في ظروف مرتبكة على الساحتين الداخلية والخارجية، قدم وزير خارجية السودان، إبراهيم الغندور، استقالته، وقبلها الرئيس عمر البشير، وعين وزير الخارجية السابق، والسفير الحالي في بروكسيل، مطرف صديق النميري خلفا له. مصادر إعلامية، قالت إن الغندور قدم استقالته من منصبه الأسبوع الماضي، من دون أن يوضح السبب، وكشفت المصادر أن الوزير المستقيل شكا في خطاب الاستقالة من تعرضه إلى مضايقات وتدخل مباشر في عمله من قيادات في الدولة تمارس مهمات مشابهة، في إشارة إلى إسناد البشير ملف العلاقات مع مجموعة دول «البريكس» التي تضم الصينوروسيا والهند والبرازيل وجنوب إفريقيا، وكذلك ملف العلاقات مع تركيا إلى مساعده، عوض الجاز. لا يمكن فصل الاستقالة عن سياق الأحداث الداخلية والخارجية التي تعصف بالسودان، ورغم أن منصب الغندور خارجي، لكنه جزء من منظومة وزارية تتأثر بالوضع الداخلي أيضًا، فالنظام السوداني يواجه ثورات ارتفاع أسعار الخبز، ويتعامل مع المتظاهرين بغازات مسيلة للدموع، والضرب بالهراوات. الاحتجاجات في السودان بدأت تفرز دعوات للإطاحة بالحكومة، حيث شن زعيم حزب الأمة القومي المعارض في السودان، الصادق المهدي، هجوما عنيفا على السلطات الحكومية لقمعها احتجاجات سلمية بالقوة أمس الأربعاء، قائلا إن المعارضة ستعبر بالوسائل السلمية عن رأيها حتى إقامة نظام حكم جديد في السودان. وأعلنت قوى المعارضة توحدها لإسقاط النظام، الأمر الذي قد يربك الحكومة خلال الأيام المقبلة، خاصة أن السلطات السودانية بدأت توسيع الفجوة مع المعارضة، حيث تزامنت استقالة الغندور مع اعتقال قوات الأمن، مختار الخطيب، زعيم الحزب الشيوعي المعارض، عقب تنظيمه احتجاجات على خلفية رفع أسعار الخبز. وإضافة إلى الوضع الداخلي المعقد، تبدو الأوضاع الخارجية أكثر تعقيدًا، الأمر الذي يربك أي موظف يتولى منصب الخارجية، خاصة أن الدبلوماسية السودانية أصابها ارتباك على مستوى التحالفات الدولية والإقليمية؛ فالعلاقة مع واشنطن غير محددة، فرغم أن الولاياتالمتحدة رفعت في أكتوبر الماضي، العقوبات الاقتصادية التي تفرضها على السودان منذ العام 1997، إلا أنها لا تزال تبقيه على لائحة الدول الراعية للإرهاب. وبقاء السودان على قائمة الإرهاب الدولية، يعني استمرار الحظر على مبيعات السلاح، والسلع مزدوجة الاستخدام، والمساعدات الاقتصادية، وقيود مالية تتضمن عدم استفادته من مبادرة إعفاء الديون، التعاطي الأمريكي بهذه الطريقة مع الخرطوم، دفع البشير للتوجه إلى روسيا وعرض عليها قواعد عسكرية في السودان، وليس معروفًا ما إذا كانت الخطوة نالت قبول الغندور أم لا، خاصة أنه مهندس صفقة رفع العقوبات الأمريكية عن السودان. وإقليميًا، لا تبدو علاقات السودان مع حلفائه الجدد كالسعودية والإمارات في أحسن أحوالها، رغم التماهي السوداني مع السعودية، من خلال قطع العلاقات مع إيران، على خلفية توتر العلاقة بين الرياض وطهران بعد إعدام الشيخ السعودي نمر النمر، كما أن عربون الصداقة السوداني للسعودية لم يتوقف عند هذا الحد، بل أرسل البشير جنوده للمشاركة في العدوان السعودي على اليمن، لكن اتجهت الخرطوم مؤخرا لخصوم السعودية في المنطقة مثل قطر وتركيا، حيث تشكل الأخيرة الداعم العسكري للدوحة ضد الرياض في الأزمة الخليجية، وتوجه السودان لتركيا ومنحها موطئ قدم على البحر الأحمر، قد يأتي في إطار الرد السوداني على اعتراف السعودية بمصرية حلايب وشلاتين في اتفاقية تيران وصنافير. وتأتي استقالة الغندور أيضا، في ذروة الأزمة السودانية مع أريتريا ومصر، ومن ورائهما الإمارات، بعد اتهامات الخرطوم للقاهرة وأسمرة بتحركات عسكرية في منطقة "ساوا" المتاخمة لولاية "كسلا" شرقي السودان، وذكر الإمارات كداعم لمصر وأريتريا، يعقد العلاقة بين أبوظبيوالخرطوم، خاصة أن الأولى لا يروق لها تقارب البشير من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ذو الخلفية الإخوانية، التي تعاديها أبوظبي. الخلاف الأكبر كان مع القاهرة التي تختلف مع السودان في ملفات كثيرة كسد النهضة وحلايب وشلاتين، ومؤخرًا شهدت الدبلوماسية فتورًا وصل حد استدعاء الخرطوم سفيرها وقيل إن السحب للتشاور، وحتى الآن لم يعاود السفير السوداني نشاطه في القاهرة، وليس من المعروف ما إذا كانت استقالة الغندور من المنصب لها علاقة بمصر، خاصة أن أطراف سودانية كانت تأخذ عليه سعيه للطرق الدبلوماسية كالتوجه للأمم المتحدة لحل الخلافات مع القاهرة. الوزير السوداني الجديد أيضا، يحمل تاريخًا متوترًا مع مصر؛ ففي عام 2012، كشفت وثائق مسربة لموقع "ويكيليكس"، أن النميري كان من بين المتورطين في عملية محاولة اغتيال الرئيس المصري المخلوع، حسني مبارك، في أديس أبابا، الأمر الذي يطرح تساؤلًا فيما إذا كان التغير يأتي في إطار التصعيد مع مصر، خاصة أن السودان صعدت من لهجتها العسكرية مع القاهرة، قائلة إن جيشها على أهبة الجهوزية على الحدود. ويرى مراقبون أن التصعيد السوداني مع مصر يخدم مصالح البشير، فالتصعيد قد يمكنه من تصدير أزماته الداخلية إلى الخارج، ما من شأنه التخفيف من حدة الاحتجاجات السودانية.