نشر موقع صحيفة "بروجيكت سنديكيت" تقريرا يسلط الضوء على التغيرات الهيكلية التي حدثت في اقتصاديات العالم وتأثير دخول التكنولوجيات الجديدة على سوق العمل والوظائف. وأشار التقرير، الذي أعده مانويل مونيز، زميل بارز في مركز بيلفر للعلوم والشؤون الدولية بجامعة هارفارد، إلى أن النمو الاقتصادي لم يعد كافيا مع غياب عدالة التوزيع وأنه لابد من معالجة الفصل الذي حدث بين الإنتاجية والأجور. ونص التقرير على أن بيانات الاقتصادات المتقدمة في العالم يمكن أن تكون غامضة عندما ينظر إليها بمعزل عن غيرها، لكن عند تحليلها بشكل جماعي، تكشف عن حقيقة مقلقة، أن تحقيق النمو الاقتصادي ليس كافيا، وأنه بدون تغييرات في طرق إنتاج وتوزيع الثروة، سوف تتفاقم التشنجات السياسية التي اجتاحت العالم في السنوات الأخيرة. على سبيل المثال، بالنظر إلى الأجور والعمالة في الولاياتالمتحدة والعديد من الدول الأوروبية، فإن متوسط الرواتب في حالة ركود، رغم أن معظم الاقتصادات تعافت من الأزمة المالية عام 2008 من حيث الناتج المحلي الإجمالي ونمو الوظائف. وعلاوة على ذلك، لم تؤدِ الزيادة في معدل التوظيف إلى تباطؤ أو تراجع الانخفاض في حصة الأجور من إجمالي الدخل القومي، بل على العكس، فإن معظم الثروة التي تولدت منذ أزمة 2008 ذهبت إلى الأثرياء، وهذا يفسر انخفاض معدلات الاستهلاك وفشل السياسات النقدية المتدهورة للغاية في تقليل التضخم. ويبدو أيضا، أن عملية خلق فرص العمل، أينما حدثت، اتبعت مسارا مختلفا عما يشير إليه التاريخ، فعلى سبيل المثال، ارتفاع معدلات التشغيل كان معظمه في المهن ذات المهارات العالية جدا أو المتدنية جدا، وبالتالي، كثير من الناس الذين كانوا يشكلون الطبقة الوسطى الغربية، الآن جزء من الطبقات المتوسطة الدنيا والأدنى، ويعيشون حياة أكثر خطورة من الناحية الاقتصادية من أي وقت مضى. على المستوى الكلي، زادت إنتاجية الولاياتالمتحدة الإجمالية بأكثر من 250٪ منذ أوائل السبعينات، في حين ظلت الأجور بالساعة راكدة، ويعني ذلك، أن نمو الناتج الإجمالي لم يتركز فقط في نطاق مجموعة ضيقة من الشركات، بل أيضا حدث انفصال بين الإنتاجية والأجور. والنتيجة الأساسية لذلك، أن الأجور لم تعد تؤدي الدور المركزي لإعادة التوزيع الذي لعبته على مدى عقود، فالمكاسب في إنتاجية رأس المال لم تعد تُترجم إلى متوسط دخل أعلى، وهو خرق للعقد الاجتماعي الذي استقرت عليه الاقتصادات الليبرالية. وينبغي أن يكون واضحا الآن أن العديد من اقتصادات العالم تمر بشكل من أشكال التغيير الهيكلي، وفي أعقاب ذلك التغيير، فإن مثلث توزيع "فرص العمل والإنتاجية والدخل" أصبح أعوجا، وأدى هذا التحول إلى تآكل الطبقة الوسطى الغربية وظهور البريكارية، وهي طبقة اجتماعية اقتصادية جديدة تضم ليس فقط الذين لا يستطيعون العثور على وظيفة، لكن من يضطرون إلى العمل بشكل غير رسمي أو مؤقت أو غير آمن على نحو ما. ولدينا الآن أدلة وفيرة تربط بين مفهوم انعدام الأمن الاقتصادي في الغرب ومشاعر معاداة النخبة، والتطرف السياسي، والهجمات على الأقليات، ومن المستحيل تفسير الارتفاع الأخير للسياسة الشعبوية دون النظر في آثار هذه الأمراض الاقتصادية على العمال في الولاياتالمتحدة وأوروبا. ولفهم سبب حدوث هذه الاتجاهات والانحرافات عن المسارات الاقتصادية المتوقعة، لابد ألا ننظر بعيدا عن تأثير التكنولوجيات الجديدة على سوق العمل والوظائف، حيث مكنت التكنولوجيات المتقدمة، خاصة الحوسبة المتقدمة والروبوتات، الشركات من تحقيق مكاسب في الإنتاجية دون زيادة مقابلة في الأجور، فالثروة الأكبر الناجمة عن زيادة الإنتاجية تذهب بدلا من ذلك إلى أصحاب تلك التكنولوجيات. كما أن أتمتة الوظائف البشرية (التشغيل الآلي) على نحو متزايد أدى إلى استقطاب سوق العمل وتغيير متطلباته وما يتبقى هو المهام التي يصعب على الآلي تنفيذها، إما التي تتطلب مهارة ضئيلة أو معدومة أو التي تتطلب مهارات عالية جدا. والأمر يقودنا إلى المسألة الرئيسية في عصرنا: كيف يمكن للقادة معالجة العوامل الخارجية الناجمة عن التغير التكنولوجي السريع، وبالتالي ضمان الاستدامة الاقتصادية والسياسية؟ بعبارة أخرى، كيف يمكننا بناء عقد اجتماعي جديد لهذا العصر الرقمي؟ التركيز على دفع الإصلاحات الهيكلية وتصميم سياسات اقتصادية تستهدف حصر زيادة الإنتاجية من شأنه أن يجبر العمال الغربيين على التنافس مع التكنولوجيا إلى حد أكبر، ما يزيد من حدة هشاشة الأوضاع، وبينما تسفر ترتيباتنا الاقتصادية الحالية عن نمو على المستوى الكلي، فإنها تسفر في الوقت ذاته عن خفض مستوى معيشة معظم الناس. المناقشات حول الحلول بدأت للتو، وسيتطلب تقليص هذا التفاوت الاقتصادي إصلاحات في نظامي التعليم والضرائب، مع تحويل العبء الضريبي بشكل حاسم من العمالة إلى رأس المال، وستحتاج البلدان الغربية أيضا إلى إنشاء آليات جديدة لإعادة التوزيع لتكملة الدور المنحدر للأجور في اقتصادياتها ومعالجة الفصل الذي حدث بين الإنتاجية والأجور. وتشكل البيانات مسألة مهمة لمثل هذه الإصلاحات، إذا كان القادة الغربيين يريدون احتواء التشنجات السياسية التي تعاني منها بلدانهم، وفي نهاية المطاف قمعها، ليس لديهم خيار سوى الرد عن طريق صياغة نماذج نمو جديدة وشاملة. المقال من المصدر: اضغط هنا