في ميزان القوى السياسية لا تمتلك واشنطن في الوقت الراهن مقومات الدولة النافذة في منطقة الشرق الأوسط على وجه الخصوص، فموسكو تمكنت بفعالية من استقطاب قوى فاعلة في المنطقة لمحورها، من خلال الشراكة والمنفعة المتبادلة وتقاطعات المصالح، وليس من خلال القوة وفرض الهيمنة على سياسة هذه الدول كما تفعل واشنطن مع حلفائها في المنطقة. من بين هذه الدول التي استطاعت روسيا جذبها لمحورها، على الرغم من أنها عضو أساسي في حلف شمال الأطلسي ذو القيادة الأمريكية، تركيا، فالعلاقات بين موسكووأنقرة شهدت في الآونة الأخيرة تقاربًا كبيرًا بين البلدين وعلى جميع المستويات السياسية والاقتصادية والعسكرية، فقد بدا واضحًا أن اللقاء الروسي التركي في «سوتشي»، والذي اختتم بالأمس، قد تم تخصيص الجانب الأكبر منه لاستكمال تطبيع العلاقات بين البلدين، حيث عادت العلاقات الروسية التركية إلى طبيعتها بشكل تام، فلم يتردد الرئيسان الروسي، «فلاديمير بوتين»، والتركي «رجب طيب أردوغان»، في إعلان هذا الأمر بما له من أبعاد تتصل بالمصالح المشتركة بين البلدين، وبحراكهما في الأزمة السورية، إذ أفاد «أردوغان» أن العلاقات السياسية والاقتصادية بدأت بالتحسن، معربًا عن امتنانه من رفع جزء كبير من الحظر المفروض على قطاع الزراعة والتأشيرات منذ مدة. وفي سياق العلاقات الاقتصادية أيضًا جدد «أردوغان» التأكيد على أن بلاده تهدف إلى بلوغ حجم التجارة مع روسيا إلى 100 مليار دولار، مشيرًا إلى أن البلدين أزالا قسمًا كبيرًا من العوائق التي تقف حائلاً أمام تحقيق هذا الهدف. وتتويجًا للبعد الاستراتيجي الاقتصادي بين البلدين، تزامنت زيارة «أردوغان» لروسيا مع إعلان لشركة «غازبروم» الروسية أنها أنهت بنجاح المرحلة الأولى من مشروع الغاز الاستراتيجي «السيل التركي»، إذ أكملت أعمال مد المقطع البحري من خطي أنابيب نقل الغاز في المنطقة الاقتصادية الروسية. البعد الاقتصادي دائمًا ما يعطي مؤشرات عن قرب وبعد العلاقات الدبلوماسية بين الدول، ولكن بين أنقرةوموسكو في الوقت الراهن سياسات مشتركة لا تنظر إليها واشنطن بعين الرضا، فواشنطن والتي شاب علاقتها مع تركيا العديد من التوترات وليس آخرها أزمة التأشيرات بين البلدين، استقبلت تصريحات «أردوغان» يوم الاثنين الماضي، والتي قال فيها «إن الدول التي تعتقد حقًّا أن الحل العسكري غير ممكن في سوريا عليها أن تسحب قواتها» على مضض، فصحيح أن «أردوغان» طالب موسكووواشنطن بالانسحاب من سوريا، إلا أن التلميح الأكبر كان موجهًا لواشنطن، فروسيا أوضحت وبحضور «أردوغان» ضرورة الحل السياسي في سوريا، وفي الأساس راهنت روسيا على الحل السياسي لحل الأزمة السورية، بينما راهنت الولاياتالمتحدة وحلفاؤها الخليجيون على الحلول العسكرية، وبالأمس قال الرئيس الروسي بخصوص الحل السياسي في سوريا «نحن متوافقان إزاء تكثيف الجهود لضمان استقرار طويل الأمد في سوريا، يمهد قبل كل شيء لدفع عملية التسوية السياسية قدمًا»، وأضاف «بوتين» أن ما تقوم به بلاده مع تركيا وإيران يؤتي نتائج ملموسة في سوريا، ويهيئ الظروف لحوار، مشددًا على أن موسكو ستواصل العمل مع تركيا للمساعدة في حل الأزمة السورية. وعلى جميع الأحوال هناك تمايز واضح في السياسية المتبعة في سوريا بين موسكووأنقرة من جهة وواشنطن من جهة أخرى، حيث استطاعت روسيا فرض نفسها خلال السنوات الأخيرة كلاعب دولي أساسي على مسارح الشرق الأوسط وجبهاته، عبر اختراقها الاستراتيجي في سوريا. أما أنقرة من حيث تدري فقد فرضت عليها التطورات الميدانية والسياسية في سوريا التقارب مع موسكو، خاصة أن إقدام تركيا على خطوات في سوريا والعراق، وعلى رأسها عملية «درع الفرات» لحماية أمنها القومي، كان له دور في اتخاذ الولاياتالمتحدة قرارات معينة ضد أنقرة، فالتحركات التركية أفشلت مخططات ومؤامرات عديدة تستهدف المنطقة برمتّها، ومن حيث لا تدري، فأنقرة تتحرك في سوريا آخذة في عين الاعتبار بتحركات الأكراد في الشمال السوري، وهذه النقطة بالتحديد وضعتها في مواجهة غير مباشرة مع واشنطن، فالخطر الكردي على تركيا دفع أنقرة إلى تحالفات مع موسكو وطهران. وجاءت هذه التحالفات على شكل مناطق خفض التوتر بمحافظة إدلب السورية، ونشر قوات مراقبة فيها، والعمل على اجتماع «آستانة»، الأمر الذي أفشل المخطط الأمريكي القاضي بالتدخل بالمحافظة من خلال «بي واي دي» الكردية؛ بحجة محاربة عناصر تنظيم القاعدة، وهمش دور أمريكا من خلال نوافذها في «فيينا» و«جنيف»، ما انعكس بالسلب على العلاقات الثنائية بين واشنطنوأنقرة. فتركيا كانت قد خيّرت واشنطن بين التعاطي معها أو التعاطي مع الأكراد على مستوى تحرير الرقة وغيرها، إلا أن واشنطن فضّلت دعم الأكراد، الأمر الذي أغضب تركيا، ودفعها للتقارب مع موسكو وطهران. أما الملف الثاني الذي يعتبر مؤشرًا للتوتر في علاقة أنقرةوواشنطن فهو اعتزام تركيا استيراد صواريخ «إس-400» الروسية للدفاع الجوي، حيث أعلنت تركيا استكمال شراء المنظومة الصاروخية، فعلى الرغم من أن وزير الدفاع الأمريكي «جيمس ماتيس» اعتبر بالأمس أن حصول تركيا على صواريخ «إس-400» الروسية قرار سيادي، ويعني أنقرة وحدها، لكنه لم يخف تحفظه على القرار التركي، مشيرًا إلى اختلاف معايير استخدام الصواريخ الروسية عن مثيلاتها لدى الناتو، الأمر الذي قد يخلق الكثير من العراقيل في تنسيق النشاط العسكري المشترك بين تركيا والحلف في استخدام منظومات الدفاع الجوي المشتركة. وفي ظل هذا التوتر يبقى هناك ملف غامض حول التوتر بين أنقرةوواشنطن، وهو الانقلاب الفاشل ضد «أردوغان» صيف العام الماضي، حيث تدور الأحاديث عن أصابع أمريكية خفية خلف هذا الانقلاب، وفضلًا عن ذلك ما زالت واشنطن حتى الساعة غير مقنعة بضرورة تسليم الداعية التركية فتح الله جولن، والذي يقيم على أراضيها، للسلطات التركية، التي تتهمه بأنه وراء هذا الانقلاب. ويرى مراقبون أن هذه العوامل تشير بوضوح إلى أن أنقرة باتت أقرب من أي وقت مضى لموسكو منها إلى واشنطن، وهو الأمر الذي يطرح العديد من التساؤلات حول مستقبل العلاقة بين أمريكاوتركيا كحليفين في الناتو.