يتطلب تحقيق طفرة اقتصادية تنعكس آثارها على مستويات معيشة المواطنين فى مصر، أن ترتفع معدلات الاستثمار بشكل ملموس عن مستواها فى السنوات الاخيرة، لتمّكن الاقتصاد من النمو بنسبة لا تقل عن 7% سنويا، وبشكل متواصل، خلال الخمسة عشر عاما القادمة. مى قابيل تلقى بالضوء على إمكانيات تحقيق هذه الطفرة، خاصة فى ضوء المعوقات التى أضافتها الأزمة المالية. بدأ التركيز على كيفية توزيع آثار النمو الاقتصادى يتزايد فى مصر فى الآونة الأخيرة، وهو ما انتقده جمال مبارك، أمين عام مساعد وأمين سياسات الحزب الوطنى الحاكم، معتبرا أن الجدل السياسى الدائر حول ثمار النمو يغفل قضية الحفاظ على النمو نفسه، وضمان استمراره لمدد طويلة، والتى تحقق فى النهاية وصول الثمار لعدد أكبر من المواطنين، وذلك فى تصريحات له يوم الأحد الماضى فى ختام مؤتمر السياسات الاجتماعية المتكاملة، الذى نظمته وزارة التضامن الاجتماعى. ومع ذلك تشير الخبرات الدولية إلى عدم التلازم بين تحقق النمو الاقتصادى وتحسين نوعية الحياة للمواطنين، وهو ما أدى لمراجعة كثير من الأفكار الخاصة بالتنمية على مستوى العالم، حيث يقتضى الأمر وجود سياسات مكملة تضمن توزيع ثمار النمو، خاصة من خلال زيادة فرص العمل فى المجتمع. ويتطلب النمو المستدام فى مصر، والذى يضمن توفير فرص عمل كافية، عددا من الخطوات، على رأسها رفع معدلات الاستثمار، فرغم زيادة الاستثمارات فى مصر خلال السنوات الأربع الماضية، 2004 إلى 2008، إلا أن نسبة الاسثمار إلى إجمالى الناتج المحلى لم تتعد 19% فى المتوسط خلال هذه الفترة، بينما يتطلب النمو المستدام استثمارا لا تقل نسبته عن 25% من الناتج المحلى، وهو ما يساعد على تحقيق معدل نمو اقتصادى سنوى يصل إلى 7%، لمدة تتراوح بين 10 و15 سنة متصلة، تبعا لما توافق عليه أعضاء مجلس أمناء هيئة الاستثمار فى تقرير رسمى، نشر مؤخرا، يحلل أثر الاستثمار على الاقتصاد المصرى. وتسترشد هذه الرؤية بتجارب النمور الآسيوية وبعض دول أمريكا اللاتينية، التى اعتمدت تجاربها التنموية على تحقيق نمو اقتصادى متواصل لعشر سنوات على الأقل بنسب استثمار تتراوح بين 24 و28% من ناتجها المحلى الإجمالى، كما يقول سمير رضوان، مستشار هيئة الاستثمار وأحد مؤلفى التقرير. وقد اتفق بعض الخبراء على أن هذه المعادلة تحقق بالفعل طفرة اقتصادية بشرط توجيه الاستثمارات للقطاعات الاقتصادية الأكثر توفيرا لفرص العمل، إلا أن الضربات التى وجهتها الأزمة العالمية لحركة الاستثمارات الأجنبية فى العالم تضع قيودا على تحقيق مثل هذا التصور، خاصة مع تراجع معدلات الادخار فى مصر، بالإضافة لتزايد نسب البطالة نتيجة انعكاسات الأزمة. القطاع الخاص قادر ولكن.. وتقول نهال المغربل، خبير بالمركز المصرى للدراسات الاقتصادية، إن الأزمة المالية العالمية قد أثرت على خطط الاستثمار فى مصر، حيث بدأت نسب البطالة بالفعل فى التزايد، ولكن من المتوقع أن يصبح هذا التصور لزيادة الاستثمارات ممكنا بعد أن تنفرج الازمة، «خاصة أن الاصلاحات التى تمت خلال السنوات الماضية قد حمت الأوضاع الاقتصادية من التدهور بشكل كبير». وتقول المغربل إن زيادة معدلات الاستثمار كانت متحققة بالفعل، «حيث تم تطوير مناخ الأعمال وتنظيم وتبسيط القواعد والإجراءات الخاصة به»، وهو ما سيسهل اجتذاب الاقتصاد للمزيد من الاستثمارات الأجنبية بعد الأزمة، «خاصة مع التقديرات الجيدة التى نالتها مصر على الصعيد العالمى باعتبار أن مناخ الأعمال فيها حفظها نسبيا من التقلبات العنيفة التى شهدها العالم»، فى رأى المغربل، إلا أن الوصول بمعدل الاستثمار السنوى إلى نحو 25% من الناتج المحلى الإجمالى يتطلب تحفيز الادخار لتوفير مصدر محلى لتمويل الاستثمار بجانب رءوس الأموال الأجنبية. ويتطلب هذا التحفيز إعادة النظر فى سياسة أسعار الفائدة من جانب، وتوعية المواطنين بزيادة تعاملاتهم مع البنوك من الجانب آخر، ولجوئهم للادخار فيها. وترى المغربل أن القطاع الخاص قادر على تحقيق تلك الطفرة فى معدلات الاستثمار خاصة إذا قدمت له الدولة حوافز تتعلق باستهداف بعض المناطق الجغرافية لتحقيق توزيع أفضل للاستثمارات، على أن تكون تلك المزايا مؤقتة تنتهى بانتهاء الغرض منها. لكنها تستبعد اللجوء لتقديم حوافز مرتبطة بقطاعات إنتاجية معينة، لضمان توجيه الاستثمارات للمجالات الأكثر توفيرا لفرص العمل، إذ تعتبر أن تحسين قوانين العمل، وتقليل الالتزامات على المستثمر، بالإضافة لرفع مستوى مهارات العمال وتدريبهم، عوامل كافية لتوجيه القطاع الخاص إلى المجالات كثيفة استخدام العمال لأنها ستصبح مربحة. بينما يقول مجدى صبحى، الخبير بمركز الدراسات الاستراتيجية بالأهرام، إن تحقيق هذه الطفرة يتطلب وضع استراتيجية واضحة للقطاعات المطلوب تنميتها، والتى تملك الدولة فيها ميزة نسبية، وتوجيه القطاع الخاص إليها، كما فعلت العديد من الدول الصاعدة مثل كوريا الجنوبية، معتبرا أن هذه الاستراتيجية يجب تركز بشكل أكبر على الصناعة باعتبارها الأكثر قدرة على تفير فرص العمل، بينما لن تضيف السياحة على سبيل المثال الكثير رغم قدرتها على استيعاب العمالة لأنه قد تم الاستثمار فيها بكثرة بالفعل فى السنوات الماضية. الادخار.. الادخار المعوقات التى تعترض رفع الاستثمارات بالمعدل المطلوب متنوعة. فبعضها يتعلق بالأزمة المالية العالمية وما خلفته من آثار على الاقتصاد المصرى، وبعضها سابق على الأزمة، ويتعلق بالفكر الاستثمارى السائد. فقد أدت الأزمة العالمية إلى تدهور معدلات تدفق الاستثمار الأجنبى إلى مصر، لتنخفض من نحو 13 مليار دولار فى العام المالى 2007 /2008 إلى 5.5 مليار فى العام المالى 2008 /2009، المنتهى فى يونيو الماضى، حسب التقديرات الحكومية المبدئية. ومن جهة أخرى حدث تراجع فى معدلات الادخار المحلية على خلفية تراجع سعر الفائدة، أخذا فى الاعتبار أن معدلات الادخار فى مصر معروفة بانخفاضها مقارنة بالمعدلات العالمية. ويساهم كل من العاملين فى تعويق تنفيذ مخطط رفع نسب الاستثمار فى الوقت الحالى، تبعا لمجدى صبحى، ليتراجع نصيب الاستثمارات من الناتج المحلى الإجمالى إلى ما دون ال19% التى حققها فى المتوسط خلال السنوات الأربع الماضية، بدلا من رفعه. وقد كان معدل النمو الاقتصادى الاستثنائى الذى حققته مصر فى السنتين السابقتين للأزمة مرتبطا تماما بزيادة تدفقات الاستثمارات الأجنبية، والتى ارتبطت بشكل أساسى بوجود وفرة مالية فى دول الخليج، كما يقول مجدى صبحى، نتيجة للفوائض المتحققة من الارتفاع المتواصل فى أسعار النفط العالمية فى تلك الفترة، وهو ما انعكس على هيكل الاستثمارات الأجنبية التى أتى جانب كبير منها من الإمارات والسعودية، فيما تمثل فى دخول شركة اتصالات الإماراتية للسوق المصرية، بالإضافة لشركات مثل داماك وإعمار اللتين اقتحمتا السوق العقارية. كذلك فإن توجيه الاستثمار بشكل أكبر لهدف زيادة التشغيل وتقليص البطالة بما يحقق توزيعا أفضل لثمار النمو على المواطنين يعوقه تزايد معدلات البطالة بالفعل منذ بداية الأزمة، وعودة الاستثمارات الأجنبية للتركز فى قطاعات البترول والغاز، خلال العامين الماليين 2008 /2009 و2009 /2010، كما يقول صبحى، وهى المجالات الأقل تشغيلا للعمالة. النمو وحده لا يكفى ورغم أن النمو الاقتصادى يعتبر شرطا أساسيا لتحسين مستوى معيشة المواطنين والتخفيف من حدة الفقر، إلا أنه لا يكفى وحده لتحقيق هذه الأهداف، وإنما يتطلب إجراءات وسياسات لتتم ترجمته إلى تغيير ملموس فى قدرة الاقتصاد على توفير فرص العمل، حيث «أظهرت التجارب الدولية أن النمو الفعال يقترن بارتفاع نسب التشغيل باعتبارها الوسيلة الفعالة والكفء لتوزيع ثمار النمو»، وهو ما لم يتحقق بعد بالقدر المطلوب فى مصر، حيث بلغ متوسط نمو الناتج المحلى الإجمالى خلال الفترة من 1990 إلى 2005 حوالى 4.2% بينما لم يتجاوز معدل نمو التشغيل (توفير فرص العمل) 2.6%، كما يقول تقرير هيئة الاستثمار. ويظهر توزيع الاستثمارات على القطاعات الاقتصادية المختلفة وعلاقتها بمسألة التشغيل وجود مشكلة فى الأولويات، فرغم أن قطاع الصناعة والتعدين على سبيل المثال لديه أعلى قدرة على التشغيل بين القطاعات المختلفة للاقتصاد فإن نصيبه من إجمالى الاستثمارات الحكومية والخاصة لم يتجاوز 12.2% (فى ما بين العامين الماليين 2002 /2003 و2006 /2007) مقابل 28% لقطاع البترول والكهرباء و26.5% لقطاع الخدمات الاجتماعية، و26.5% للخدمات الإنتاجية، وهى قطاعات محدودة القدرة نسبيا على التشغيل. ويوضح التقرير أن كثافة التشغيل ليست المعيار الوحيد لتوجيه الاستثمارات، حيث يعد قطاع البترول والطاقة من القطاعات التى لا تحتاج أيدى عاملة كثيرة، إلا أن ذلك «لا يقلل من أهمية الاستثمار فيه، حيث يوفر الطاقة للمجتمع ويسهم فى زيادة الصادرات»، وإن كانت زيادة الاستثمار فى قطاع الصناعة والتعدين تعد ضرورة لزيادة كل من التشغيل والنمو، حيث يساهم القطاع الصناعى بأعلى نسبة فى نمو الناتج المحلى رغم انخفاض الاستثمارات به مقارنة بغيره.