النمو الاقتصادي وسيلة وليس هدفا في حد ذاته حيث ان نموا عاليا ومستمرا لفترة زمنية ممتدة هو السبيل لتحقيق قفزة في مستوي الدخل للمواطنين بما يتيح القضاء علي الفقر وايضا لزيادة الفرص امام الشعب ليكون اكثر انتاجية وابداعا, وكذلك ضمان حياة أفضل للأجيال القادمة, وهو ليس شأنا اقتصاديا بحتا, فالنمو الاقتصادي يتأتي دائما بالتوازي مع الحكم الرشيد وتحديث المؤسسات السياسية والتشريعية والرقابية. لكن كيف تحقق الدول مستويات مرتفعة من النمو ومنخفضة من الفقر؟ ردا علي هذا التساؤل قام نوبل الاقتصاد مايكل سبنس برصد تجارب13 دولة من بين180 دولة نامية شملتها دراسته- حققت نموا عاليا للناتج الاجمالي بمتوسط7% سنويا ولمدة25 سنة متصلة واستخدمها كمقياس لتحليل عناصر استدامة النمو المرتفع في الدول النامية, وبناء عليه يمكن استخلاص المعطيات الآتية: أولا, النمو في تلك الدول تحقق من خلال تطبيقات العلم والتكنولوجيا في الانتاج واللوجستيات والاتصالات وفي تطوير الادارة والمنظمات والحصول علي المعرفة الجديدة المتوافرة في الدول المتقدمة. والاعتماد علي رأس المال البشري في توليد الثروة وتغيير هيكلي في النظم السياسية والاقتصادية يتيح الانتشار الاستراتيجي للأصول البشرية والمعرفية. وذلك تعدي معدلات الاستثمار نسبة25% سنويا من الناتج الاجمالي, وبينما يمثل الاستثمار الخاص في الدول ال13 المحرك الأساسي للنمو وتوفير فرص عمل جديدة فأن حكومات هذه الدول كان لها دور جوهري في الاستثمار في قطاعات ذات عائد اجتماعي لايتجه اليها القطاع الخاص واهمها التعليم والبنية الاساسية المساندة للنمو( الاستثمار العام في حدود5 الي7% سنويا من الناتج الاجمالي). ثانيا, تتحقق الاستثمارت المرتفعة سواء من القطاعين الخاص أو العام من خلال الادخار الوطني بمرادفيه الحكومي والخاص. فلقد اثبتت تجارب التنمية ان تمويل الاستثمار محليا من خلال مدخرات وطنية هو الأفضل والأأمن, ولاتقبل حجة مستوي الفقر, فالادخار في الهند علي سبيل المثال يزيد عن25% من الناتج الاجمالي وفي الصين عن35%! ومن الضروري وجود دور فعال للحكومة في تخفيف الاجراءات البيروقراطية المتعلقة بالتصاريح وفي التعريفة الجمركية المنتقاة وفي الاعفاءات الضريبية المبررة والمؤقتة وفي التعامل الضريبي مع الممولين وفي ضوابط قانون العمل لصالح طرفي العملية الانتاجية وفي إرساء قواعد المنافسة العادلة وفي التوازن والتفاعل الصحي بين العام والخاص. ثالثا, ادارة العملة الوطنية عبر استخدام ضوابط علي تدفقات الأموال الخارجة والداخلة والتدخل في أسواق العملة للحد من مخاطر تذبذب سعر الصرف وإعطاء أهمية كبري للاحتياطي النقدي بهدف إحداث التوازن المطلوب في أسعار الصرف, علاوة علي احتفاظ الدولة بنصيب مهم في البنوك والمؤسسات المالية. كما أن الدخل والثروة تحددهما مستويات الإنتاجية الكلية, والمزايا النسبية ليست ثابتة, فالصادرات مثلا التي تعتمد في فترة بداية النمو علي رخص وكثافة العمالة تصبح غير قادرة علي المنافسة عندما تزداد الاجور كثمرة للنمو بما يحتم تغييرا هيكليا مستمرا في نوعية الصناعات والخدمات في كل مرحلة من مراحل النمو, فالصناعات التنافسية التي كانت يوما ما مصدرا للتوظيف الانتاجي تندثر جدواها مع الوقت ويجب ان تتبدل, وبالتالي فإنه لخطأ استراتيجي فادح محاولة حماية العاملين من خلال حماية الوظائف في المؤسسات فاقدة التنافسية, فحماية العاملين الحقيقية تتأتي من خلال مساندتهم أثناء فترات البطالة وإعادة تدريبهم وتأهيلهم للوظائف الجديدة وتقديم الدعم الكامل لهم( الخدمات الاساسية الصحية والتعليمية). رابعا, ديناميكية النمو تتحقق مع الانفتاح علي الاقتصاد الدولي, ولكن اذا كان الانفتاح للمنافسة الدولية سيتسبب في القضاء علي الوظائف بمعدل أسرع مما يوفرها, أي أن المحصلة سلبية بالنسبة للوظائف وفرص العمل فان استراتيجية النمو ستفقد التأييد وتحدث مشكلة سياسية وعليه يجب ادارة وتنظيم عملية الانفتاح بشكل يرجح كفة إيجاد الوظائف. تبقي زاويتان تفرضان نفسيهما علي نمط النمو الذي نريده لمصر, الاولي تتعلق بترشيد الطاقة والمياه حيث إن معدلات عالية من النمو ستتطلب استخدمات أعلي في هذة العناصر, ولقد بدأت بالفعل معظم الاقتصادات الناشئة في الغاء الدعم علي الطاقة وتصبح نتيجة لذلك البدائل الأخري لمصادر الطاقة اكثر جدوي اقتصاديا وعلي الحكومة ان تضع الخطط والسياسات للاسراع في تحقيق هذا الهدف والاقلال من انبعاثات الكربون التي تتواكب مع تنمية مستدامة تحافظ علي البيئة والموارد الطبيعية التي هي ملك الاجيال القادمة, أما الزاوية الثانية فتتعلق بتوسيع منافع النمو فلايمكن ترك مواطنيون خارج دائرة فرص النمو وكما يلزم ان تكون هناك حدود للفجوة بين الدخول وآليات تسمح بإعادة عادلة لتوزيع الثروة الناجمة عن النمو. إن الوصول إلي هدف النمو العالي والمستدام من حيث موقعنا الآن ليس بالأمر السهل, فالنخبة السياسية والفكرية ونخبة الأعمال فقدت مصداقيتها لدي الناس, وترك فقدان الثقة في النخب فراغا يمتليء حاليا بالمواجهات السياسية التي تفتقر الأهداف المشتركة, وعليه فإن بناء أجندة وطنية براجماتية بمدخل توافقي سيأخذ بعض الوقت والجهد ولكنه مهم. المزيد من مقالات شريف دولار