية وبين شئون الحكم بما يتفوق على أعتى النظم الاستبدادية، إنها نموذج فريد يجمع من كل نظام أسوأ ما فيه، نموذج لا حضور فيه إلا للسلطة وغياب تام للشعب، بدعوى أنها تدرك مالا يدركه، وتفعل ما يجب فعله. لكن الواقع أنها تتحرك لخدمة فئة وفي أفضل الأحوال شعب لا علاقة له بالموجود الآن، شعب آخر تعمل على تشكيله، شعب تختار هي سماته وتحدد صفاته، شعب ذو مقاييس بعينها تسعى لفرضها بالتتابع لتصل للشكل المطلوب للمواطن الصالح، وللشعب الذي يجب أن يكون. ولحين إتمام هذه العملية، فهي تترك الشعب الحالي ليتولى كل منهم إدارة ومواجهة شئون حياته وتدبر أمر يومه، يتشاجر أو يتحايل، يدور في الفراغ أو في الدوائر المغلقة، يصارع من أجل الحصول على أي حق، تتركه للصراع في قلب الفوضى، وأمامه إما محاولة النفاد منها أو الانغماس فيها. لنجد أن الدولة تتخلى عن أهم وظائفها المفترضة تجاه مواطنيها، ولا تعرف من قيم الدول إلا السيطرة والقمع وفرض ما تريد بقوة الأمر الواقع، إنها الدولة السيد التي تملك كل شيء، والمواطن فيها مجرد مستأجر مؤقت، وعليه أن يُظهر حسن السير والسلوك وإلا يفقد صلاحية عقد الإيجار. إنه نموذج فريد لدولة تجاوزت دور "الفتوة" الذي يقبض مقابل الحماية والأمان، فهي تفرض على المواطن أن يدفع صاغرا مجبرا كل ما تفرضه من رسوم وتكاليف ومصاريف، ويتبرع بما تبقى لديه، دون أن يقترن ذلك بالحفاظ على إقامة العدل والقانون، لتظهر ك"بلطجي" يستولي على ما يملكه الناس ولا يمنحهم شيئا في المقابل، وإمعانا في القهر تتفنن في تعذيبهم مع كل خطوة منذ الاستيقاظ حتى المنام. وكما على المعتدى عليه ألا يعكر صفو البلطجي وألا يتذمر أو يشتكي، ولا يلمزه قولا ولا فكرا، كذلك الأمر بالنسبة للمواطن عليه أن يتحمل مقابل العيش في إطار دولة، فالخوف من سقوطها أصبح السيف المسلط على الرقاب، وباسمه يتم العصف بالحقوق والحريات وبكل قيمة وقاعدة. في حين أن عدم قيام الدولة بوظيفتها تجاه جميع مواطنيها هو عين السقوط، فليس أخطر على كيانها من اختصارها في نظام حاكم يعتقد أنه المالك الوحيد لكل شيء، نظام "الاحتكار" الذي يتصرف كأنه يمتلك الأرض بمن عليها، وحده يختار ووحده يقرر، وعلى الجميع ألا يكتفوا بالقبول، بل أن يهتفوا ممتنين "نموت نموت وتحيا الحكومة" حتى وإن غابت الدولة أو تخلت عن أداء أدوارها.